تقول سجالات الأيام الماضية حول السماح باحتفال الأكراد بعيد النيروز أو منعهم من ذلك في مناطق عفرين، الواقعة تحت سيطرة القوات التركية والفصائل السورية المسلّحة الموالية لها، أشياء كثيرة عن واقع المسألة الكردية في الإطار السوري الحالي، وعن واقع هذا الإطار السوري كمجال للتفكير والنقاش السياسي. وتُظهر هذه السجالات مؤشرات مقلقة حول ضعف حيوية إنتاج الأفكار والمنطق واللغة على ساحة المُعارضة السياسية السورية اليوم، دون أن تكفي النقاشات الفكرية والمواقف الأخلاقيّة لكتّاب ومثقفين وناشطين معارضين لموازنة وإصلاح ما يصدر عن الكيانات والمؤسسات السياسية السورية القائمة. ظهرت بيانات وتصريحات من مجالس محلية وقِوى أمر واقع في المنطقة مُعلنة منع الاحتفال، أو مستخدِمة لغة «المخاوف الأمنية» بشأن إمكانية استغلال الاحتفالات والتجمعات لإثارة قلاقل أمنية أو تفجيرات، فيما خرجت تصريحات أخرى مهنّئة بالمناسبة بشكل عمومي، كلّلها بيان المجلس المحلي في عفرين، المنبثق عن قِوى الأمر الواقع المسيطرة على المنطقة، مهنِئاً «شعبنا» في عيد النيروز، «عيد الحرية والأخوّة والمحبة»، وإن مُعلناً استمرار الدوام الرسمي يومي 20 و 21 من الشهر الجاري «بسبب الحاجة الماسّة لإدارة شؤون المواطنين».
في عمق السجالات الأخيرة مؤشرات عديدة عن تعاطٍ فقير سياسياً مع المسألة الكُردية في التعبيرات السياسية للمعارضة السورية، محصور في زاوية خطاب «وحدة الأراضي» وآليات إنتاج «الكردي الجيد»، ومكافحة «النزعات الانفصالية». بعض هذه العناصر وليد السنوات القليلة الأخيرة وتطوّراتها من تحولات داخلية وإقليمية، وظهور قسد وممارساتها؛ وبعضها الآخر ناتج عن تراكمات سنوات طويلة. وقد جاءت فصولها الأخيرة، الأقسى، مع تبلور التحوّل الداخلي التركي تجاه المسألة الكردية في تركيا، وانهيار العملية السياسية مع حزب العمال الكردستاني، ومع تحوّل المقاربة التركية للمسألة السورية سياسياً باتجاه التعاطي معها من منظور الأمن القومي التركي حصراً، المهجوس بمنع تبلور استقلالية كردية ما على الجانب السوري من الحدود بأي شكلٍ من الأشكال. وقد تكللت هذه الاستراتيجية التركية بدخول عفرين عسكرياً قبل نحو عامٍ من الآن، في عملية عسكرية ارتُكبت خلالها وبعدها أعمال انتهاك ونهب وتحطيم وإذلال. لقد بنت المقاربة التركية ما بعد 2016 أُطراً عسكرية-سياسية من أجزاء من الكتائب المسلّحة ومن بقايا الكيانات السياسية المُعارضة، منضوية تماماً ضمن استراتيجية الأمن القومي التركي. جزءٌ من هذا الانضواء آتٍ من فقه الممكن والمُتاح في سياق البحث عن أيّ حصانة، من أي نوع، ضد التوغّل الأسدي- الروسي، فيما جزء آخر لا يكفّ عن التعبير عن سعادته بالالتحاق بالمقاربة التركية، لدرجة تحويل الأمن القومي التركي إلى هويّة ذاتية وعقيدة قتالية، نجد صداها في تبنّي قسم كبير من فصائل «درع الفرات» و«غصن الزيتون» لغةً ومنطقاً وشعارات ورموز ضيّقة وموتورة، تشبه أعتى تمثّلات حزب الحركة القوميّة التركيّة، أكثر حتى من شبهها بالذخر الذي جعل حزب العدالة والتنمية شعبياً في السياقين العربي والإسلامي خلال العقد ونصف الماضيين.
