منذ أن سال الدم في درعا في مثل هذا اليوم من عام 2011، بدأ الخوف والصمت العميم الذي يحكم حياة السوريين بالتداعي والتبعثر قطعاً، وبدا أن مملكة الأبد الأسدية توشك على أن تواجه نهايتها المحتومة. ثم راح النظام يشتغل بلا هوادة على إعادة بناء حكمه، على زرع الخوف في قلوب وعقول جميع من يسكنون الأرض السورية، وإعادة هندسة وتصميم شبكة المنافع والولاءات وتوزيع العطايا، التي تحطمت وتغيرت معالمها كثيراً خلال سنوات الثورة والحرب.

يريد النظام أن يستعيد كل شيء فقده، الأرض وهيمنته على أهلها وحياتهم وذاكرتهم واحتمالات مستقبلهم، احتكار السلطة والثروة والقول والشرعية، والتماثيل والصور المنصوبة في كل مكان، لتكون علامة على السطوة والحضور المهيمن فوق كل شيء. ويعرف النظام أنه لا يستطيع توجيه بنادقه إلى رؤوس السوريين جميعاً إلى الأبد، لأن هذا سيعني أنه لم ينجز المهمة، التي لا تكتمل ما لم يرجع سكان البلاد إلى سعيهم المحموم لمواصلة العيش، وتدوير عجلة المال التي يغرف منها هو ومحاسيبه بغير حساب. ينبغي أن تستريح البنادق والدبابات والطائرات ومنصات الصواريخ ومرابض المدفعية في ثكناتها، وأن تحتفظ في الوقت نفسه بحضورها الطاغي كما لو أنها ملقمة وجاهزة للإطلاق. بهذا فقط ينتصر النظام.

لكن الاحتجاجات المتجددة في درعا وريفها تُعلن بإيجاز شديد البلاغة أن النظام لم ينجح في إنجاز المهمة؛ لم يعد نظام الأسد قادراً على إخضاع السكان دون توجيه البنادق إلى رؤوسهم مباشرة، وعن قرب؛ وفي كل فرصة تكون فيها البنادق بعيدة قليلاًعن الرؤوس، ستتعالى أصوات بعضهم مطالبة برحيل هذا النظام.

كانت روسيا تسعى إلى حسم سريع لمعركة الجنوب السوري صيف العام الماضي، وإلى جانب الغارات الجوية التدميرية التي مسحت أحياء وقرى عن ظهر الأرض، استخدمت بقوة ورقة التسويات، وقدمت وعوداً وضمانات بأن أفرع النظام الأمنية لن تستبيح مدن وبلدات وقرى درعا والقنيطرة المتمردة؛ وتلاقى هذا مع إرادة إقليمية ودولية بإغلاق ملف الجنوب السوري سريعاً، ضماناً لأمن القوات الإسرائيلية التي تحتل الجولان السوري المتاخم للمنطقة، وضماناً لأمن الأردن الذي تقع درعا على حدوده. وقد عبّرت تلك الإرادة عن نفسها من خلال إغلاق الحدود الأردنية بشكل كامل، وقطع الدعم عن فصائل المعارضة في درعا، ونزوع عدد من قادة هذه الفصائل إلى خيار عقد التسوية الشاملة، التي تتيح لهم الاحتفاظ ببعض سلطتهم، وتتيح بقاء أعداد كبيرة من مقاتلي الفصائل في مناطقهم، محتفظين بسلاحهم الفردي، ومتخلين عن سلاحهم الثقيل.

تلاقى هذا أيضاً مع رغبة شرائح واسعة من أبناء درعا بالبقاء في بيوتهم، رغم ما يحمله هذا من مخاطرة، بدل التوجه إلى الشمال السوري الذي بات مزدحماً بمئات آلاف المهجرين والنازحين، والذي لا يبدو المستقبل فيه أكثر وضوحاً وأماناً. وهكذا تضافرت العوامل كلها لتؤدي إلى بقاء معظم الأهالي وأعداد كبيرة من مسلحي المعارضة وناشطيها في مدن وبلدات وقرى سهل حوران؛ ليس ثمة إحصائية دقيقة، لكن عدد المقيمين في مناطق الجنوب السوري الخارجة عن سيطرة النظام كان يبلغ نحو تسعمئة ألف شخص، موزعين على مناطق من محافظتي درعا والقنيطرة، فيما لا يتجاوز عدد الذين تم تهجيرهم إلى الشمال السوري ثلاثة عشر ألف شخص. هكذا بقيت النسبة العظمى من السكان في بيوتهم، ويبدو واضحاً أن ضمانتهم الرئيسية لم تكن الوعود الروسية أو تعهدات النظام، بقدر ما كانت بقاء معظمهم، ومعهم الآلاف من أبنائهم المسلحين، الذي قاتلوا النظام طويلاً خلال السنوات الماضية.

تنوعت أشكال التسويات وظروف سيطرة النظام على مناطق الجنوب السوري، فانتشر النظام في بعض القرى والبلدات التي دخلها حرباً بعد تدمير أجزاء منها بالطيران والمدفعية، وأقام الحواجز على الطرقات ومداخل بلدات وقرى أخرى انضمّت إلى مشروع التسوية قبل أن تصلها عجلة التدمير الشامل، فلم يتمكن من دخولها بشكل فعلي بحيث يتمكن من إحكام قبضته على أهلها وأبنائهم، لتكون النتيجة أن هناك مساحات وشوارع وأزقة لا تطالها أيدي عناصر النظام، فيما تنتشر الشرطة العسكرية الروسية كضامن في مناطق عدة، تحاول منع انزلاق الأمور إلى مواجهات واسعة جديدة، رغبة من روسيا في تنفيذ تعهداتها للدول المعنية، على وجه الخصوص الأردن وإسرائيل القريبتين، ورغبة منها أيضاً في تقديم نموذج عن قدرتها على إدارة الأوضاع في البلاد.

