في حديقة وسط مدينة القامشلي، افتتح اتحاد المثقفين التابع للإدارة الذاتية مكتبة عامة في شباط الماضي، تضم عشرات العناوين باللغتين العربية والكردية، وتتصدرها أربعة نُصب تذكارية لأربعة من الكتاب والشعراء الكرد، هم جكر خوين وأوصمان صبري وشيركو بيكس وموسى عنتر. وعلى الرغم من ردود الفعل الإيجابية تجاه هذه المبادرة، التي تتيح لجميع السكان قراءة كتب متنوعة، إلا أن اقتصار النُصب التذكارية على شخصيات ثقافية من المكون الكردي، أثار ردود فعل متحفظة.

يقول محمد عبد الستار إبراهيم، وهو روائي وصحفي كردي سوري، إن افتتاح المكتبة بحد ذاته حالة إيجابية، إلّا أنه طالب الجهات المسؤولة بـ «احترام التنوع بشكل عملي، عبر وضع نُصب تذكارية لأدباء ومفكرين وشعراء من كافة مكونات المنطقة، كي لا يبقى التنوع شعاراً معلقاً يُتغنى به فقط»، مؤكداً على ضرورة «دعم كافة المبادرات الثقافية، التي تساهم في نشر الوعي وترغيب الناس بالقراءة».

ومنذ صيف العام 2017، تشهد مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا تزايداً في النشاطات الثقافية، وعلى وجه الخصوص تلك التي تُعنى بالإنتاج الثقافي باللغة الكردية، إذ بدأ الإعلان عن ندوات حوارية ومحاضرات أدبية باللغة الكردية، إضافة للغات السريانية والعربية، وهو ما كان مستحيلاً تحت حكم النظام السوري. كذلك نظمت هيئة الثقافة والفن في الإدارة الذاتية معرضين للكتاب في صالة زانا وسط مدينة لقامشلي في تموز من عامي 2017 و 2018، شارك فيهما عشرون اتحاداً ودار نشر، وحمل أولهما اسم «الشهيد هركول» الذي كان قد فارق الحياة بحادث سير في تموز 2016، بينما حملت الثاني اسم «بالقراءة نحيا».

تقول ليلان جمّال، مسؤولة المكتب الإعلامي في هيئة الثقافة والفن، إن المثقفين الكرد في إقليم الجزيرة تحركوا منذ العام 2011 لإبراز نتاجهم الفكري والثقافي، الذي كان يعاني من الجمود قبل ذلك التاريخ، مشيرة إلى «أنه كان يوجد أنشطة ثقافية خفية بعيدة عن أعين السلطة، بسبب القمع في البلاد وانعدام حرية الرأي والصحافة والإعلام». وتضيف الجمّال أن الإدارة الذاتية سعت إلى تنظيم العمل الثقافي، من خلال إصدار المجلس التشريعي لقانون الحياة الثقافية، الذي اعتبرته «السبب الرئيسي لتنشيط الحراك الثقافي»، والذي بدأ يظهر على شكل أنشطة وفعاليات ثقافية وفنية في العديد من المؤسسات ودور النشر والمكتبات الخاصة، ما لاقى قبولاً واستحساناً من جمهور الكتاب.

تؤكد ليلان جمّال أن الكتابة والقراءة باللغة الكردية كانت بالنسبة للمثقفين الكرد «حلماً تحقق من خلال هذه المعارض والأنشطة»، حيث كان الإقبال كبيراً على الكتب الأدبية والتاريخية باللغة الكردية، ما ساعد على نشر الكتاب الكردي بشكل علني في المكتبات في منطقة الجزيرة، مضيفةً أن «معرض الكتاب كان نقلة نوعية بمشاركة المؤسسات الثقافية ودور النشر من داخل و خارج روج آفا وشمال سوريا، إذ بيع أكثر من 12 ألف كتاب في الدورة الثانية من المعرض مقابل ثلاثة آلاف في الدورة الأولى، وكانت هذه الكتب بلغات متعددة كردية وعربية وسريانية وتركية. ذلك إضافة إلى اللقاءات والمحاضرات اليومية والنقاشات الأدبية والفنية ضمن الطاولة المستديرة، وعرض لوحات تشكيلية خاصة بالمرأة، وقسم خاص عُرضت فيه صور لقوات الأسايش والحماية الشعبية والشهداء».

لكن هناك رأياً آخر يشيع بين عدد من الكتاب الكرد والمهتمين بالشأن الثقافي الكردي، يقول إن هذه المعارض تهدف في الأساس إلى ترسيخ مبادئ وأسس حزب الاتحاد الديمقراطي، مستنداً إلى ما تم عرضه من صور، وكذلك إلى إطلاق اسم عضو في حزب الاتحاد الديمقراطي على المعرض الأول، وهو ما تنفيه ليلان جمّال، التي اعتبرت أن «تكريم كل إنسان مبدع أمرٌ واجب، وأن سبب تسمية المعرض هو الخدمات الجليلة التي قدمها الشهيد حسين شاويش (هركول) في الحقل الثقافي، باعتباره أحد أبرز وجوه الحركة الثقافية في الجزيرة، وله العديد من الدراسات والمؤلفات، كان آخرها كتاب الصندوق الأسود».

