الفاتحة
«إنّ التشابه للرمال وأنت للأزرق». هذا أول بيت يقفز إلى ذهني حين أحاول أن أتذكّر ما أحفظه من شعر محمود درويش، المتوهّج على قلة ما حفظتُ له وتبعثره في ذاكرتي. أفكر أن «يقفز» هو الفعل المناسب، لأن «الأزرق» قد يوحي بالعلوّ أو العمق، صفتان تطلقان على شعره، وهما أيضاً بقعتان معهودتان للعزلة أو الانتحار، مثل ذرى الجبال أو قيعان البحار. ثمة بالطبع عناوين عديدة، روائية وشعرية، تتألف من لونين: «الأحمر والأسود»، «الأزرق والأحمر»… إلخ، ولهذا تجنبتُ أن أضع «الأزرق والأصفر» عنواناً لهذا المقال. تكاد هذه القراءة الطويلة تكتفي بالوقوف عند ذاك السطر وحده. سأتناوله بشيء من التفصيل، محاولاً الاكتفاء قدر المستطاع بما أتذكّره.
ثمة خطأ لا يُصحَّح. في البداية، كنتُ أظن المخاطب المقصود «وأنت للأزرق» هو «الختيار» أبو عمّار. ربما السبب هو بناطيل الجينز التي كان الفدائيون الفلسطينيون يرتدونها. صحّحتُ نفسي مراراً: «كلا. للمرة الألف أقول لك: هذا هو أحمد الزعتر». لن أبحث عن قصة الشهيد الذي لا أعلم أين استشهد أو كيف. لا أعلم إن كانت شخصية «أحمد العربي» مُتخيّلة، مُستلهَمة من المتنبّي أو النبي محمد حين خذله قومه. كل ما أتذكّره الآن هو وقوع المذبحة في تل الزعتر قبل ولادتي بسنة واحدة. لعل الذكرى نائمة في زاوية ما من عقلي، وإذا استيقظت سحبت معها ذكريات أخرى ليست بالحسبان وستغيّر مجرى حديثي كله. سأنطلق من جهلي بتفاصيل القصة وخلفيتها وأبعادها الواقعية التاريخية والنضالية. سأترك جانباً الإشارات السيميائية التي ربما انبرى إلياس خوري إليها أيام دراسته لقصائد صديقه، حين شرّح «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا». إذا استدركنا الفرزدق أو امرأ القيس، فقد يرتسم هذا العنوان الأخير كذئبٍ ساهم يرشف قهوته، الزرقاءَ لشدّة سوادها، من «خلطة محمود درويش للقهوة» كما يُسمّيها محلّ للبنّ والمكسّرات في جبال عمّان.
لا بدّ من القول إني قد استنرتُ حقاً بنبراس التعريف الذي قاله محمود درويش: «الشعر هو عثور اللاوعي على مفرداته». ولأن البرتقال، الفلسطيني أو الأندلسي، لا يغيب عن شعره، فقد يكون أحد الأسباب البعيدة التي دفعتني إلى هذه القراءة هو كتاب لهنري ميشونيك تطرّق فيه إلى صورة شعرية لدى بول إيلوار هي «الأرض زرقاء كبرتقالة»، قرأته أواخر التسعينيات في مكتبة الأسد في دمشق.
لا أهتدي في انتقاء سطر واحد من الشعر بروح الأنطولوجيات وعبثية مبدئها. سيثير الاستهزاءَ إدراجُ سطر أو قصيدة لمحمود درويش ضمن أنطولوجيا للشعر الفلسطيني المعاصر، فيما طغيان حضوره يخيّم على أي شيء يحمل صفة «فلسطيني». لنفكّر بريلكه، ببضعة أبيات قد لا تتجاوز العشرة، وقد يحلم أي شاعر ببقائها حية من بعده لا يطمرها النسيان، وقد تكون قصارى حلمه في بقاء الأثر. ربما لم يقصد ريلكه المختصّين الذين قد يتوهّمون أنهم يحتكرون معرفة الجمال ويسبرون أغواره بمجسّاتهم، وإنما عنى الأبيات التي تحييها الشفاه والقلوب، فيتداولها عامة الناس ويتناقلونها من جيل إلى جيل. ربما هذا هو الاستحقاق الوحيد، يحيي البرودة الميتة لكمال الشعر. لا تعوزنا الأمثلة لندرك أن ما يبقى من الشعراء العظام عبر الزمن، في الشوارع خارج الكتب، ليس مدهشاً بالضرورة ولا واضح الأسباب. لنتذكّر أبياتاً رائجة للمتنبّي أو الجواهري، أو ما كتبه هولدرلين: «ما يبقى يؤسّسه الشعراء»، أو نوفاليس: «عندما نحلم بأننا نحلم فتلك هي بداية اليقظة»… إلخ.
لن ألوذ بغوغل لتدقيق الاقتباسات، القليلة على أية حال، بتلك الحركة السريعة شبه الآلية التي تميز المدمنين على التكنولوجيا في عصرنا. لن أطارد مفردة الأزرق في شعر محمود درويش وأحصي تواترها وأستخرج منها رموزاً كخيميائي أو مشعوذ يختلس طلاسمه من وصفات القابالا، وإن كان هذا الاحتمال الصعب مغرياً. لن أتكئ (و«الاتكاء» دارج في لغة المراجعات الصحفية هذه الأيام) إلى باختين أو جورج لوكاتش أو هايدجر أو باشلار أو ديريدا. لا حيلة لي أمام الفطاحل الذين تبحّروا في الدراسات الموضوعية لأعمال الشاعر وتعمّقوا في خفايا رموزه ومعجمه «الثرّ». لا حيلة لي أمام الدكاترة والجهابذة الذين ستحيل دوائرُ معارفهم معرفتي إلى غبار، مجرد نقطة في بحر علومهم. لا حيلة لأعزل أمام جحافل المعجبين به والمعجبات، والمقلّدين له والمقلّدات، ونمائم الحسّاد وخصومات النقّاد والصحفيين الذين يفضحون اللصوص والمسروقات وألسنتهم على جميع الجبهات دقيقةُ التصويب كحذاء منتصر الزيدي (أم تراه مُنتظَر الزيدي لأنه آتٍ من مدينة الصدر؟). أريد الاكتفاء بالقليل ما أمكن. لهذا اخترتُ سطراً واحداً لا أكثر، ولا يهمّ إن كنتُ سأصل إلى نهاية مقنعة أو لا. ليست غايتي العثور على المبتغى ولا الوصول إليه، فأنا لا أعرفه ولا أريده. أحبّ أن أضيع داخل نفسي.
لا أنباء تُستقَى من الشعر. ربما هذا «الأزرق» يُنير وجوه الناس حين يتفرّجون على أخبار الموت في نشرات الأخبار. مصير الشهيد هو الضوء الأزرق لشاشات التلفزيون، قبل مآله إلى النسيان. ليس الموت استعارة أدبية. إنه حقيقة يومية، والنسيان هو الخاتمة. بادئاً بنفسي، ألمس تحقق هذه الحقيقة. نسيتُ ما قلتُ إنه لن يُنسى. لم أتذكّر من هو أحمد الزعتر. لكني، من دون حياء، أستفيض في استرجاع سطر واحد من الشعر. قد يأتي من يقول إن هذه الصورة الشعرية أيضاً محكومة بالزمن ولن تعيش طويلاً، وقد لا يبقى لها بعد سنين قليلة أيُّ بريق أو طعم، مثلما طوى «سيدة التفاحات الأربع» أو مثلما بهتت قصائد يوسف الخال أو خليل حاوي.
سطر واحد من الشعر. نقطة انتهى، كما يقول الحاسمون في آرائهم، ولستُ واحداً منهم في غالب الأحوال. ألسنا نبسّط قراءاتنا لأي شيء لأننا نريد أن يكون العالم كما تصوّره لنا الصحف ووسائل الإعلام والمدارس، أو كما تسوّل لنا أنفسنا، نحن الذين نمضي نصف أيامنا جالسين على الكراسي والأرائك، نحن العصابيين نافدي الصبر؟ من الذي يتمهّل حقاً في القراءة؟ الاستغراق يولّد الريبة. هذا صحيح. قد تكفي بضع كلمات واستْ إنساناً ليقتل إنسان آخر نفسه أو ليختلّ عقله. نعرف العاشق القهِم المؤرَّق الذي يلهج باسم معشوقه ليل نهار، المنفيين الذين لا يفوّتون سانحة ليقارنوا منافيهم ببلدانهم، الهوسيّين المأخوذين بفكرة واحدة تطرق عقولهم على مدار الساعة، المنزوين الذين لا يرسمون إلا العيون أو الغيوم، المجانين الذين لا ينقطعون عن تكرار كلمة واحدة قد تكون يوماً من أيام الأسبوع، المتصوّفة الذين يسكرون ببضع كلمات في الموالد النبوية. ولأن هذه حالاتٌ قد لا تُستساغ، قلتُ لنفسي: «كفاك “إنّ التشابه للرمال وأنت للأزرق”. كٌفّ عن التفكير بالصُّفرةِ والزُّرقة. توقّفْ. لا تكمل».
