وها هو صوت السنونو يطرق النوافذ مبشراً باقتراب الربيع

المنبه يرن، الساعة السابعة صباحاً، الأرق يتمطى من النوم الذي حرمني منه لساعات، أزيح غباشة العتمة عن عيني فأرى الضوء، أزيحها أكثر عن أذني، فأسمع صوت السنونو الذي يذكرني بأنه في مثل هذا الوقت تقريباً قبل سنتين، ابتدأ النظام مرحلة «التطهير» النهائي لمدينتي؛ وبأنني مذ حللت هنا، بعدما كنتُ في حي «محرر»، اختلف عليَّ كل شيء؛ وبأنني حتى الآن بالكاد أستوعب أني كنتُ يوماً في المدينة التي كان يطلق عليها «مهد الثورة»، لأصبح فيما بعد مجرد شاهدة بكماء عليها وهي تنازع موتها.

وابتدأ يومي بالذهاب الكئيب إلى العمل

في حوالي الساعة الثامنة صباحاً، أو بعد، أو ربما قبل، تمر يومياً سيارة السجن، وهي أشبه بشاحنة ضخمة، لونها رمادي، أمامها وخلفها سيارات عسكرية للحراسة، ولها زمور مرعب لن أنسى صوته ما حييت. لم أكن أعرف في البداية أنها سيارة سجن، حوقلت السيدة التي كانت واقفة إلى جواري تنتظر السرفيس وقالت إنها سيارة السجن؛ تنهد الرجل الذي كان أيضاً ينتظر السرفيس وقال إنها سيارة السجن، وأضاف إنهم ربما يكونون الآن مسافرين لتتم محاكمتهم في دمشق؛ قال لنا سائق السرفيس بحرقة: «هل رأيتم أياديهم؟»، رفع صوته ونظر إلينا مستنجداً، وأعاد لنا مكرراً بعد أن انحشرنا فوق بعضنا داخل السرفيس: «هل رأيتم أياديهم وهي تلوح لنا من النافذة الصغيرة في الأعلى؟». صمتَ الجميع بخنوع، ووحدي جاوبته بأني لم أرهم: «ليتني رأيتهم»، قال السائق بحرقة عتيقة إن سيارة السجن الكبيرة مقسومة إلى قسمين، نصفها للرجال، ونصفها الآخر للنساء، وبأنّ بعض الأيادي كانت تلوح لنا من النافذة الصغيرة في الأعلى. حاولتُ أن أناقشه أكثر، لكن العيون المحملقة والآذان الكبيرة والأنوف المحشورة في السرفيس جعلتنا نصمت. بقي السائق يتمتم وحده، ورفع صوت المذياع بحيث لم يعد بإمكان أحد سماع ما يقول.

والعيون الساهرة ترافقنا للعمل

كان الرجل الأسمر، الرشيق، ذو الغمازة المغروزة في ذقنه، يساعد بعض الموظفين في حمل بعض الأشياء الثقيلة للداخل، وهو يبتسم للجميع بمودة، ويرد عليه الجميع بمودّة أكبر. خُيّلَ لي أنه ربما يكون عاملاً جديداً، أو صديقاً لأحدهم.

في نهاية الدوام، كانت على طاولتي ورقة:

– املأيها كاملة.

– فيها كثيرٌ من التفاصيل.

– املأيها كاملة.

مكتوبٌ هنا: هل لديكِ أحدٌ محكوم في العائلة!!

– أين درستُ الإعدادية؟ والثانوية!!

– هل قمتُ بتسوية من قبل؟

– املأيها كاملة.

– هل سبق وسافرت خارج القطر؟

– املأيها كاملة.

– هل أحد من أقاربكِ هارب من الجيش؟

– هل أحد من أسرتكِ أو أقاربك قام بتسوية؟

– كاملة.

وكان الرجل الأسمر الرشيق ينتظر ريثما يجمع الأوراق منا جميعاً، نحن الموظفون، الذين علينا جميعاً أن نملأها بالمعلومات الكاملة.

والأطفال يكبرون بسرعة

قالت لي المرأة الأرملة، الفخورة بابنتها ذات الثلاثة عشر عاماً، إن ابنتها موهوبة في الرسم، وإنها تمضي ساعات طويلة في التزيين والديكور. قلتُ لها: «إذن أدخليها في المستقبل هندسة ديكور»، لكن الأم قالت لي، بعد أن أزاحت طرف الحجاب الأسود عن وجهها وهي تضربني بمودة بيدها: «اسكتي… البنت قالت لي إنها لا تريد أن تدرس، وإنها تريد أن تدخل الكلية الحربية وتصبح ضابطة في الجيش مثل خالها».