انفصاليون
أين الغريب في أن يكون هناك في سوريا انفصاليون؟ أو أن يكون هناك، ضمن الحركة السياسية الكردية في المنطقة، تيارات لها طموحات استقلالية؟ قد نتفق سياسياً أو لا، ونرفض أو نتوجس أو ندعو للمناهضة. لكن ما لا يمكن فعله هو إخراج النزعات الانفصالية من سياقها الطبيعي كمواقف سياسية طبيعية الظهور في سياقنا التاريخي، ونزع السياسة والمشروعية، بل والإنسانية، عنها، وتحويلها لتهمة تستوجب الحجر، بل والإلغاء.
عدا ذلك، يحصل أن يُختصر الموقف من مجلس وقوات سوريا الديمقراطية، في كونهما، وما سبقهما من تسميات للفرع السوري من حزب العمّال الكردستاني، قوّة «انفصالية»، في اختزال غير مفيد لا سياسياً ولا معرفياً، عدا كونه لا يُعبّر بشكل فعلي عن موقع قسد في إشكاليات المسألتين السورية والكردية السورية. ثمة ممارسات سياسية وعسكرية سيئة لهذه الجهة في ذاكرة الصراع السوري، حيث لعبت دور «معارضة المعارضة» منذ اللحظة الأولى (لدرجة تبنّي صالح مسلم مرويّة النظام حول الهجمة الكيماوية على الغوطة في آب 2013)؛ مروراً بتعاطٍ استغلالي في تحالفات ضمنية مع الحرب الأسدية للتوسّع واحتلال مناطق جديدة، مثل تل رفعت؛ وصولاً لدور المغرور بكونه الحليف المحلّي للتحالف الدولي ضد داعش، واستغلال هذا الأمر للتمدد وإلغاء الخصوم وإنكار أهلية وتضحيات أهل المناطق العربية في الجزيرة السورية في سياق الحرب ضد داعش، ثم السيطرة الستالينية داخل الساحة السياسية الكردية، وضمن الساحة السورية عموماً حيث سيطروا.
مُراجعة التعاطي القسدي مع الثورة السورية، إذاً، تدفع لوجود أسباب كثيرة لاعتبارها جهة مُعادية لها عداءً مبدئياً وسياسياً، لكن تحويل الأمر لشأن هوياتي يخصّ «انفصاليتها» هو أمر غير بنّاء سياسياً، ويؤدي غالباً لنتائج جانبية كارثية. ليست النزعة الانفصالياً شأناً جوهرانياً غير سياسي كي يتمّ التعامل معها على طريقة الولاء والبراء، كما أن قسد ليست أكثر انفصالية من جهات سياسية كرديّة أخرى، المجلس الوطني الكردي، تُعادى بدرجة أقل بحكم خطابها الأقوى ضد النظام الأسدي؛ ولا هي أكثر «خارجية» من خِطاب إلحاق القضية السورية بمنطق الأمن القومي التركي، على ما فعل بيان جماعة الإخوان المسلمين مؤخراً. ثمة أسباب للعداء لقسد أهم بكثير من «انفصاليتها»، كما أن التركيز على هذه النزعة الانفصالية المُفترضة وتصنيمها يدفع حتماً لمسح الفروقات بين التعاطي مع الذات السياسية الكُردية، بكافة تلوينات تعبيرها عن نفسها، والعداء لهذا الكيان القسدي المرفوض بالكامل، لأن أي تعبير استقلالي كُردي سيصبح «قسدياً» بسهولة بالغة، مثلما كلّ تعبير معادٍ لقسد، حسب منطقها، إسلاموي أو داعشي أو عميل لتركيا. ثمة حاجة أساسية للدفاع عن تعبير الذات السياسية الكردية عن نفسها ورفض آليات إنتاج «الكردي الجيّد».