أخطاء العين أرحم من أخطاء القلب. ربما خدعتني عيناي وخدعتني مشاعري وخدعني عقلي. لن أثق بحواسّي تماماً، لأن المشاعر أعقد بكثير من الأحاسيس. سأحاول تقصّي الفروق لا التفاصيل، الفروق بين ظلال الشيء الواحد تحت أنوار مختلفة عبر الزمن. غير أنّ مواصلة أي شيء وتفحّصه إلى ما نحسبه الحدود القصوى الممكنة ستقضي على معناه وتقضي معه على المعنى كله أو ما تبقّى من المعاني، وتضع على المحكّ مغزى الحياة وجدوى أي عمل. بعد مساءلة سريعة في بديهيات المنطق الصوري، عند الجمل المتفق على بساطتها (من قبيل: الثلج أبيض، السماء زرقاء، العشب أخضر…)، تدفعنا الاستقصاءات إلى تلك التخوم الخطرة التي تنهار عندها الحواجز بين الجدّ والسخف، بين الخوف والفكاهة، ويلوح لنا ضريح العقل وقبر العفوية وقبر البساطة وينفضح زيف كل تعبير، وتتحطّم أبجدية العالم إلى هجين مريع من الرموز الاعتباطية، حطامٍ من الإشارات والعلامات لا يعود التواصل بواسطتها إلا شكلاً مفتوحاً من سوء الفهم، فلا نفقه شيئاً مما يحدث. عندئذ، ستشلُّ اليد، وقد لا تقوى على تسطير حرف واحد. عندئذ، قد يتراءى أن الشعر بأكمله ليس إلا مخلوقاً مصنوعاً من كلمات، ولا يعي صانعه بالضرورة أسباب صنيعه، والقصيدة غالباً جنين مجهض لم يكتمل، وقد تولد ميتة أو تموت في طفولتها الباكرة. ومع ذلك يواصل الشاعر هذا الدُّوار، حتى تدور به المشاعر وتدور الأفكار ككرة على أنف فقمة في حلبة سيرك، منتظراً، دون أي طائل غالباً، تصفيقَ الختام، أو تصفيقَ إعادة العرض نفسه من البداية، لأن جمهوره، إن وُجد، يتوقّع سماع ما أحبّه. سرعان ما تتناقض مشاعري تجاه الأزرق والأصفر وتفسد كلّ ما فكرتُ به. ها هي الصورة الشعرية الغامضة التي حفّزتْ ذاكرتي وخيالي تودي بي الآن إلى القنوط والإحباط، بعد وقت قصير من البدء، لتشمل خيبتي الشعرَ بكامله، ويمتدّ النفور الهادئ منشوراً فوق الوجود كله كشبكة مسمومة اصطادت زجاجة فارغة.
ومع ذلك، سأجازف بالاستمرار. وحده الجمال جديرٌ بالخوف. قد يضحك الحائرون حين تبلبلهم روعة الشعر العظيم. محمود درويش لا يُضارَع، وشعره يقدّم أنصع الأمثلة العربية المعاصرة على بهاء القصيدة وكمال صنعتها. سأضع الخشية والحذر جانباً، لأن ما سأكتبه ليس انتقاصاً من الشاعر ولا تطاولاً على قامته.
التفاسير
من اللانهاية إلى اللانهاية
«إنّ التشابه للرمال وأنتَ للأزرق». كل حبة توأمُ شقيقتها في ساعة الرمل ذات الجناحين الصغيرين. سيدوّخني سموّ الزرقة وجمالها الرهيب، بعد ما اكتشفتُ لديّ، متأخراً للغاية، استعداداً حقيقياً للإصابة بدوار المرتفعات. غطرسة القمة تخيفني كجبال الألب ونزلاء منتجعاتها والمتزلّجين. أنا أهل لهذا التشابه العادي بين حبات الرمل، في كثيب أو حديقة زن. هذا هو مطرحي، في الجفاف والخشونة، أحبّه وأرتاح إليه، مثلي مثل سواد الناس الذين لا يميّزهم شيء في الحضيض، وقد يرميهم الشاتمون بلقب «الإنسان الأزرق»، أي العبد الذي يزرقّ لشدة سواده. «الإنسان الأزرق» هو الاسم الذي عُرف به المغاربة الذين أسرهم واسترقّهم الفايكينغ بعد غزوهم إسبانيا وشمال أفريقيا في القرن التاسع. كان يُقال في مستشفيات دمشق إن أمراض الدم الوراثية كالتلاسيميا وفقر الدم المنجلي تسود بين النازحين، والسبب عائد إلى أن أجدادهم هم المحاربون الأفارقة السود الذين أتى بهم صلاح الدين الأيوبي وفتحوا القدس معه، ثم استوطن بعضهم فلسطين. أذكر ممرّضة، في زحام مستشفى الأطفال في دمشق، تعنّف أباً نازحاً احتجّ على سوء المعاملة. ذكّرته أن ابنه الصغير مصاب بمرض الزنوج.
كانت هناك تفاسير أخرى للسطر المنتقى، أضجرتني في زمانٍ مضى وتسلّيني الآن. حين أطلعتُ الأستاذ رجب، مدرّسي اللغةَ العربية في المرحلة الإعدادية، على تمارين الشعر الموزون، انحفر تعليقه في ذاكرتي: «إن الشعر رحيق، والشاعر الدؤوب نحلة تتنقّل بين الأزهار». جرّاء هذه العادة المرهقة إياها التي تأخذ المجازات بحذافيرها ولم أستطع حتى الآن التخلص منها، عجزتُ عن تصوُّر ما قاله الأستاذ ولم أفهمه، ربما لأنني قارنتُه بالزهور القليلة التي كانت قد نتأت في شقوق الجدار الطيني ومن ثم بالنحل الذي كان أبي يربّيه في قفير من طين وأراني كيف يمكن أن أداعب برأس إصبعي الوبرَ على ظهر عاملة النحل من دون أن تطير عن الزهرة: «لا تخف. إذا خفتَ شمّتْ خوفك ولسعتك». كما استصعبتُ، كأي مراهق أو راشد، الفصلَ بين الأزهار والنحل والعسل وبين إيحاءاتها الجنسية، وربما شوّشني الخلط بين الشاعر الذكر والنحلة الأنثى في بلاغة التشبيه، فطرحتُ على نفسي سؤالاً علمياً لا جواب له: «النحل يفضّل لوناً واحداً هو الأزرق. فكيف ستتنقّل النحلة إذا كانت الزهور كلها زرقاء؟».
شاع في الشروح المدرسية لـ «إنّ التشابه للرمال وأنت للأزرق» إن الصورة تجريدية تجمع بين الهجاء والمديح، بين الاحتقار والافتخار، تُقرأ شاقولياً كسماء صافية فوق الربع الخالي، أو أفقياً كالبحر ورماله في صيف المتوسّط. الرمل كناية عن ملوك النفط وأمراء البترو-دولار، المتماثلين والمستلقيين في بطرهم ومجونهم وخياناتهم، أما الموكول إلى الأزرق فهو الفلسطيني المتسامي على جراحه، الشجاع الذي لا يتهيّب صعود الجبال ولا يخشى الغرق عند ركوب البحر حين يطاردونه ويطردونه. أو أن الصورة هي فلسطين، الممتدة بين الصحراء والبحر، بين أزرقين أخرين، غير الفرات والنيل، وهما نهر الأردن والبحر المتوسط. بين أزرقين آخرين، أحدهما في الأيقونات السورية القديمة والآخر في رسوم الفراعنة، فلسطين منتصبة القامة كالخنجر الذي طعنت به إسرائيل خاصرة الوطن العربي فخضبّتْ دماءُ الشهداء البحر الأحمرَ. لا بطولة هنا. الأزرق لسحنات الغرقى والمحاصرين المختنقين بالغازات في غزّة، والأصفر لسحنات الذين يحرسون إسرائيل اللؤماء الشاحبين في صحراء العرب وصحراء سيناء.
هناك شروح أخرى غيرها ستتكفّل بالرسوب في أي امتحان، لأن الأساتذة لا يطيقون من يشطح خارج المقرّر، وغالباً ما يودّون أن يسمعوا آراءهم تُستعاد بأفواه تلامذتهم، ولا يروق لهم الشطط والاستطراد، ومع ذلك لا ضير عندهم إذا استخدموا مفردة «الجودة» كمعيار يقيّمون به بضاعة الشعر، وأتبعوها بثناءات متنوّعة: «أحسنت… ممتاز… جيد جداً… شُوهد… لا مانع».
نظّارة الشاعر
«فارتقبْ يومَ تأتي السماءُ بدخانٍ مُبين»
(سورة «الدخان»)
عاصفة الصحراء، التي أطاحت بمهرجان المربد أيضاً، ذرّت حبات الرمل تحت ألسنة الكثير من الشعراء والنقّاد العرب، من المحيط إلى الخليج، فطحنتها أسنانهم القوية، وتسرّبت الجعجعة من الكواليس وسمعناها مطوَّلاً على المنابر والشاشات. حبات الرمل هي المادة التي طُهي منها الزجاج الخالي من أي بصمة في نظّارة محمود درويش، وقد كتب صديقه الوصّاف المولَع بالطبخ سليم بركات قصيدةً في وصف هذه النظّارة. (يعلم الشاعر الكردي أن الحقول لدى الأكراد زرقاء في الربيع، كما يعلم على الأرجح أن أزرقهم لون العار أو لون المصيبة، ولعلّ هذا مستوحى من الوجوه الزرقاء للمجرمين في القرآن. محمود درويش الذي تأمل الورد كثيراً، دسَّ في إحدى قصائده المتأخرة «فبأي آلاء ربكما تكذبان» من سورة الرحمن التي تتضمن أيضاً «فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدهان». قبة السماء تتصدّع يوم القيامة فيتكشف الصدع عن وردة عملاقة، أضخم من الورود الحسّية التي رسمتها جورجيا أوكيف في وديان صحاراها. هل فردوس الشهداء هو هذه الوردة اللامعة غامضة اللون، يعيشون مخلّدين فيها أبداً، والروح تحلّق إلى عطر أزرق سُمّي «السماء»؟ هل قرأ دانتي هذه الآية؟)
كانت نظارة الشاعر الوسيم فرنسية الصنع ذات عدستين كبيرتين لامعتين، وراءهما عينان جميلتان حسيرتان تشعّان مكراً وفطنة، فوق شاربيه الحليقين وذقنه الحليقة دائماً. كان هذا الطراز من النظّارات يُسمّى «عزيزة جلال». أتذكّر تعليقاً يُقال لمَن يرتديها: «ألا تخاف أن تطير عيناك؟ ضَعْ قضباناً لنافذتيك!» ربما بسبب هذه التسمية تختلط عليّ ملامح المغنّية بملامح الشاعر حين أحاول أن أتخيّل وجه كلٍّ منهما على حدة. وحين أمعن في التذكّر تتأنّث ملامحه، وأنتبه إلى مسحة الأنوثة التي يقال إنها وسمت يديه ومشيته، وكانت تضفي رونقاً إضافياً على وسامته وأناقته ونباهته.