من هذه المساحات والأزقة والشوارع، خرج أبناء درعا مراراً خلال الأشهر الماضية، كتبوا شعارات مناهضة للأسد على الجدران، على كل جدار طالته إيديهم، بما في ذلك جدران مفارز الأجهزة الأمنية والمراكز الحكومية. ومن هذه المساحات أيضاً خرج شبان مسلحون، يقاومون ضغط النظام لإجبار القرى والبلدات على الخضوع الكامل وتسليم أبنائها للخدمة العسكرية في جيش النظام، فنصبوا الكمائن وهاجموا المفارز الأمنية، معلنين أنهم لا يزالون هنا.

في ظروف الفوضى هذه، يحاول النظام وحلفاؤه تجنيد هذا وإقصاء ذاك، تعمل إيران بمليشياتها على تجنيد الأتباع والقادة والمقاتلين السابقين، وتحاول روسيا كسب فصائل معارضة سابقة في فيالقها ومشاريعها العسكرية، فيما تتواصل الهجمات والكمائن والاشتباكات الليلية المتفرقة، وتتالى الاغتيالات التي ينفذها مجهولون، وتطال شخصيات متنوعة محسوبة على أطراف واتجاهات متعددة. تبدو الأرض كما لو أنها لا تزال تغلي في حوران، وفي قلب هذا الغليان، يبدو واضحاً أن المجتمع المحلي لم يستسلم بعد، ولم يتم تحطيمه تماماً كما حصل في مناطق أخرى من البلاد، دخلها النظام بعد حصار تجويعي مشدد وطويل، وبعد حروب إبادة وتهجير لم تترك الظروف المرافقة لها هامش مناورة لأبناء تلك المناطق، يستطيعون من خلاله الإبقاء على تواجد محمي بالحد الأدني من بطش النظام ومخابراته.

فوق هذه الفوضى والخراب العميم، رفع النظام تمثال مؤسسه مجدداً في مدينة درعا يوم الثامن آذار 2019، بعد أن كانت تماثيله قد تحطمت وديست بالأقدام عام 2011. لقد أراد أن يرفعه كي يقول إنه استعاد سطوته، لكن هذا كان محركاً لعودة المظاهرات مجدداً، فخرج المئات من أبناء درعا البلد في العاشر من آذار مكررين هتاف السوريين الأغلى والأكثر تعبيراً عن إرادتهم، عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد. ثم تبعتها طفس، ثم الصنمين، ثم داعل، ليبدو أن كثيرين من أولئك الذين تحطمت حياتهم ومات أحبابهم خلال السنوات الماضية، لا يزال فيهم بقية من روح وإرادة حياة، تدفعهم إلى مواصلة المغامرة الدامية.

التمثال الجديد في درعا (من الإنترنت)
التمثال الجديد في درعا (من الإنترنت)

تقول تحليلات كثيرة إن هناك ما هو مشبوه في مجمل حراك درعا المتجدد ضد النظام، سلمياً كان أم مسلحاً؛ ثمة من يقول إنه مدفوع إيرانياً للمشاغبة على مشاريع روسيا؛ وثمة من يقول إنه مدفوع روسياً لتعطيل مشاريع إيران؛ وثمة من يقول إن دوائر في النظام تدفعه كي يخرج المعارضون من مخابئهم، فيسهل حصاد رؤوسهم، ويكون هذا ذريعة لنقض الاتفاقات كلها واقتحام جميع القرى والأحياء والسيطرة عليها مباشرة؛ وثمة من يقول إن الهجمات المسلحة لا تعدو كونها تصفية حسابات؛ وإلى آخر قائمة التحليلات والاحتمالات التي يبدو مستحيلاً التيقن من حقيقتها.

ولكن أياً يكن الأمر، فإن ما يقوله حراك درعا المتجدد هو أن النظام لا يزال عاجزاً عن حكم البلاد دون نشر العساكر وعناصر الأمن المسلحين في كل مكان، ودون أن يكون هؤلاء قادرين على التحرك بحرية مطلقة، ودون مواجهة مقاومة من أي نوع. هذا احتلالٌ عسكريٌ مباشر ومذبحة محتملة في كل وقت، وليس نظاماً سياسياً.

ولا غرابة إذن أن يرفع نظام الأسد تمثال مؤسسه قبل حتى أن يضمن سيطرته، ذلك لأن سيطرته ليست مضمونة بغير هذا التمثال. تمثال حافظ الأسد المحروس بالسلاح هو النظام السوري نفسه، ولم يقل النظام في أي وقت إن لديه مشروعاً آخر غير التماثيل الباردة الحارسة للخوف والموت، وغير خضوع السوريين له خضوع العبيد لأسيادهم.

في الثامن عشر من آذار 2011، استشهد محمود الجوابرة وحسام عياش برصاص عناصر الأمن في مدينة درعا، وكان استشهادهما فاتحة لعهد جديد في سوريا، عهد يناضل فيه السوريون من أجل خلاصهم وحريتهم، عهد لن يستطيع النظام أن يطويه حتى لو نشر جنوده وجنود حلفائه على مدخل كل شارع.

سيعود الجنود إلى ثكناتهم، وستطل إرادة الحياة برأسها من جديد.