من جانبه، يخشى الكاتب محمد عبد الستار إبراهيم من فرض الجهات المسؤولة «عناوين معينة وكتباً تحمل أفكاراً حزبية محددة، رغم التنوع الظاهر» منوهاً إلى ضرورة «عدم منع أي كتاب بمجرد مخالفته لرأي أو نهج الجهات الحاكمة»، وإلى ضرورة «التنويع في الكتب المطروحة»، كما دعا إلى «مراقبة أسعار الكتب، ومراعاة الظروف الاقتصادية التي يمر بها المواطن بشكل عام».

ولم تقتصر الهيئة في نشاطاتها على معرضي الكتاب هذين، بل عمدت إلى إنشاء معرض متنقل في مدن شمال شرق سوريا، يقام لمدة ثلاث أيام في كل مدينة، بهدف إيصال الكتاب إلى أكبر شريحة ممكنة من القراء، وذلك بحسب الجمّال، التي قالت إن أول المعارض المتنقلة أقيم في مدينة المالكية (ديرك) في 22 أيلول 2018، ومن ثم في مدينة رأس العين (سري كانيية) في 29 تشرين الأول 2018، وكانت نهاية المطاف في مدينة الحسكة في 18 تشرين الثاني 2018. وقد شارك في هذه المعارض أكثر من خمسة عشر دار نشر، وبلغ عدد الكتب فيها ما يزيد عن أربعة آلاف كتاب.

ولم تكن النشاطات الثقافية حكراً على مؤسسات الإدارة الذاتية، فقد شهدت المنطقة افتتاح عدة مكتبات، منها مكتبة «مانيسا» في المالكية (ديريك) في شباط 2013، ومكتبتا «أمارة» و«بنداروك» خلال العام 2018 في مدينة القامشلي، في حين يتم التحضير لافتتاح مكتبة أخرى في مدينة عين العرب (كوباني).

«هناك فرق بين نسختي معرض الكتاب في القامشلي، من ناحية المشاركة والتنظيم والخدمات، ومن ناحية العناوين المعروضة»، هكذا بدأ الكاتب وصاحب مكتبة بنداروك عباس موسى حديثه للجمهورية، متابعاً «لقد شاركنا إلى جانب دار التكوين ودار الزمان ومكتبة مانيسا بما يعادل جميع الأجنحة الأخرى، إن لم نقل أكثر، وهذه فرصة أتاحتها لنا إدارة المعرض، لكن حضور الكتاب الكردي كان ضعيفاً في دورته الأولى».

يقول موسى إنه وبعد افتتاح مقهى بنداروك للكتاب عام 2018 بالتعاون مع الكاتب والمترجم عبد الله شيخو، «شاركنا في معرض الكتاب المتنقل الذي تم تنظيمه من قبل الإدارة الذاتية، وكانت مشاركتنا في مدينة رأس العين. وقد استطعنا عرض أكثر من 600 عنوان، نصفها بالكردية، وهو ما شكّل حضوراً قوياً للكتاب الكردي، فبالنسبة لمعرض متنقل في مدينة صغيرة مثل رأس العين، يُعد هذا العدد جيداً».

أما حول ما يتم تداوله في الأوساط الثقافية والإعلامية عن استغلال الإدارة الذاتية هذه المعارض لأغراض سياسية، فقد أكد الكاتب «أن المحاسبة لا تتم بالنوايا»، متابعاً «أنه لم يتم تقييد حضورنا بعرض كتب معينة أو حجب كتب معينة، حتى أنه لم يكن هناك تدقيق ورقابة على الكتب المعروضة. كما أنّ مشاركة دور النشر والمستقلّين كانت أكثر وأكثف من مشاركة مؤسسات الإدارة الذاتية، ولا أعتقد أن عرض كتب عبد الله أوجلان يدخل في هذا الإطار، وكذلك كتابات بولات جان وهركول، بل هي جزء من النتاج الثقافي الكردي».

يقول الموسى «إن واقع الثقافة الكردي اختلف جذرياً بعد العام 2011، وكان لانتشار الكتب الكردية وتوفرها أثر كبير في ذلك الاختلاف»، ويطلعنا أن مكتبته اليوم تضم «أكثر من ألف عنوان باللغة الكردية»، إلّا أنه يرى أن هناك صعوبات تعترض الكتّاب الكرد، فلا تزال المنطقة تحتاج مزيداً من دور النشر والطباعة، وتحتاج حراكاً ثقافياً مؤسساتياً من شأنه دفع عجلة الثقافة إلى الأمام.

حمزة همكي، وهو صحفي مهتم بالشأن الثقافي من مدينة القامشلي، يقول إن «حمل المرء لكتاب ينطق بلسانه، أو وضعه بشكل علني ودون خوف في مكتبته المنزلية، هو شعور لا يقاوم، ولا يعرفه إلا من حرم منه طويلاً»، في إشارة منه لما كان يحدث سابقاً، وكيف كان الكتاب الكردي تهمة بحد ذاته، مضيفاً أنه من الطبيعي أن تحتوي المعارض على كتب لإيديولوجيات حزبية معينة، لأن من بين المشاركين مكتبات ومطابع حزبية، ومن حقهم عرض كتبهم.

أما الكاتب محمد عبد الستار إبراهيم، فهو ينهي كلامه بالقول إن «انتشار الكتب وتنوعها واحدٌ من محددات ثقافة وهوية المجتمعات، ومن مؤشرات هامش الحرية فيها، الأمر الذي ينبغي أن يدعو إلى الامتناع عن اللعب على وتر الثقافة وتجييرها لصالح القوى المسيطرة على الأرض، وإلى إفساح المجال لهذا التنوع الذي من شأنه رفع سوية أفراد المجتمع وثقافتهم».