«الغابة خضراء لأن الفراشة خضراء ومرآتها الغابة»
إذا واصلتُ هذا الاسترسال في التأويل فسأضيف حبة رمل إلى الصحراء، أي بضع صفحات تضاف إلى مئات أو آلاف الأعمال في الصحافة والجامعات، تناولت فرادة الشاعر ودقائق حرفته ورشاقة موسيقاه وفطنته الاستثنائية. ستكون هذه الصفحات القليلة مثل مساهمة شاعر شابّ (واحد من آلاف الشعراء الصغار أو المغمورين، فلسطينيين وعرباً وأوروبيين)، لا يطعمه الشعر خبزاً، استدان ليطبع باكورته على نفقته، وكالموؤودة في الرمل أطعمها إلى ظلال الأرشيف المهول في مكتبة الكونغرس في واشنطن أو مكتبة فرانسوا ميتران في باريس. كلا. الأصحّ هو أن ديوانه شتلة أمل أو ورقة يأس يابسة تضاف إلى غابة ليضخّ موتها نسغاً جديداً في العروق الهرمة، وهذه خير طريقة للتخفّي والانتماء في الوقت ذاته، خير طريقة لصناعة الدُّبال على أرض الغابة التي تنهض من أوراقها المسحوقة الأشجارُ المعمّرة الضخمة النادرة التي تهضمُ جذورها كلَّ شيء، ويُشهَد لها بالهيبة، ويُشار إليها بالبنان من بعيد، وإليها يحجّ المؤمنون، والنباتات الموسميّة المتسلّقة تغطّي جذوعها («الزبدة الزرقاء»، في تاريخ الطبّ، نوع من مراهم الزئبق القاتلة للطفيليات)، وإن ضربتها صاعقةٌ أحيَتْها وأزهرَ الفحم في إعجازٍ جديد. الشاعر الصاعد الخائف من السقوط، أو المغمور التائه في غابة الشعر الزرقاء، بأشجارها العريقة، بملوكها وضباعها وفراشاتها وثعالبها وطيورها وحشراتها، قد يسمع أحياناً مَن يتنبّأ له بذيوع صيته في المستقبل، فينتشي بتحقق حلمه كمَن يصدّق ما يكتبه المبالغون في الرسائل الإلكترونية: «أنت شاعر عظيم!»، وما هذا الصوت إلا ريح الأوهام التي تعبر بين أوراق الشجرة العظيمة، محملة بغبار الحظوظ، لتسخر من هذا الرقيع المجهول صاحب الزفرات الذي انطلت عليه كذبة «موت الشعر»، تسخر منه لأن الشعراء الرديئين خبثاء لا يُستأمنون. مثل زيتونة الولجة ذات الزيت الضارب إلى الزرقة، قد يبقى محمود درويش كطفرة في الزمن، بظلاله الوارفة يتفيأ المنفيون والعشاق الخائبون بزنابقهم الزرقاء والنشطاء الثوريّون والمقاوِمون وطلبة الجامعات ومقلّدو شعره ومقلّدوه في قوّة الإلقاء والجميلات اللواتي وُشِمتْ معاصمهنّ وظهورهنّ بكلماته.
في الواقع، إن غرور الشاعر الذي لا ينشر شيئاً أكبر بما لا يقاس من غرور الأكابر المتفاخرين بصدور أعمالهم وترجماتها لدى كبريات دور النشر، والمزهوّين بصحبة مَن تواضع من النجوم والمشاهير، وقشعريرة الغبطة والمجد تسري في فقرات ظهورهم، وإن بطّنتْ كلَّ ذلك مشاعرُ الشفقة، أو كآبات لاحقة لا مناص منها غالباً، وقد تدفع بهم النتائج المخيّبة ليلوذوا بالكفة الأخرى من الميزان حيث يقبع الناس العاديون الذين يدركون القيمة الحقيقية للحياة البسيطة ومسرّاتها الصغيرة. مهما تضخّم عدد الكتب المنشورة، ومهما تهاطلت الدعوات وكثرت التنقّلات بين الفنادق والمحطات، من قارة إلى قارة، على متن السفن وطائرات التكلفة المنخفضة أو رجال الأعمال والقطارات السريعة وحتى الدرّاجات، ومهما تواتر الحضور في الصحف والراديو والتلفزيون، ومهما سارت الألسن بالاسم وطارت الأعين بالصورة إلى الآفاق، فإن الرقم يبقى محدوداً، أما طموح العازف عن النشر فمصبّه هو اللانهاية. تطلّعاته جزء من العدم أو الأبدية. جميعنا نعرف شعراء كباراً لم يكتبوا أو لم ينشروا سطراً واحداً في حياتهم.
إذا انطوى جِرمٌ صغير على العالم الأكبر، وإذا قرأ متصوّفٌ المحيطاتِ وغيوم السماوات كلها في قطرة ماء واحدة، فلماذا لا نقرأ شاعراً في سطرٍ واحد أو صورة واحدة؟ في حبة رمل يتمرأى تاريخ الصحراء وذاكرة الشعر الأولى، كما تتكثّف القرون في بضع لحظات. في حبة رمل يتلخّص تاريخ البلور الصافي الذي قيل إن مرحلة درويش المتأخرة قد بلغتها ولم يمهله الموت لاستكمال التتمّات، على تلك القمم التي وصل إليها بكدّه وضناه، فبسطها أمامه لتصلح للمشي والنزهات. هذا البلور الشعريّ النفيس أقربُ إلى شفافية الكريستال وغلائه وندرته، ويتقاطع معه في النظافة والأناقة والبرودة ودرجات الظلّ، كزجاج معشّق تطغى عليه الزرقة في كنيسة سانت شابيل التي تحوي الذخائر المقدسة للملك القديس لويس التاسع، البادئ بحروب الصليبيين.
المتنبّئ في بلاد الغال وخلّانه الأوفياء
عُرفت عن محمود درويش نرجسيته، كبداهة لا جدال فيها. شاع عنه ما قد يُشاع عن الفرنسيين: حبّ النبيذ، حبّ الحبّ، الرهافة، العجرفة، السخرية اللاذعة، الأناقة، حدّة المزاج، التعالي.
كمديح المتنبّي لسيف الدولة، لنفترض إن «وأنت للأزرق» هي خطاب الشاعر لنفسه: «لا أحد لك إلاك، أنت للسرّ، للسموّ داخل نفسك، لتجربتك الداخلية». لقد تنبّأ بمصادفة ذهابه إلى فرنسا التي استرجعت مستشفياتها قلبَهُ من غيبوبة الموت وحرمته من شراهة التدخين وسمّت باسمه إحدى ساحات باريس، فرنسا الرهافة وفنّ العيش والعبودية، فرنسا الدم الأزرق والساحل اللازوردي والشرطة الزرقاء ونساء اللحية الزرقاء والديوك الزُّرق والبرونز المزرقّ في سطوح الكاتدرائيات، بلاد الغال التي شنّت الحملات الصليبية، وأطلق العرب اسم «الأزارقة» على شعرائها ذوي العيون الزرق، عيون الشؤم، عيون الفاسقين والفاسقات، هؤلاء الذين تغنّوا باحتلال القدس وعودة الحق إلى أصحابه. لاحقاً، أمر بابوات الفاتيكان بأن تزرقّ عينا المسيح ويُذهَّب شعره، وتزرقّ عباءة أمّه. هكذا طُويت صفحة يسوع الناصريّ الأسمر وأتلف الآباء المفتّشون أيقوناته الأولى ليدشّنوا عصراً جديداً، إذ لم يكن جائزاً ولا معقولاً أن يبقى ابنُ مريم وابنُ فلسطين محتفظاً بملامحه الساميّة بعد المذابح التي ارتكبتها محاكم التفتيش بحق اليهود. الأزرق أيضاً هو اللون الخرافي لبيوض «أبو الحنّ» بعدما خفّف عن المسيح عذابات الصليب وسقاه الندى بمنقاره وخضّب ريش صدره بحنّاء الدم المقدّس.