ثم جاءت لحظة صمت دامت سنة، قبل أن أقول لها وأنا أشعر بأن أسناني تتكسر داخل فمي: «الله يحميها، إن شاء لله»، وردّت الأم ورائي: «إن شاء لله يا رب».

والمطر كان يهطل، كأن السماء عاتبة جداً على أحدهم وهو لا يبالي

في طريق العودة من العمل تأخر السرفيس، وكان المطر ينهمر. وقفتُ على أطراف الرصيف المتكسر أنتظر، والمطر ينهمر، أصبحت الأوراق التي بين يدي مبللة بالماء، والمطر ينهمر.

أخذتُ سيارة أجرة.

بعد أمتار، أوقفنا شرطي المرور، وبدأ بتأنيب السائق لأنه كان واقفاً في مكان مخالف، لكن السائق ابتسم له بثقة وحيّاه وأعطاه بعض الأوراق. أخذها الشرطي منه، ثم ردّها إليه، وأكملنا المسير. قال السائق، الذي اتضح أنه ليس سائقاً،  إنه كان يعمل في الأمن السياسي وانتقل إلى عمل إداري في الجيش، ولأنه كذلك، فلا يحق لأحد بحكم القانون أن يعترضه ويصدر بحقه مخالفة. قال إن عمه نائب مديرُ فرع أمني، وإن صهره ضابط في الحرس الجمهوري. قال إنه يمتهن السواقة للتسلية فقط، ثم سألني عن مكان عملي. أجبته صاغرة «في منظمة محلية اسمها (…)»، قال هؤلاء الكلاب، الع….ات، جميع العاملين فيها من المتأسلمين الشياطين، كلهم يجب شحطهم وفعسهم، كلهم خونة، اسأليني عنهم.

لم أسأله، التزمت الصمت.

– أين تسكنين؟

– كم أخاً لديك؟

– أين هم؟ مسافرون؟ نظامي أو…؟

– ماذا يعمل والدك؟

– وأمك؟

– بيتكم أجرة أم ملك؟

– متزوجة أم عزباء؟

– هاتِ رقمك.

رفضتُ طلبه ولكنه أصرّ، قال «رنيلي فقط»، قلتُ له إنه ليس معي رصيد، قلتُ أعطني رقمكَ وأنا أتصل بك. وافقَ على مضض. سجلتُ رقمه في هاتفي وسميته ابن الحرام.

قال: تتصلين مساء، هل هذا وعد؟

– وعد

– وعد الحرّ دين… أنتظر اتصالكِ

– …

وفعلاً.

وعد «الحرّ» دين.

وليل الشتاء الطويل الذي لا ينتهي

أحياناً أفكر أنه لو كان للهب الشمع لسان، لكان عاتبنا لأننا تخلينا عنه واستبدلناه بضوء «اللدّات» التي تشتغل على شواحن كهربائية.

قالت أختي إنهم قطعوا الكهرباء في الرابعة. الساعة السابعة الآن، ثم الثامنة، أصبحت التاسعة وتهرول نحول العاشرة، اللدّات أصبحت أضعف من أن تضيء، والعتمة أكلت رؤوسنا، ولا شمعة في البيت تعاتبنا بلهيبها. انقطاع الكهرباء هنا لساعات طويلة أمر اعتدناه منذ سنوات، جميعنا رؤوسنا مدفونة في الهواتف الجوّالة، وعلى الجوّال تكتب لي صديقة أن بناءهم فيه حركة مريبة، وأنـ«هم» اقتحموا بيت جيرانهم عنوة، وكسروا الباب ودخلوا، وأن عناصر دورية كاملة ينتشرون في الأسفل، وأنها رأت من العين الساحرة، (العين الساحرة؟)، شاباً معصوب العينين ينزل برفقة بعض عناصر بعضهم يرتدي الزي العسكري وبعضهم الآخر بالزي المدني.

قالت إن أهلها يرتعدون، نظرتُ إلى عائلتي، وكانوا بدورهم يرتعدون، لكن من البرد، وكنت أنا أرتعد أيضاً، لكن ليس فقط من البرد، بل ومن الخوف أيضاً.

