مساء الجمعة الثاني والعشرين من شباط/فبراير الماضي، كان كثيرٌ من السودانيين والسودانيات يصطفون أمام أجهزة التلفاز، بانتظار خطاب عمر البشير الذي كان قد تم الإعلان عن موعده مسبقاً. تأخر الخطاب ما يزيد عن الساعتين بسبب تأخر اجتماع البشير مع المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي يتزعمه، وهو ما رفع من حالة الانتظار والترقب التي عزّزتها تسريبات من لقاء رئيس جهاز الأمن والمخابرات مع الصحفيين عصر ذلك اليوم.

كانت تلك التسريبات قد تضمنت أحاديث عن نية الرئيس الاستقالة من رئاسة الحزب الحاكم، وعن أنه سيتعهد بعدم الترشح في انتخابات العام القادم، وهو الأمر الذي حمل البعض على الاعتقاد بأن خطاب البشير سيحمل شيئاً هاماً وجديداً هذه المرة. لكن الخطاب جاء متناقضاً ومخيباً للآمال، ففي حين كانت اللهجة مهادنة وتصالحية ظاهرياً مع المتظاهرين، مثل قوله إن «للمحتجين مطالب مشروعة»، بالإضافة إلى دعوته للحوار مع التنظيمات المعارضة والشبابية وتأكيده أنه «سيقف على مسافة واحدة من كل القوى السياسية»، جاءت القرارات التي تضمنها الخطاب على عكس ما توحي به تلك اللهجة، فقد أعلن البشير فيه حالة الطوارئ في البلاد، بما تتضمنه من حظر للتظاهر والتجمهر والتجمعات والإضرابات، والحق في دخول المباني والمنشآت دون إذن قانوني، والحق في مصادرة الأموال والممتلكات وغيرها.

تواصلت «قرارات الطوارئ» في الأيام التالية، إذ تم حلّ الحكومة وعزل حكّام الولايات، واستبدالهم بزمرة من الجنرالات العسكريين والأمنيين من بين الأكثر ولاءً، وعلى رأسهم الجنرال عوض ابن عوف قائد الاستخبارات العسكرية السابق، الذي تم تعيينه نائباً أولاً للرئيس ووزيراً للدفاع. والجنرال ابن عوف هو أحد المتهمين بارتكاب جرائم حرب في السودان، وهو مطلوب مثل البشير إلى محكمة الجنايات الدولية. كذلك نقل البشير صلاحياته الحزبية لأحمد هارون كرئيس مؤقت للحزب الحاكم، والهارون مطلوب بدوره أيضاً لمحكمة الجنايات الدولية بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب.

ترى بعض التحليلات في هذه الخطوة (الطوارئ وما بعدها من قرارات) تصعيداً لحرب غير معلنة بين البشير وحزبه الحاكم، ربما تؤدي إلى أن يقوم أحدهما الاطاحة بالآخر، لكن أغلب الدلائل تشير إلى ضعف هذه الفرضية، إذ أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم هو في الحقيقة لا يزيد عن كونه تجمعاً من شبكات المصالح الاقتصادية والمالية، وقنوات لممارسة المحسوبية السياسية وشراء الولاءات التي تضمن استمرار النظام، أكثر من كونه حزباً صاحب توجه إيديولوجي واضح أو قاعدة شعبية عريضة، ما يعني أن بقاء الحزب من بقاء البشير وفناءه من فنائه. كما أن جماعات المصالح هذه أضعف من أن تجاهر بعدائها للبشير، وهي في الوقت نفسه تخاف الجماهير التي لم تغادر الشوارع منذ ثلاثة أشهر، والتي تزداد مطالبها جذريةً يوماً بعد يوم، ويبدو أنها لن ترضى في حال انتصارها بأقل من المحاكمات والمصادرات، وربما المشانق، ضد من استمر في قهرها وإذلالها واستغلالها ثلاثين عاماً.