ولأن الشعراء يرون ما يريدون، ويتنبؤون كما يطيب للمذيعين القول في «برجك هذا الصباح»، فإن الشعراء العرّافين يُبعَثون إلى الواجهة بين فينة وأخرى، مثل نبوءات القيامة التي يراها حرّاس بيت الله الحرام في مكة ويأمر أصحابُها القرّاءَ بنسخها خمسين مرة بخط اليد وتوزيعها على المارّة وإلا حلّت علينا اللعنة. ثمة معضلة ليس لها حلّ في تاريخ العرّافين، أوردها المستشرق الإنكليزي وليم مارسدن في كتابه «تاريخ سومطرة». تطرح لجنة المقابلة سؤالاً على أحد المتقدّمين لنيل شهادة العِرافة التي تخوّل حاملها التنبُّؤ بالزلازل والأعاصير: «هل ستنجح في هذا الامتحان أم لا؟» وحين يجيب: «لا»، تأتيه المفارقة: «جوابك صحيح. أنت ناجح وراسب في الوقت نفسه».
حين دُمّر البرجان التوأم في 11 أيلول تبيّن أن أدونيس كان قد استشرف المستقبل، وتكهّن بوقوع هذا الدمار في قصيدته «قبر من أجل نيويورك»، وكان لوركا بحاسّته السادسة وعينه الثالثة سبّاقاً إلى التنبؤ في «شاعر في نيويورك». وإذا قسنا الفكرة بهذا المقياس لقلنا إن محمود درويش، في «إنّ التشابه للرمال وأنت للأزرق»، قد قدّم نبوءة الرحيل إلى فرنسا، ولم يكن يستشرف المقابلة التي ستجمعه لاحقاً بالمذيع أنس أزرق على شاشة الإخبارية السورية. لقد تنبّأ الشاعر بركوبه لطائرةٍ لم تختطفها صديقته المناضلة ليلى شهيد، لينتقل إلى الإقامة في فرنسا، داخل شقة في باريس يرى من نافذتها برج إيفل، ويهبط منها إلى مطعم صيني في تروكاديرو يدعو إليه أصحاباً مختارين، نساء ورجالاً، لتناول العشاء. يعرف عنوان هذا المطعم الأثير لدى الشاعر صديقه صبحي حديدي، الناقد الذي أنجز عنه عملاً ضخماً يتعدّى السبعمائة صفحة ولم يُطبَع بعد، ويستطيع (هذا إن شاء طبعاً) أن يخصّ الخاصّة أو خاصّة الخاصّة بجولة على أماكن باريسية يجهل العوامّ أسرارَها، وكان الصديقان يتردّدان عليها معاً.
كما ستنطوي هذه النبوءة الفرنسية على غرفة أثيرة لدى الشاعر في فندق ماديسون في باريس، إلى جانب الصداقة التي ستتوثّق أواصرها مع فاروق مردم بك وإلياس صنبر، صديقيه اللذين يحتكران، بتفويضٍ منه، ترجمات أعماله إلى الفرنسية. دار «آكت سود» هدّدت باستدعاء الشرطة إلى أمسية شعرية في تولوز لأن مترجمين آخرين تطاولوا على وصية الشاعر وتَرِكته، وانتهكوا حقوق النشر.
انتبهتُ إلى أنني قد أخطأتُ، ولكني استبقيتُ خطئي. ليلى خالد كانت السبّاقة إلى اختطاف أكثر من طائرة، ولعلّ كنيتها انقلبت إلى «شهيد» لأنّ شعوري بالذنب لم يسمح بالتغاضي عن أحمد الزعتر.
بيت الشاعر
لا أعلم إن كان محمود درويش في عمّان يحبّ مشروباً بلديّاً مثل عرق «الزعمط» ذي الزجاجة الزرقاء الغامقة. الأزرق بارد كشقّة الشاعر المعتكف في حيّ عبدون. عشقه للنبيذ الفرنسي يستبعد احتمال الجنّ الأزرق (أقصد المشروب الإنكليزي)، في كوكتيل الكحول القويّ المعروف باسم «الخراب الأزرق» الذي تراود متعاطييه أشباحٌ زرقاء تلوّن لياليهم بأزرق شاغال، أو تمسك بألسنتهم في السُّكر وتضربهم في المنامات فيستيقظون بوجوه بنفسجية متورّمة عاجزين عن تذكّر أو معرفة مَن ضربهم. تتباين الإشراقات والتجليات حسب طبيعة المتعاطي والجرعة التي يتناولها. (ومن لا يصدّق ولا يجرؤ على التجربة، في وسعه الرجوع إلى كتاب اللورد هاليفاكس حول الأشباح. هنا إحدى قصصه: سيدتان لا تعرفان بعضهما البعض، تجلسان وحدهما في الحجرة نفسها على متن قطارٍ في الليل. تبادر إحداهما إلى القول: «أنا لا أؤمن بالأشباح»، فتجيب الأخرى: «حقاً؟» وتختفي).
حين شاهدتُ صوراً لشقة محمود درويش في عمّان، بعد وفاته، لاحظتُ لوحة لنزيه أبو عفش معلقة إلى جدار إحدى الغرف، وكان قد حملها له معه في سيارة الأجرة من الشام إلى كراجات العبدلي. بدا لي البيت موحشاً وبارداً، كأنّ جدرانه من جليد، كأنّ ساكنه كان طيفاً أو شبحاً. ليس السبب أن صاحبه قد رحل عن هذا العالم، بعدما انفجرت قنبلة الأبهر الموقوتة بين ضلوعه في تكساس. بدا لي البيت فارغاً منذ البداية. ظلّ عارياً وخاوياً مثل ضريح من مرمر لا أثر فيه لعبور الزمن، رغم الحياة الخافتة التي دارت بين جدرانه، رغم كلّ ما فيه من أثاث مرتَّب ترتيبَ المتاحف ومنتقىً باعتناءٍ عُرف به الشاعر، وكانت لديه في أنحائه هدايا متفرّقة من أصدقائه وأصحاب نفوذ عرفهم وعرفوه وأحبّوه، وكان نفوذهم أقلّ من سلطانه. كان انتقائياً في كل شيء، من أقلام الحبر التي يكتب بها، ويتطيّر منها تارة ويتفاءل بها تارة أخرى كأنها مغناطيس القصائد، إلى الزوّار القلائل الذين يصطفيهم ليتنعّموا بحظوة صحبته، وربما يدّخرون ذكرياتهم معه للمستقبل، كي يقولوا لأحفادهم ذات يوم: «كان بيت الشاعر كقصيدته، يخفّف الفصاحة ويقصّ زحافات العروض ويقلّم الزوائد ويحذف الفوضى».
يبثّ بيته في الصور شعوراً بالضيق. خلافاً للتوقّعات، وخلافاً للحقيقة، ربما أوحى بالنسك والعنوسة والوحدة عن سابق عمد، ولا تخفى نظافته طبعاً. كان الشاعر نظيفاً بمعاني شتى، نظافة العقل ونظافة الصفحة ونظافة اليد ونظافة الياقة، ولن أضيف القلب لأن القلوب الطاهرة للقديسين. النظافة، في دارج التصوّرات التي تلهمها الدعايات، بيضاء كالثلج الذي تشوب نصوعه زرقة طفيفة. الأزرق لون الأشياء البعيدة الفارغة كالسماء الصافية التي يلتمع بريقها أكثر في الزمهرير. أليس الشعر الصافي، هذا الهدف المستحيل، هذا السراب الضروري، صقيلاً بارداً كمرآة مالارميه التي يتأمّل فيها الفراغُ نفسه، وأمامها يتبادل الوعي والألمُ والرغبة القناعَ ذاته؟ السراب أفقٌ يتماوج، فيه تتحول حبة الرمل إلى قطرة ماء تروي ما قاله ابن عربي: «الزمان مكان سائل».