وقلتُ لنفسي إن الأمس مضى، وها هو يوم جديد، الشمس فيه مشرقة على غير عادتها

تحدَّثَ لي أحدهم عن نيته افتتاح مشروع جديد، وعرض عليَّ العمل فيه. كنتُ في أشد التوق إلى ذلك، لا سيما أن عملي مؤقت وسينتهي عمّا قريب. وبعد أن أغرقني بالآمال الوردية عن المشروع، قال إن عليَّ القيام بمقابلة صغيرة مع رجل من الأمن، حيث سيأتي ليدردش معنا، نحن المعنيون بالمشروع، من أجل إجرءات الموافقة الأمنية التي يجب تخرج من العاصمة دمشق.

قال إنه أمر روتيني يحدث لكل من يريد القيام بعمل جديد، وعلّمني ما يجب أن أقوله وما لا يجب أن أقوله، مؤكداً أن «أبو المجد»، أي عنصر الأمن، هو من سيتصل بي، لأنه أعطاه معلومات كاملة عني، وقال عنه إنه «آدمي، وحباب»، والموضوع بسيط لا خوف منه.

تلاشى توقي للعمل، وندمتُ أني وافقت.

وجاء أبو المجد.

ثم فتح الدفتر الضخم وبدأ يسجل:

– اسمك؟

– منى.

– هل أنت عاملة أم نصيرة في الحزب؟

– (كنت قد نسيتُ معنى الكلمتين).

– أجيبي؟ عاملة أم نصيرة؟

– عاملة.

– طيب، متى كان آخر اجتماع حضرتيه للحزب؟ وهل تدفعين الرسوم؟

– … لم… لا أذكر… بالثانوي.. لا أعرف.

– حسبي الله، عمو أنت معناها نصيرة.

– كما تشاء.

– هل دخل أبوك السجن يوماً؟ أخوتك؟ عمك؟ خالك؟ وماذا بشأن أولادهم؟ طيب والبقية من عائلتك؟

– ماذا يعمل إخوتك وعمومك وأخوالك في الخارج؟ ومنذ متى؟ وكيف… ولماذا… وأين… وهل…؟

اتصلَ بي صاحب المشروع فجأة مقاطعاً «التحقيق»، ليذكرني بأن عليَّ أن أعطي أبا المجد «حلوانه». لم يخطر ذلك في بالي أبداً!

– تفضل

– لا والله… لا والله…

– مبلغ ضئيل، ليس من مقامك.

– أعوذ بالله.

– لأجل تعبك معنا.

– مستحيل.. مستحيل…

– هذا حقك وواجبنا، لا شيء أكثر.

– لاحول ولا قوة… طيب هاتيه.

يتحسّس المال، وقبل أن يخرج، يقترب قليلاً، ثم يهمس لي: «عمو أي شي بدك ياه بخصوص العمل اتصلي بي، وإن لم يعطوكم الموافقة، أنا أتكلم مع أصحاب العمل هنا، كلهم أصدقائي، يمكن أن أساعدك ليوظفوكِ».

أخرجُ لأتنفس، ويطول الطريق

أصعد السرفيس وأختار أبعد طريق، بات السائقون يحفظونني. بعد مرورنا بدوار مرمم حديثاً، كان رجلٌ ملقى على الأرض على النصف الآخر من الطريق، وكان يبدو أنه تعرض لحادث وأنه شبه ميت. كانت السيارات التي قبلنا تمرّ من دون أن تعطي له بالاً. توقف السرفيس بموازة الرجل المرميّ لبرهة، قالت سيدةٌ بهلع: «أنقذوه… إنه ينازع»، وقال رجل بصوت مرتبك إنه لا دخل لنا، وقالت امرأة أخرى إنها تأخرت عن موعدها ويجب أن تصل، وقال صاحب السرفيس إنه يتمنى لو ينقذه، لكنه لو فعل فسيقع البلى عليه وستستلمه الشرطة لتحقق معه، وهو لا يريد هذا الابتلاء. صرخت السيدة هلعة مجدداً: «حرام عليكم… أنقذوه»، لكن أحداً لم يردّ عليها، بينما تابع السائق مسيره للأمام الذي شعرتُ أنه أصبح «للخلف»، وشعرتُ أن العيون والأنوف والآذان المحشورة تلتفت لرؤية جثة الشخص شبه الميت المرمية على ناصية الطريق.

شعرنا لوهلة أنها كانت جثتنا جميعاً، وأننا تركناها على الأرض تنازع وهي في الرمق الأخير.