«الجيدون»
في مناطق سيطرتها، لا تتوقّف قسد عن إنتاج وعرض تصويرات لـ «عربي جيّد» ما، هو كائن مُعقّم سياسياً، وإن فاقع المشهدية هوياتياً، هو غالباً ذكرٌ يلبس كمشايخ العشائر، بشاربين كثيفين، ويشارك بشكل صامت وجامد في شبكة المجالس والمكاتب والكيانات المحلّية، ويحضر المهرجانات الخطابية والفعاليات الجماهيرية، وإن تحدّث فسيتحدّث بلسان حزب العمال الكردستاني وهواجسه وشعاراته وقضاياه. لا ذات عربية ولا مطالب ولا مظالم ولا ضمانات من أي نوع. ولا سياسة، خطاباً أو فعلاً، إذ أن ظهور أي تمايز سياسي عربي في مناطق قسد هو حكماً «إسلاموي» الأفق، أو «عميل لتركيا»، أو «داعشي»، أو «قابل للدعشنة».
لكن هذه ليست ممارسة قسد وحدها، فُمجريات السنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ الدخول التركي المباشر في سوريا، تُرينا أن الكيانات السياسية والعسكرية المُعارضة السورية لم تتوقّف عن استخدام استراتيجية «الكردي الجيّد» في تعاطيها مع الشأن الكردي: محاولة إنتاج ذات كُردية لا سياسية، خافتة الصوت حتماً، ولا مطالب مُعقّدة لها، وبالإمكان إدخالها في منطق تأجيلي أبدي، أو حصر طاولة التعاطي معها ضمن اعتبار «المسألة الكردية» عبارة عن موضوع لغوي وفلكلوري- ثقافي مُبستر، دون مشروع سياسي أو مطامح يجب الاعتراف بوجودها أولاً، ودون المسايسة معها والعمل على إيجاد مساحات التقاء أو استنباط بُنى فكرية وسياسية تسمح بمجادلة تنتج أفكاراً وأطراً جديدة للتعايش الندّي.
والواقع أن آليات إنتاج «آخر جيّد» هي أفقر أدوات العمل السياسي خيالاً وسِعة صدر، وأقلها أخلاقية، وأكثرها عقماً على مستوى إنتاج الممكنات السياسية الكريمة بالحد الأدنى. هي فعل سلطوي، قمعي، مبني على تشكيك وطعن ونزع شرعية دائمين من هذا الآخر، بما في ذلك «آخرون» قد يقبلون في لحظة ما بمُسايسة هذه الآلية حسب منطقها، ومحاولة إقناعها مرحلياً أنهم «جيدون»، إذ سينتهون حتماً إلى تمايز مطلبي يؤدي إلى تشريرهم في لحظة ما وإلغائهم، أو قد تتحوّل هزيمتهم إلى هويّتهم، أي أن يصيروا «كارهين لأنفسهم» بشكل أو بآخر، لا حقوق ولا حرّيات لهم، بل مجرد مساحات، عبارة عن «مكرُمات» تكبر أو تتقلّص تبعاً لإرادة السلطة وحساباتها، وهذا ما تفعله فصائل الأمر الواقع في عفرين حين «تسمح» أو «تمنع» أكراد المنطقة من الاحتفال بنيروزهم على أرضهم . ثمة أمثلة كثيرة في التاريخ وفي العالم على سوء هذه الآليات، وترينا أنها -في العمق- ستُنتج حتماً قمعاً وعنفاً، وإبادة قد لا تتوقف عند الإبادة السياسية، بل تنتقل نحو آليات الإلغاء والتهجير والمسح.