ماذا يبقى من السائر في الصحراء أو السابح في البحر أو الطائر في الهواء؟ لا أحد يترك أثراً إذا سار أو سبح أو طار في المطلق الذي يُلاشي كلّ شيء. الأزرق قصيٌّ عصيّ على اللمس، يُلعَن ويُشتهى. المسافة روح الملاحظة في الفن، والقرب هو المحو. كانت لدى محمود درويش مسافته من الواقع والتاريخ. شعره لهب بارد يسبح من بحر إلى بحر، يحلّق من السماء فوق البروة إلى السماء في يوم صحوٍ فوق سهوب سيبيريا. النار خلاصة الشاعر، من الألسنة الملوّنة الصغيرة تحت ركوة من نحاس إلى محرقة قرابين: اللهب أحمر عند قاعدته حيث يبدأ، ثم يشفّ ويرقّ ويزرقّ ويخضرّ في الذروة. نعلم حرص الشاعر على تجاوز نفسه. لقد تطهّر من البدايات وهدم قصور رمالها ليرتقي في «معراجه» إلى الأعالي، خافقاً كنجم الشمال، النجم الأزرق الذي يُستدَلّ به في أي صحراء. ربما لهذا قلتُ إن بيته كان بارداً، كهواء المرتفعات، كجوف كنيسة تكتنفها ظلال خفيفة الزرقة، كمحبس ناسك في كهف لا يبرحه أياماً، كمن ورث العزلة وملازمة البيت عن أمّ مريضة. لم يكن لهذه الصومعة ديرٌ على وجه الأرض. أعتقد أنني أدرك مساوئ تفسير المجاز بالمجاز. ربما أوهمتني الصُّور إن بيته مكانٌ مليء بالأصداء. فكرتُ كم ستدوّي الضحكات حين ترتطم بالحيطان، وإذا حرّكت الطربيزة قليلاً فستسمع صرير قوائمها على البلاط يثقب الآذان. بعد حصار بيروت وإقامة الشاعر هناك في شارع فرنسي الاسم هو «جان دارك»، ولا تزال فيه عدة أشجار معمّرة ضخمة نجت من الحرب وانغرزت الأسيجة في لحمة جذوعها، بدأت جولات عوليس بين قبرص وتونس واليونان وفرنسا، ثم اختتمت هذه الشقّة مطافه. أهي المقصودة في نبوءة «وأنت للأزرق» لأن منتهى الإنسان بيته؟
أتذكّر نزيه أبو عفش يصف انزواء محمود درويش، وكان الأخير يعُود صديقه في مرمريتا حين يزور سوريا: «محمود يعيش حياة عازب أرستقراطي»، فلا يفسد عليه الإلهامَ أو دأب العمل بكاءُ طفل في وضح النهار، ولا يعكر كسله الصباحيّ شكوى زوجة تغار أو تتذمّر من بطالة زوجها الشاعر وإفلاسه وغرقه في الأحلام ومماطلته في تصليح بلاليع البيت. كان محمود درويش، المحاصر بنجوميته والحبّ القاسي للجمهور، يُحسد على نعمة هذا التفرُّغ الأشبه بالحلم، لا يسكنه في الصميم إلا قلق الشعر، ولا يربّي إلا ذائقته. ربما سجنه الجمال كالنبي يوسف المفترَى عليه، وربما لم يكن حرّاً تماماً إلا بين أربعة جدران. لقد ظل مسكوناً بالنفور من الإنجازات، بالخوف من النضوب وتقليد الذات والافتعال وتعب اللغة. أراد اللعب بجدية الطفل الذي يلهو، ولم يتهيّب العواطف، المنمّقة غالباً. استمدّ شعره الأخير قوّته من براءة منسية، من هشاشة الأشياء التي أغفلها في البدايات. لم يره أحدٌ يكتب في المقاهي أو الأماكن العامة. لم يكن يكتب إلا في مكتبه، محاطاً بالقواميس وكتب التراث ذات التجليد الفنّي المنضودة وراء الزجاج في الخزائن، مستمعاً إلى موسيقى صديقه مارسيل خليفة أو بيانو شوبان أو بتهوفن أو موتسارت أو فالس «الدانوب الأزرق» أو جيتار الفلامنكو أو كمنجات الغجر في الأندلس. بالطبع، هذه خيارات موسيقية تتناغم مع شعره تناغماً تامّاً. كان يرى الشعر فناً موسيقياً يأنف من تكديس الصور فيه، فيهندس الإيقاع ويشذّبه ويضبطه على أنفاسه. كان وسواسه التناظر وتوازن المعمار، وقصيدته تبدأ كلحن غامض قبل أن تلبس الكلمات، فيستفيق أحياناً ليتناول الورقة والقلم الموضوعين إلى جوار سريره، مسارعاً إلى التقاط بذرة قصيدةٍ ما رآها في حلم، مثلما استوحى عازف الكمنجة جيوزبه تارتيني سوناتا «معزوفة الشيطان» من عالم المنامات، إذ كان الشيطان يعزف للحالم لحناً أدهشه.
تكلّمتُ كل هذا الوقت عن لونٍ واحد، لأنني لا أنجذب إلى الطرب والدندنة. أدرك جيداً عمق خسارتي. محمود درويش أحب الرسم في طفولته قبل أن ينعطف به الفقر إلى الشعر ويتلقّف باكراً «العروض السهل» لإسحق موسى الحسيني، وربما ظلّ مسكوناً بالمرحلة الزرقاء لبيكاسو ومحبّاً للوحات التجريدية، لكنه لم يصنع الكولاجات ولم يزركش الورق بكرنفالات من الألوان مثل صديقه اللدود أدونيس أو سليم بركات، كما لم يكتب قصيدة النثر مثلهما. كان يقول إنه لم يتدرّب على كتابتها. لم يكتب غير الشعر الموزون، المقفّى غالباً.
القاموس لا يسعف الحيارى
«يطير الملفوظ ويمكث المكتوب». تموت المعاني وتبقى الكلمات، كأصنامٍ يشدّ الزمن إلى وجوهها أقنعة جديدة نابضة بالحياة. قد تُلمَح في الـ «أزْ-رَقْ» بقايا من الرقّة والسلحفاة والقرطاس، وربما الدفّ والاسترقاق. لقد زادت التجربة والحنكة الشعريتان من شكوك محمود درويش إزاء دقّة الكلمات وصوابها، واشتدت صرامته في رقابته لصنيعه، وتواتر رجوعه إلى القواميس يومياً، ليتأكّد أحياناً من كلمة واحدة تؤرّقه وقد ينعقد عليها مصير قصيدة كاملة. قد يحوم شاعرٌ غرّ حول مفردة واحدة مثل درويش مولويّ تدور رقصته حول شعاع أزرق من الحبّ، محاولاً أن يستجمع طاقات الكون. غير أن محمود درويش نأى بنفسه عن «موضة» الصوفية ومكابداتها وشطحاتها وسذاجة حيَلها. فلنسر على نهج الشاعر لنستفتي لسان العرب حول معاني كلمة واحدة:
الأزرق- النصل شديد الصفاء أو شديد النفاد، الماء الصافي، الذباب، العدوّ.
وبهذا ترتسم مصائر أخرى وراء «وأنت للأزرق». سيكون الشهيد لينبوع الحياة أو لذباب الموت الذي يطنّ فوق دمه، أو سيكون للعدوّ لأن العرب اعتبروا الأزرق لون العجم والروم، أو بالأحرى لون عيونهم، وكرهوه. حين تسنّم بشار الأسد السلطة في سوريا، قيل إن عدوّاً قد تولّى الرئاسة وسيدمّر البلاد، وقال آخرون إن عينيه تميمةٌ ستحمينا من الحسّاد.
نبذة عن نبيذ الشعراء
آية يسوع مقلوبة في القصيدة، حيث الجسد هو الكلمة، سواء جسد الإنسان أو جسد العالم. مَشاهد الشعر مسرحُها اللغة. «اللغة بيت الكائن» ومنفاه. يدرك المنفيون جيداً هذه الحقيقة البسيطة. للروح أن تختار ما تشاء، بيتاً متواضعاً داخل معلّقة الطاعن في السن الحارث بن حلّزة، أو بُرجاً في قصيدة صينية قديمة حيث السكنى أيسر وأرخص وأهدأ لأن حروفها المرحة مصمّمة على شكل أعشاش أو قصور وأكواخ. لو أمكنَ لبني آدم أن يتقمّصوا القصائد أو يسكنوها، فلربما آثرتُ في حياة أخرى العيش داخل «مأساة النرجس وملهاة الفضة». ربما خطرت لي الآن بسبب الألوان التي استغرقتني، وأنا أرى عنوانها يلتمع بالصفرة الذهبية في عيون النرجس (أسمع من يشبّهها بالبيض المقليّ) والزرقة الرمادية الخافتة في عروق الفضة، أو ربّما لأنني أتذكّرها بصوت صديق في المدرسة الثانوية كان يتلوها على مسامعنا بعدما حفظ عن ظهر قلب مقاطع كاملة منها، وكان ينشدها لنا في نزهاتنا وسط القبور: «عادوا من آخر النفق الطويل إلى مراياهم…»، وكنا حين نزور قبراً مهجوراً دُفن فيه الخوري، في الغرفة الوحيدة الناجية من كنيسة البروتستانت الطينية المتهدّمة في عامودة، يتأنّى الصديق عند إلقاء «…بصلاً وبامية وثوماً للشتاء» كلمة تلو كلمة، كالمخرجين الذين يترجمون القصائد بصرياً، ليمرّ بيُمناه على سلاسل البامية المجففة وباقات الثوم والبصل المعلقة إلى زوايا الضريح. في الحقيقة، كان قلبي سيختار «الهدهد»، قصيدة محمود درويش التي لن يبرح ظلّها المبهَم روحي، رغم انكفائي شبه التامّ عن قراءة شعره منذ أمدٍ بعيد، ما دامت هذه الروح ولهى بحب فريد الدين العطار النيسابوري تفتنها الملاحم القديمة ويسحرها جمال العصافير الصغيرة التي تعجز عن التحليق عالياً، ولا تطيق البعد عن الأرض لأن الحنين سيقتلها.
لو كان لنا صانع آخر بعناية «الصانع الأمهر» محمود درويش وأناقته في معاملة المفردات وبحور الشعر لكنّا أغنياتٍ عاطفية تخفي مجوناً رقيقاً، ولكان الصمت الذي يعقب اختفاءنا مليئاً بالحنين- إلى ماذا بالتحديد؟ الحنين إلى المستقبل، إلى بدايةٍ لن نختبر مثيلاً لها مرة أخرى أبداً. غير أن درويش كان قد تنصّل من بداياته الشعرية. كان يتخلّص من مسوّداته ولا يكاد يطلع أحداً عليها. لو كنا أبياتاً في قصيدته، فمن يدري بأي مزاجٍ كان سينقّحنا؟ كيف كنا سنقاوم سطوته؟ كيف كنا سننجو من نزقه وبطش صرامته؟ أيّ هوامش كانت ستحتوينا بين هلالين؟ ما مقدار الخسارات والتشوّهات التي كانت ستنزل بأجسادنا، أو ما مقدار التجميل الذي كنا سنحصده؟ بأي تشطيباتٍ كنا سنخرج من هذا العراك الصامت بين الشاعر وبياض الصفحة غير المسطَّرة، آذاننا علامات استفهام وحواجبنا إشارات تعجب؟ هل كان سيضمّ أسماءنا إلى جنان دواوينه، مثلما ضمّ إلى سروته التي انكسرت سروةَ بسام حجار، أم كان سيد الكلمات سيطردنا إلى مزبلة التاريخ لأننا كسالى متسيّبون أخفقنا في الاقتداء بمثاله في الانضباط، مهمِلون لا نأبه بصنيعنا ونعبئ ذاكرتنا كصندوق القمامة، لأننا منهمكون بالتوافه لا ننسى من نكره ولا نتذكّر من يحبّ ولم تغيّرنا الآلام؟ ربما كان سيرمي بنا غاضباً، ممزَّقين مع مسوّداته، إلى سلة المهملات تحت طاولته الحميمة التي تنقلت معه بين البلدان، ونقلها معه من باريس إلى شقته في عبدون، أو ربما كان سيتركنا سجناء داخل رأسه وصدره، قصائد مؤجَّلة لن يعثر عليها أحد بعد الآن، تائهين بين عقله وقلبه، في قبضة التراب.