وربما يفسر هذا حالة التردد والصمت التي تنتهجها أجنحة الحكم حيال الثورة، فباستثناء بعض الأحزاب الصغيرة وبعض قدامى الإسلاميين المبعدين من دائرة صنع القرار الفعلي، لم تتخذ أي من أطراف الحكم موقفاً حاسماً وواضحاً في انحيازه للثورة. والأمر نفسه ينطبق على الجيش، الذي ورغم حالة التململ وأحياناً الاعتراض وسط جنوده وضباطه من الرتب الصغيرة والمتوسطة، إلا أن قادته لا يزالون خلف البشير، الذي يضمن ولاءهم منذ زمن بفضل الامتيازات الاقتصادية الواسعة التي منحها لهم تحسباً لأي انقلاب محتمل. ولا ينفي ذلك تماماً احتمال أن تقوم هذه الأجنحة بالانقلاب على البشير والقفز من السفينة الغارقة في اللحظة الأخيرة، ذلك فقط إذا رأت في استمرار دعمها له عائقاً أمام استمرار مصالحها، ويبقى هذا طبعاً رهيناً باقتراب الانتصار الحاسم للجماهير في الشارع.

وبالعودة إلى خطاب البشير وإعلانه حالة الطوارئ، فإن أياً من تلك القرارات لم تنجح في احتواء الثورة أو كبح جماحها، بل العكس، إذ خرجت التظاهرات الليلية بعد دقائق من خطاب البشير واستمرت حتى الساعات الأولى من الصباح، وكانت الأكثر كثافة والأوسع انتشاراً ربما منذ بداية الثورة.

في الأيام اللاحقة، استجاب الآلاف لدعوة تجمع المهنيين السودانيين للخروج في مواكب التحدي طوال الأسبوع الماضي، كان أكثرها حشداً وانتشاراً يوم الخميس الماضي. وقبل ذلك، في يوم الثلاثاء الثاني من آذار/مارس، انتظمت قطاعات عمالية ومهنية في إضرابات جزئية عن العمل، شملت الأطباء والصيادلة والمحامين والمعلمين والصحافيين، وسائقي المركبات الصغيرة وموظفي الشركات والمؤسسات الخاصة بالإضافة للطلاب.

وفي يوم الجمعة الذي صادف يوم المرأة العالمي في الثامن من آذار/مارس، خرج الآلاف في عدة أحياء وشوارع بالعاصمة والولايات في «مواكب المرأة السودانية»، تكريماً لنضالات النساء السودانيات وتحية لصمودهنّ في وجه القهر والتمييز الذي يتعرضنَّ له يومياً في المنازل وأمكنة العمل كما في الشوارع والمعتقلات.

لم تفلح لهجة الرئيس المهادنة والمتصالحة ظاهرياً في احتواء غضب السودانيين، إذ يبدو واضحاً أنهم سئموا وعوده وأكاذيبه، وهم أيضاً يعلمون أن دعواته للحوار هي دعوات للحوار بشروطه هو، بما يضمن بقاءه في الحكم، ويرون أن تأجيله للتعديلات الدستورية التي تسمح له بالترشح مجدداً للرئاسة ليس إلا محاولة للمماطلة وشراء الوقت حتى يتسنى له قمع الثورة، ليعود لاحقاً من جديد إلى سيرته الأولى، وتشهد على ذلك تصريحاته السابقة بعدم الترشح في انتخابات العام 2015.

استمرار مظاهرات السودانيين وإضراباتهم وكافة وسائل احتجاجاتهم السلمية رغم فرض حالة الطوارئ، هو الدليل العملي على أنهم لن يتراجعوا حتى الإطاحة بالبشير ونظامه معاً، فهم يعلمون جيداً أن «الطوارئ» تحكمهم فعلياً منذ ثلاثين عاماً، إذ لا جديد في مأسسة العنف والإفقار والتشريد. مظاهرات السودانيين المتجددة رغم كل شيء، هي الدليل على ثباتهم خلف شعارهم الخالد «تسقط بس».