لا يعني هذا الأمر حبس جميع الأكراد ولا جميع العرب في ذات سياسية واحدة، فلكل الأفراد والجماعات حقّهم المصان في ممارسة ذواتهم وسياساتهم كما يشاؤون، لكنه رفضٌ لأن تُقرر جهة ما من هو «الآخر الجيد» الذي تستخدمه لتهنئة نفسها على عظمتها، فيه الكثير من منطق «الخصم والقاضي». ليس من الخلاّق ولا الأخلاقي أن تقرر أنت ماهيّة وشكل «الآخر»، وفي حال امتلاكك السلطة والقوّة المتفوقتين على هذا الآخر، يُصبح أي نقاش من قِبلك حول من هو «الآخر الجيّد» عبارة عن استعمار.
في الحالة الكردية، من الخطيئة البحث عن «كردي جيد»، غير «انفصالي»، مهجوس بمقارعة قسد أكثر من أيّ قضية أخرى، منزوع المطالب السياسية أو خافِتُها في سياق خِطاب مُعارض سوري ذي بعد أكثري عربي. لأسباب تاريخية معقّدة، ابتُليت ساحة النقاش السياسي السوري المُعارض بشعارات ومسلّمات طاردة للسياسة وغير ودودة مع الاختلاف، ولم يكن أكثرها ناتجاً عن سوء نية مسبق، لكن استمرارها يدلّ على فقر خيال وأدوات مقلق. ولم يكن «الكردي الجيد» بأسلوبه الحالي أحدها تاريخياً، فقد كانت المعارضة السياسية السورية أكثر وُدّاً تجاه التمايز الكردي في أوائل الألفية مما يظهر الآن من تعبيرات الكيانات السياسية السورية، لكن تغليب المنطق الائتلافي، الدافع دوماً نحو كبت الخِلافات من أجل «التجمّع» كان قطعاً عاملَ تعطيل للنقاش والخيال والابتكار السياسي في حقل السياسة المُعارضة. و«الكردي الجيّد» السائد اليوم هو إنتاج تركي أساساً، لكن مقدماته آتية جزئياً من هذا الهوس الائتلافي، مثل «العلماني» غير المزعج للإسلاميين، أو النساء الراضيات بالكووتات الهامشية، والإسلامي «المعتدل». وإذ يبدو أن الاقتصار على المنطق الائتلافي كأسلوب وحيد ممكن للسياسة المعارِضة قد تكسّر في السنوات الأخيرة مع تعقّد التباينات مع الإسلاميين، دون أن يعني ذلك ظهور باراديغمات سورية جديدة للعمل والتفكير السياسيين، إلا أن جملة من الشعارات والمنطلقات تحتاج هي الأخرى لتحوّلات عميقة.
وفي سياق نقاش المسألة الكردية، وإن كان الشعار لا يخصّها وحدها، يهمّنا التفكير ملياً بـ «وحدة الأراضي السورية»، كشعار ومنطلق صالح للعمل السياسي.
أين المشكلة في «وحدة الأراضي السورية»؟
لعلّ عبارة «وحدة الأراضي السورية» هي الأكثر تكراراً في البيانات والتصريحات السياسية حول سوريا، داخلياً وخارجياً، خلال السنوات الأخيرة. وهنا أولى مشاكلها: لقد باتت مكرورة، ودارجة على ألسنة أطراف متباينة، إلى درجة أنها لم تعد تعني شيئاً محدداً، رغم ثقل وطأتها وما يبدو أنه قوّة عزمها. نسمع «وحدة الأراضي السورية» من النظام -طبعاً-، ومن الروس والإيرانيين (الذين يلحقونها دوماً بضرورة إجلاء القوات الأجنبية)، ومن الأتراك، ومن الأميركيين والأوروبيين، ومن مختلف جهات المعارضة السورية، ويمكن أن نسمعها من قسد نفسها أيضاً. يمكن لكلّ جهة أن تطرحه من زاوية منطقها وفي وجه أعدائها. تعني استعادة النظام سيطرته على كامل البلد، وتعني أيضاً تعميم النموذج القسدي، وتعني مواجهة قسد ضمن منظومة الأمن القومي التركي، وتعني نقطة التقاء لفظي في لقاءات أستانا، وتعني تصريحات لسيناتور أميركي ما في زيارة للمنطقة.