لا أعرف شاعراً آخر مثل محمود درويش حين توضع شهوة الكلمات في ميزان الموسيقى. كان يتلذّذ بالكلمة، بالمعنى الحرفي للتعبير، كانتشاء عاشق برسالة حبّ. تلك لذّة، كأي لذة أخرى، يكتنفها القلق. حين أكتب «شاعر لذّة»، ترتسم أمامي، رغماً عني، الشفتان الشهوانيتان لياسر عرفات. أهشّ هذه الصورة، مرتجلاً الانصراف إلى حبّ الشاعر للنبيذ الفرنسي: «تخيّلْ زجاجة خمر من معصرة ميشيل دو مونتيني في بوردو!» سيعيدني هذا إلى التشبيه المحيّر الذي وصف فيه هوميروس البحر «بلون النبيذ». كنتُ أرى هذا اللون في وحمةٍ على وجه حفّار قبور في عامودة، كان يقيس الزمن بلِفافةِ «غازي» ينهي حفر أيّ قبر قبل الانتهاء من تدخينها. كان الأولاد يستفزّونه بمحو النقطة عن فاء «الحفار» في الدعايات التي كان يبخّها بخطّ يده على جدران البلدة. تسمّى تلك الوحمة «قربة النبيذ»، حيث عروق الدماغ العنكبوتية تتغلغل إلى عمق الجلد وتتفرّع فوق الوجه كخريطة مرسومة بالنار. بحر هوميروس خمريّ يتذبذب بين الحمرة والزرقة. (الكلام السالف أعلاه، بعديد أسبابه، يستدعي أيضاً «نبيذها أزرق ويؤنس الزجاج» لآمال نوّار). لعل السبب بسيط. كان النبيذ الإغريقي داكن الزرقة، لأن الإغريق القدامى كانوا يمدّدونه بالماء قبل شربه، كفراً بالعرف الفرنسي السائد. كانت مياه شربهم في جزر عديدة قلويّةَ التركيب فتتفاعل مع النبيذ وينقلب لونه من الأحمر إلى الأزرق. أو لعلّ السبب جائحة من الأشنيات الحمراء التي غزت بحر إيجة أيام حرب طروادة.
هيّا، اسمعِ النصيحة أيها الشاعر الناشئ. أنتَ للنبيذ. هذا مستقرُّ قلبك. انسَ الصُّداع. انسَ أبو نوّاس وعمر الخيّام. أيها المفلس، تأمّل الورد والخمر. شمعتك من صدَقاتِ الكنيسة. قنينة نبيذك الرخيص خضراء فارغة. إنها الآن أصيص القرنفلة الحمراء التي اشتريتها من بائع الورد المتجوّل، أحرجك بإلحاحه وارتبكتَ حين حملتها لا تعلم أين ستخفيها. قال البائع، حنطيّ السمرة مثلك، إنك تنتظر حبيبتك التي تأخّرت عن موعدها. انتظرها. الجمْ بساق القرنفلة أوهامك ورغباتك وطموحاتك. زهرة واحدة مما حملته طائرة الزهور، العملاقة كناقلات النفط، آتية من هضبة الحبشة أو بحيرات كينيا. لا تكلّم نفسك أكثر. ألا ترى كم تشبه الحبَّ هذه المناجاة، مثل دوّامة تشوّش كلّ شيء وتستنزفك؟ أنت، أيها الظمآن إلى الحبّ، استيقظ. أغلق هاتفك وكمبيوترك واخرجْ من هذا الجُحر. هِمْ على وجهك بين الناس، وانتظر دعوةً إلى القهوة تشربها، وقوفاً إن أحببت، في استراحة الصيادين. الليلة، إذا واتاك الحظّ، ستركب البحر إلى الشمال وتصير لاجئاً.
اختلال الحواسّ
لا تنتهي الاستعارات الطروادية في الأدب لأن الحروب والفِتن لا تنام. بعض اليونانيين فلسطينيون. وبين أهل طروادة والفلسطينيين المطرودين إلى البحر المتوسّط أكثر من جذر يؤاخي بينهم في اللغة والمصير عبر التاريخ.
تقول إحدى الروايات إن هوميروس كان مصاباً بعمى دالتون، مثله مثل نابليون الذي كان يرى ندى أخضر غزيراً في الدماء المسفوكة على العشب. يمدّ الزمن طيفَ الأخضر من القداسة إلى الدعارة، من رفارف الأولياء في الإسلام الذي حذّر نبيُّهُ المؤمنين من «خضراء الدِّمن»، إلى الأردية الخضراء للعاهرات في أوروبا المسيحية القروسطية.
اللون زينة المهرّج وحلية المومس. البقاء للأسود والأبيض وحدهما إذا أخذنا برأي ابن سينا. الشعراء أحياناً كالخيّاطين المصابين بعمى الألوان، واثقون من صواب خياراتهم فيرقّعون البناطيل الزرقاء بخيوط خضراء. ما كانت مثل هذه الهفوات لتُغتَفر لدى محمود درويش.
حسر البصر يغيّر بالتأكيد من الإحساس بالألوان وإدراكها. إنه شكل بيولوجي من «خلخلة الحواسّ» التي نادى بها رامبو. لو صحّ هذا الافتراض لدى الكتّاب والشعراء والفلاسفة، سواء كانوا يضعون النظّارات أو لا، للاحظنا كيف رأى شوبنهاور إن الحزن بنفسجي، ولرأينا البحار خضراء بعيني هاني الراهب، ولفهمنا بطريقة أخرى عنوان «الباذنجانة الزرقاء» لميرال الطحاوي، ولأدركنا كيف يرسم طفلٌ الموسيقى وهو منكبّ على الورقة حتى تحولّ عيناه.
ديريك والكوت الذي أعجِب محمود درويش بشعره، كان ليله إذا استحلكَ اخضرَّ كليل العرب القدامى. لم يكن ليله من كُحل أو «من ليلَك». ذكرنا، غير مرة، الخلط الشائع بين الأخضر والأزرق. لعلّ المقصود، في «وأنت للأزرق»، هو الرجوع إلى أوّل الخليقة، فالطحالب والأشنيات الأولى التي استوطنت كوكب الأرض قبلنا، وسبقت جميع المخلوقات الحية إلى الوجود وخلقت أنفاسُها من الضوء هواءَنا، كانت خضراء ثم ازرقّت، أو ربما العكس، والبحر يستمدّ منها لونه وليس مرآة السماء. إذاً، الموت ولادةٌ ثانية، عودة إلى بداية البدايات، المتاهة الأولى. لماذا نرى الألوان أساساً؟ يدرك الدماغ الألوان بعد المقارنة بين موجات متفاوتة الأطوال يرسلها الضوء من مجمل الحقل البصري المتاح للعينين. أما القزحية الزرقاء فتستمدّ لونها من غياب أي صباغٍ في سُداها. بالأزرق يخدع الضوء عقولنا. ليس في أصابعنا خلايا حسّاسة للضوء كقلب الحلزون لنتقرّى دروب الجدران، وإن كانت دهاليز آذاننا ومتاهاتها وقواقعها تحتوي شبيهات تلك الخلايا فتجعلنا نرى بآذاننا في العتمة وتبرهن لنا نبوءات الشعراء.
لا يحتاج اختلال الحواس إلى تعاطي أي شيء. الشعراء والموسيقيون يلوّنون الأصوات، فتبيضّ الضوضاء وتخضرّ الأغاني. ليس نادراً أن نسمع من يقول «مذاق التوت أبيض» أو «اعزف لي الأحمر»، أو «لحّن لي الأزرق». ثمة من يسمع هبوب الريح في صورة فوتوغرافية. ثمة من يشمّ روائح الألوان، فيستاف عطراً ثقيلاً في القباب الفيروزية لجامع الشهيد رفيق الحريري في بيروت أو ضَوْع الليمون في قبة الصخرة (التنويه واجب: يستخدم سعدي يوسف هاتين الكلمتين: «ضوع» و«استاف»). الجوارب السوداء الشفيفة الطويلة التي ترتديها النساء في الشتاء مع جزمات الجلد العالية التي تصل أعناقها إلى الركب، قد لا تولّد أي إثارة. بالعكس، قد تُشمُّ بالعين عن بُعد وتثير النفور بدفئها، دفء يتفسّخ فيه اللحم. لكن تفاهة الروائح الكريهة تُترك لشعراء آخرين يتمرّغون في الوضاعة وقذارات الحياة الواقعية مثل تشارلز بوكاوسكي. أضع اسم «بوكوفسكي» بلفظه الأميركي لكيلا يغضب المدقّقون. ثمة تصوّرات كبعض المفردات خادشةٌ لعشّاق الجمال الخالص. لا يد لي هنا وأنا أردف بما يلي: «إن فاء الإسراف في “التفاصيل” تفوح كفساء المتخمين بفستق العبيد». ثمة من يرى العطور فاجرةَ الزرقة كفجر الرعاة في نشيد الأناشيد. ثمة من يرى العشب الأزرق عانة في غرفة معتمة تحت ضوء القمر. ثمة من يرى في «الأزرق» جناحَ سنونوة وذيل غراب وبحر قزوين ودخان المعارك ودخان السيجارة الأولى بعد ممارسة الحبّ، الطلاءَ النيليّ على وجه ميل غيبسون في فيلم «قلب شجاع»، ضبابَ التوباز الذي يلفّ وجه جولييت بينوش في «أزرق» كيزلوفسكي، ملاكَ غوستاف ميرينك، الهُلامَ الصينيّ في الأكياس الحرارية لإزالة تشنّجات الكتفين، الكواشفَ داخل المسابح اللازوردية حين يتبوّل السابح في الماء فتفضحه غمامة زرقاء تتفشّى حوله كحبر الأخطبوط… وماذا بعد؟ ماذا بعد؟ كثيرٌ هذا الهذر، أو لا يكفي. سيّانِ مقلقان. الخائفون من طيران الزمن يعبثون بالدلالات حين يتراءى لهم الواقع مخيفاً ومضجراً. لن تجد الكلمات حبل التوازن المفقود، ستتهاوى من خفقان النجوم إلى أشداق التماسيح.
شهوات زرقاء
كان محمود درويش يراجع كل المواد المنتخَبة لمجلة «الكرمل» كلمة كلمة، وفيها نشر ما ترجمه صديقه المقرَّب الشاعر طاهر رياض من سونيتات الحب المائة «عارية زرقاء كليلة في كوبا» لبابلو نيرودا. مدركاً الاتكاء المستمرّ لدى الشعراء على عكّاز «كاف التشبيه»، كنتُ أحبّ أن أخطئ فأقرأ في العنوان «كليلةٌ» بدلاً عن «كليلةٍ»، ربما لأني سمعتُ ذات مرة إن الطقس الحارّ في هافانا يذبل الجفون ويعرّي أفخاذ الفتيات السمراوات كالتبغ، فيلففن على جلودهن المتعرّقة السيجار الكوبي. حين صادفت في مقدمة المترجم تعبير «الدفقة الشعرية»، استيقظتْ فكرةُ الشهوة التي هششتُها منذ قليل. هذه المرة سأتوقّف عندها.
لم تحرّك محمود درويش لغة الحبّ، بل حبّ اللغة، لأن شاعراً مثله يصنع الجمال ولا يصفه. أعتقد أن لديه قصيدة عن بيت صديقه نزار قباني، أحد ملهميه في أرستقراطية الذوق. زرقاء كانت القمصان والسجاد والستائر والمرايا وإناء الزهر في بيت الشاعر الدمشقيّ، كلّها زرقاء، ربما حتى بلورات الملح التي تذرفها النشوة على الخدود وبين الأفخاذ.
أكاد أجزم أن شاعراً حسّاساً مثل محمود درويش قد اشمأزّ وتأفّف من روائح كثيرة يمدحها الآخرون. على الأرجح، كان يتمتّع بحاسة شمّ رهيفة، كتلك التي يستشعر بها المصابون بالحساسية قدومَ الربيع، حين تحمل النسائم إليهم هدايا الأزهار، فيعطسون أو تدمع عيونهم قبل غيرهم. فلسفياً، ستحملنا روائح الورد والقرنفل والقهوة بالهيل لديه، ورائحة الياسمين عند نزار قباني، إلى التمثال الحسّاس عند كونديّاك. كان كونديّاك يرمي إلى دحض مذهب ديكارت في الأفكار الفطريّة، فتخيّلَ تمثالاً من الرخام يطابق جسم الإنسان. الحاسة الأولى التي يضفيها الفيلسوف الفرنسيّ على هذا التمثال هي حاسة الشمّ، الأبسط في سلّم الحواس وربما أوّلها في الاستدلال إلى الشهوات. تبدأ سيرة التمثال الحسّاس بعطر ياسمين، وللوهلة الأولى هذا العطر هو الكون كلُّه، ثم يصير عطر وردة فعطرَ قرنفل. حين يعي التمثال عطراً وحيداً يتولّد الانتباه، وحين يبقى العطر بعد زوال المنبّه تتولّد الذاكرة، وحين يستحوذ على انتباه التمثال انطباعٌ راهن وآخرُ ماضٍ تتولّد المقارنة، وحين يدرك التمثال الفروق والتماثلات يتولّد لديه الرأي، وحين يبرز الرأي والمقارنة من جديد يتولّد التفكير، وحين تنبض ذكرى أثيرة بالحياة أكثر من انطباع مزعج تتولّد المخيلة وملَكات الفهم، أما الإرادة فتولَد مع الحب والكراهية، مع الأمل والخوف. حين يعي التمثال إنه عطر قرنفل، بعدما كان عطرَ ياسمين، يقول للمرة الأولى: «أنا».
لن أفتح باب «الأنا». نعلم كم أحبّ محمود درويش دمشق ونساء دمشق، وربما كانت إحداهنّ تحمل وشماً أزرق لدرعٍ وسيف مرسومين على الكشح أو جبل الزهرة الأقرع، أي «وشم الحارس» الذي كان يصون عفّة الفتيات الشاميات في الميدان أو الغوطة ويذود عن عذريتهن. من يدري؟
حينذاك، لم تكن «الحبّة الزرقاء» قد اكتسحت سوق المحرومين. يرغب القرّاء أحياناً في معنى حميمي لما يقرؤون. تلك بالأحرى رغبة وقحة في انتهاك الحميمية قد يفاجئنا وجودها لدى كثيرين، كما يتشوّق متلصّصون إلى معرفة «مكنونات الشاعر»، أي أسماء «نسائه» جميعهنّ حتى العابرات منهنّ، بل خصوصاً العابرات منهنّ. مهما انحطّتْ أفكار القراء الفضوليّين عبر العالم وطفحت بالبذاءة والسفاسف وأشباه الحقائق، فإنهم لا يستطيعون أن يرفعوا ذيل الصفحة ليروا ما يتخفّى في طياتها. هذه هي السوق. هذا هو الإنسان، النسّاء بطبعه.
أزرق كالنسيان هو الفراغ الذي يحلّق صوبه العشاقُ في ذروة الحبّ حيث يتعانق الموت والنشوة، ويتبخّر الوقت بتقسيماته كافة. أزرق أنقى من الكدمات التي تطبعها أفواه العشاق على نحور العاشقات وصدورهنّ.
لننظر إلى «طوق الحمامة» الذي يتقزّح في ضوء الشمس. هل تذكرون من قال بعد الطوفان: «أنا قوس قزح الله»؟ ديموقريطس لم يدرج الأزرق السماوي ضمن الألوان الأساسية. كان قوس قزح لدى لوكريتيوس يتألّف من ثلاثة ألوان فقط هي الأحمر والأصفر والبنفسجي، أضيف إليها الأخضر من قبل أبيقور الذي رأى إن ما ينتج الألوان هو الروابط بين الذرات والجزيئات التي تصاغ منها الأشكال. في جميع الأحوال، لا أرمي هنا إلى فهرسة علمية أو فلسفية لتاريخ الأزرق.
لم يكن أفلاطون يشتكي حين قال إن الألوان وهمٌ يحجب الجوهر الحقيقي للعالم. نحن نتذكّر ألوان الأشياء أكثر من أشكالها. إنها تخدمنا لندرك العالم وتسرّع وتيرة الوعي، لكنها لا تؤثّر على الفعاليات الأساسية لوجودنا. قد تغيّرُ من إدراكنا للصخرة أو سنبلة الشعير أو ريشة الوروار أو ورقة القيقب في تشرين أو الباروكة الخرنوبية لنجاح العطّار، ولكنها لا تؤثر على كينونة هذه الأشياء. تزخر اللغة العربية بعدد هائل من ألطف النعوت. إذا استخدمتُ لوناً آخر وقعه لطيف على العين والأذن مثل «نهديّ» وتنهّدت، فقد أفكّر بعد التنهيدة التي يربو بها صدري أمام الجمال: إن برعم الثدي غدّة عرقية معدّلة.