وقبل الاستعمالات المتعددة والمتضاربة، ليس لكلمة «وحدة» وقع إيجابي في تاريخ الممارسة السياسية السورية، ففيها حتماً إلغاء تمايزات في وجه أمور أكثر أهمية وجذرية وإلحاحاً، وفيها نبرة حربيّة لا يمكن التهرّب منها. تبدو «نقطة انتهى» لنقاش ما، بدل أن تكون مفتاحاً للسجال وحاضنة للسياسة واختلاف وجهات نظر. كما لا تنسجم مع انفتاحٍ لأفكار جديدة ومقاربات مختلفة عن «رصّ الصفوف».
لكنّ الأخطر في مقولة «وحدة الأراضي السورية» أنها وحدها لا تعني شيئاً ديمقراطياً أو تحررياً أو ضامناً لأيّ حقوق وحرّيات، بل يسهل تصوّرها كتبرير لقمع الاختلاف وللتعبير السياسي الذي قد يُرى خطراً على هذه «الوحدة» حسب القيّمين عليها، وغالباً دون أن يُضطروا لتبرير أنفسهم. كما أنها، في السياق السوري الحالي، تمييزية بالتعريف ضدّ الأكراد، فالكردي السياسي، وفقاً لهذا المنطق، يبدأ أيّ نقاش سياسي من موقع أصعب، كونه مُطالب بإثبات تمسّكه بوحدة الأراضي السورية، وهو أمر لا يحيلُ الشعار إلى المطالبة به عربياً، إذ أن العربي بالتعريف «وحدوي».
هل يعني رفض منطق «وحدة الأراضي السورية» دعوةً للتقسيم، أو تسويغاً للنزعات الانفصالية؟ في الواقع، بالإمكان المساجلة بعكس ذلك: المُرافعة عن سوريا ممكنة وكريمة للجميع يمرّ بالضرورة عبر تحطيم قفل «وحدة الأراضي السورية»، والدفاع عن منظور آخر، تعددي ومساواتي وديمقراطي مفتوح، تُخاض فيه النقاشات وتُدار فيه الصراعات السياسية وفق أُسس أكثر عدالة وديمقراطية، وقطعاً أقل موتوريّة وهوساً بامتحان النوايا المسبقة.
الكيان السوري الحالي، وعمره قرنٌ واحد عملياً، فتيٌّ عمراً، ويُعاني منذ ولادته من قلق في إطاره التكويني، وعلاقة شائكة مع الطريقة التي وُلد فيها، ومع تركيبته الأهلية والاجتماعية-الاقتصادية، وعلاقته مع الجوار وقوى الإقليم، ولم يُتَح له في عقود تشكّله الأولى خلق مناخ نقاش وعمل سياسيين، ضمن شروط الندّية والأمان والاستقرار، لإدارة تناقضاته التأسيسية، والتناقضات التي أتت لاحقاً. فوق ذلك، تتلقى سوريا العام المقبل العزاء على الذكرى الخمسين لوقوعها تحت القبضة الأسدية. أي، عملياً، نصف عمر هذا البلد كبلد. وقد عاش هذا البلد عقداً أخيراً رهيباً، طافحاً بالمجازر والتهجير والتحطيم ردّاً على ثورة السوريين من أجل الإمساك بمصيرهم وفتح مجالهم العام للسياسة والمنافسة والصِراع. سوريا تهرول لتلتحق بذاتها منذ نشأتها، ثم وقعت حبيسة، ثم حُطِّمت.