أزرق كقطط روسيا
كلما سمعتُ تعبير «لا بدّ من مرة أولى» تداعى إلى ذهني افتضاض البكارة. أواخر الثمانينات، أرشدني الأستاذ رجب إلى ديوان المتنبي بتحقيق عبد الرحمن البرقوقي. كان غلافه الخمري دافئاً. ربما بسببه صعب علي التمييز بين الخوخ والبرقوق الذي يسميه الأكراد “شنشلو”، وكنتُ أظن ثمرة البرقوق الزرقاء زهرةً بيضاء قد هاجرت من ليبيا لتتفتّح في جزر اليابان. إضافة إلى المتنبّي، أعارني الأستاذ رجب للمرة الأولى ديوان محمود درويش المطبوع لدى دار العودة، المعروفة بكتبها ذات الأغلفة الحمراء المقوّاة والمزخرفة بأسماء الشعراء الذهبية. حين رأى أبي الكتاب بين يدي، استوقفه اللون الأحمر. قال إنه في موسكو، أيّام نضاله الشيوعي قبل ولادتي بسنين، قد التقى محمود درويش «ومعه شاعر المقاومة الآخر سميح القاسم. كانا منتسبين إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي ويجيدان العبريّة». قد تكون مثل هذه الذكريات العابرة غابرةً ومضحكة. الأكيد أن لدى محبّي الشاعر في العالم العربي آلافاً مؤلفة من الأمثلة المشابهة. أتذكّر شخصاً اسمه سعيد من بلدتي الصغيرة عامودة، ظهر على المدرّجات وسط الجمهور في مباراة كرة قدم من الدوري المحلّي بثّها التلفزيون السوري، وكنا نتابعها عادةً على الراديو يوم الجمعة، اختارته الكاميرا بالصدفة لبضع ثوانٍ فصار حديث الناس في البلدة، وحين عاد في إجازة قصيرة، أثناء خدمته العسكرية، علم بما جرى، فاستكبر وامتنع عن تحية جيرانه.
الضوء الأزرق بين يدي لاعب الكاراتيه، حاشية ختام
هاينريش هاينه أم جان بول ريختر؟ أيٌّ منهما استلهم الآخر حين كتب إن الألمان شعبٌ من الحالمين؟ قال أحدهما، أو كلاهما، إن الألمان أمة من الشعراء والمفكّرين، لأنّ الله لم يترك لهم شيئاً غير الغيوم، بعدما وهب اليابسة إلى الفرنسيين والبحار إلى الإنكليز.
لسوء حظّي، حال سببٌ تافه دون متابعتي لقراءة وليم هـ. غاس الذي تأمّل فوضى «الأزرق» في تاريخ العالم، واستضأتُ بكلامه في أكثر من موضع على امتداد هذه النصوص. أمضيتُ ليلة كاملة أقرأ «سيد الانتقامات السرّية» في «سوناتا ديكارتية»، وحين شاهدتُ لقاء مسجلاً مع الكاتب على يوتيوب، قلتُ لنفسي: «ما أشبهه بترامب!». سرعان ما ترسّخ هذا الشبه في ذاكرتي، فبتُّ أسمعه يقرأ بصوت الرئيس الأميركي، وأرى فمه يميل في وجهه المكتنز مثله، ويكسو رأسه شعر خفيف شاحب الشقرة يغطّي عقلاً ألمعياً، ورحتُ أجد في طرافته شيئاً مخيفاً يعتصر معدتي وينقبض منه وجهي ولا يضحكني بتاتاً. هكذا بات سببٌ عبثي سدّاً بيني وبين واحدة من مباهج القراءات التي لا تُحصى في هذه الدنيا. (أعتقد أنني تذكّرتُ هاينه لأن غاس، مثل ترامب، ساكسونيّ الملامح. هجر هاينه ألمانيا التي منعت أعماله من التداول وقصد باريس الأكثر تسامحاً، قبل مائة عام من إحراق النازيين كتبه ومحوهم اسمه عن الأغنيات).
لا كتابة من دون حوارٍ مع الموتى. حين باشرت كتابة هذا المقال، لوهلةٍ كان حسين البرغوثي يراقبني ويصحّحني، معقّباً على ملاحظة أوّلية هنا أو أخرى هناك. وحين انتهيتُ أعدتُ قراءة سيرته «الضوء الأزرق». انطوت المسافات ووجدتُ في عوالم كلماته بعضاً من نفسي. إنه منهمك بترميم الأنا لا بتضخيمها، في حياة الوحدة التامة والمشي الطويل والسهر الطويل والصمت الطويل. كان صابراً على المتهكّمين والمستهترين، ويخشى التعلّق بأي شيء لأنه سريع الإدمان. كان بمقدور أتفه الأمور وأعظمها على السواء، أن يرمي به من فوق الحافة التي عاش حياته فوقها نحو الجنون الذي ظلّ يخشاه وينتظره طوال الوقت. كان مهووساً بالكلمات. بالنسبة إليه، كل كلمة مغلقة، واللغة سحر أسود. لعنة سرتْ سريان السم في بدن محكومٍ بالإعدام أو سريان الحياة في عروق أميرة نائمة. كلمة واحدة تكفي لتُميت وتحيي.
سيرته في سياتل الأميركية ضاجّة بالمنامات وأحلام اليقظة والكوابيس، رأى فيها الأشباح والموتى والحشّاشين وبائعي المخدّرات والعاديين الغريبين والرعاع وجامعي القمامة والبوهيميين. كما تضجّ صفحاته بالذكريات والهلوسات والوساوس وأوهام الفصاميين الزوريين وهذيانات المهوسين المضطهدين، لا يغيب عنها «الحس الذهبي بالضحك»، ولا رؤى الشعراء والمتصوّفة. وبسبب الأشباح، كان الشاعر الذي أجاد ألعاب الدفاع عن النفس ينام أحياناً في المطبخ مرتدياً ملابس الكاراتيه. لم يكبر الطفل الفلسطيني الذي ظلّ يحلم بمطاردة البحر له في بيروت، حتى يرشح ماء الموج من عرق جسده داخل الكوابيس وتنقذه أمّه. كان الطفل ابن الجبال غريباً عن البحر، لم يره أبداً عن قرب لأن إسرائيل احتلت المكان كله قبل ولادته.
عاش المثقف المعدَم العصامي بأخفّ ما يمكن من المقتنيات، تقلّبت شهيته لمخالطة الناس بين الإنصات إليهم وإطالة الحديث معهم والهروب منهم. ذهنٌ متوقّد مؤرَّق لا تتوانى الغرائز عن مناداته وقلبٌ لا يهدأ له قلق. هذا هو حسين البرغوثي، ماشياً على غير هدى في سياتل، يجمع البنسات وسدادات علب الكولا ويحاور الضائعين. يكاد ينهار من الجوع أحياناً، ولا طعام للمفلس العائد إلى رام الله إلا البيض النيء. هذا هو مجنون الله التائه، الفقير الزاهد الجوّال المستعطي كما تفيد كلمة «درويش» الفارسية. هذا هو الملعون بحياة الطلبة الدائمة، متنقلاً كضيف بين غرف الآخرين ينام على أرائكهم ويتطيّر من ارتدائه ملابسهم. ثمة أكثر من عروة وثقى بينه وبين باسم النبريص، الغزّاوي جوّاب برشلونة. كلاهما قارئ نهم وعين لا تكلّ، مشّاء ومتسكّع. إنهما، على النقيض من محمود درويش، حُرّان في الشوارع، في متاه الأزقة وهوامشها. مرحهما حزين وطاقة إقبالهما على الحياة تتاخم التشتُّت، ينعشهما الانتباه المتواصل وترهقهما الذاكرة القوية، وتؤنِسهما معاشرة الصعاليك والمتشرّدين.
في البوذية، السماء النقية كناية معروفة عن صفاء الذهن وقداسة الفراغ. يصفو العقل عقب المصائب. يلي الموت عادةً لحظاتٌ نادرة شديدة الصفاء ينبغي اغتنامها بالامتناع عن أيّ نشاط. ذاك نوعٌ من الهدف المنشود. يحدث أن تُكتب المقدمات من أجل الحواشي. أقول هذا لأن ثمة استعارات بوذية عديدة حاضرة لدى حسين البرغوثي الذي رأى في المكان متاهةً ومصيدة وفي الذاكرة معمل أشباح، وطارد الكتابات المقدسة لحكماء الشرق، المفعمة بسحر الزرقة، لون طاقة الخلق فينا. سما عقله فسطا على روحه فجفَّ قلبه، وكتب في قصيدة من سيرته: «كنتُ “الفراغ” الذي في داخل الناي». كنتُ أحياناً أضجر مما يتراءى لي طابعاً تلقينياً في الحوارات مع «بري»، التركيّ الآتي من قونية جلال الدين الرومي إلى سياتل، تكاد كل عباراته تنتهي بتعجب «يا رجل!»، ودائماً يلفّ لفافة تبغ ويبصق الفتات. لم يوفَّق الشاعر دوماً في المزج بين الجنون والحكمة المشرقية والتصوّف، بين الأبله والساذج والغريب والعبقريّ. لقد تتلمذ في دروسه الروحية على مجنون، وطارت أفكاره من زرقاء اليمامة وطائر الروح الأزرق المهدَّد بالانقراض إلى أهريمان وموسيقى البلوز وأغنية لويس أرمسترونغ: «لماذا أنا حزين وأزرق؟»، ولم تكمل التحليق.
طوفان المعلومات المذرذرة لا يفضي إلى أي فهم. لا يبقى منه إلا حُطام أفكار وثمالة أحاسيس تجرفها السيول مع الأنقاض والنفايات. هذا ما يُلمَس في الحياة اليومية. كان الحلّ الذي اجترحه حسين البرغوثي هو الضوء الأزرق الذي يربط بين المتباعدات، ضوء الطفولة ولياليها الصيفية والصمت والأحلام. لم أقتنع تماماً. لا أزال أبحث عن حلٍّ آخر. يقال في غوطة دمشق إن نابليون التقى عجوزاً شامياً وفي يده ملعقة صغيرة يغرف بها من ماء البحر ويرميه بين الصخور فيشربه الرمل. الإمبراطور الفرنسي سأل العجوز عمّ يفعل، فأجاب إنه يريد أن يفرغ البحر: «معك معك بيفضى، إن الله مع الصابرين».