«سوريا بدها عبوطة»، هو شعار سياسي بامتياز، تحت طبقات كونه شعاراً فائق العاطفية، صار لاحقاً إلى «ميم» ساخر. سوريا تحتاج لضرب من الحنان حقاً، وأول هذا الحنان هو ملؤها بالناس، بدل كونها فكرة كيانية مُجرّدة من البشر، تحتاج دوماً لسدَنة «يدافعون عن وحدتها» ويكافحون «النعرات» وينكرون تباينات وفروقات طبيعية واعتيادية بين الناس ليس فقط قومية وإثنية ودينية، بل أيضاً ريف-مدينية، أو طبقية، أو مركز-أطراف. يبدو سدنة سوريا الغضوبون دوماً مستعدين لقمع أي نقاش من هذا النوع لأنه «نعرة»، ولأنه تفريق بين السوريين. وفوق ثقل ظلّ أي سادن غضوب بالتعريف، يُضاف إلى ذلك اليوم فداحة وجود سدنة غضوبين يزاودون باسم الوطنية السورية في سياق الالتحاق بسياسات الأمن القومي التركي، أو «عودة الفرع إلى أصله»، حسب التعبير الفيسبوكي لزهير سالم، الناطق السابق باسم جماعة الإخوان المسلمين في سوريا.
من العملي التفكير بمقاربة أكثر إيجابية وديمقراطية ومساواة عند التفكير في سوريا الممكنة، كوسيلة للتعاطي السياسي، غير المتشنّج ولا المتبرئ، مع النزعات الانفصالية ومع أي نقاش سياسي جوهري ضمن تناقضات هذا البلد، بدل ترك خِطاب «وحدة الأراضي السورية» والشعارات المتفرعة عنه وسدنَته على سجيّتهم، ذلك أن ضيق أفقهم ومنطقهم الابتزازي والامتحاني المستمر هو إنتاج لسوريا ضاغطة وقامعة وصامتة لا تُطاق، هو بناء معمل انفصاليين بين الأكراد وغير الأكراد، بل إن هكذا منطق مغلق وخانق ونافٍ للناس وتبايناتهم يمكن له، إن تُرك ليأخذ مداه، أن يُنتج انفصاليين حتى في قلب أحياء دمشق المركزية.
سوريا مليئة بالناس المختلفين هي سوريا يمكن المرافعة عن كونها ممكنة، غير مُستعصية سياسياً وكيانياً، وغير متهيّبة من النقاش السياسي وتنافس الطروحات والبحث عن الممكنات المشتركة، دون اللجوء لإخراس أحد أو ابتزازه. ولو أعيد تكوين هذا البلد بشكل ديمقراطي ومساواتي، فلن يكون هذا دون مشاكل وصعوبات وتناقضات واستعصاءات وأزمات، لكنه سيكون قطعاً أكثر عدالة من أيّ كيانات إثنية أو قومية أو دينية يمكن أن تنشأ على أنقاضه، كيانات تقتضي حتماً ضروباً من التهجير والإبادة. قد يُقال عن هذا الكلام إنه شديد الطوباوية، وقد يكون كذلك حتماً، لكنه ليس أكثر «افتراضية» من «وحدة الأراضي السورية» كممكن سياسي ديمقراطي لا يستبعد أحداً ولا يظلم أحداً، أو حتى كممكن استبدادي قادر على بسط حد أدنى من السِلم الاجتماعي. لقد تحطّمنا في السنوات الأخيرة، ولم نعد في مشهد التأثير والقرار مع التدويل الشديد للمسألة السورية وكل المسائل المتعلقة بها، وهذا بحد ذاته سبب أساسي للدفاع عن ضرورة الإفلات من قيود وأَقفال وتهيّبات الراهن والماضي، وتشغيل الخيال السياسي للبحث عن تمايزات ضرورية، ولغات وباراديغمات ورموز، وحتى طوباويات جديدة. هذا طريق طويل، وقد لا يصل إلى نهايات كاملة، فبعض الاستعصاءات والتناقضات تدوم وتبقى، كما يحصل في أيّ بلد «طبيعي».
لكن أول الطريق الطويل، خطوته الأولى، ألّا نضطر لخوض بديهية من طراز أن الأكراد لا يحتاجون إذناً من أحد كي يكونوا أكراداً كما يريدون، وحيثما يريدون، وخاصة في عفرين.