لقد أراد أستاذ الفكر السياسي في جامعة دمشق، الدكتور الراحل سمير إسماعيل، لمؤلَّفه أساطين الفكر السياسي: من ميكافيللي إلى جون لوك، أن يكون مرجعاً علمياً للطلبة ودارسي العلوم السياسية، وللباحثين المختصين وأصحاب الاهتمام، إذ يستعرض فيه تاريخ الفكر السياسي وأبرز مفكريه والتيارات والموضوعات الأساسية فيه، بدءاً من ميكافيللي وصولاً إلى جون لوك، كما يشير الكتاب في عنوانه.
صدر الكتاب عن دار بيسان عام 2018، بعد أربعة أعوام من وفاة مؤلفه، وهو يتألف من أربعة فصول في 285 صفحة، يسعى هذا النص إلى استعراض أهم ما جاء فيها، وفقاً للترتيب الزمني والتصنيف المفاهيمي الذي اعتمده المؤلف.
دفاعاً عن ميكافيللي
يعد نيكولو ميكافيللي (1469 – 1527) من أشهر المفكرين السياسيين الذين عرفتهم العصور الحديثة، وتعود شهرته أساساً إلى انتهاجه خطاً مختلفاً عما كان رائجاً في الكتابات السياسية في العصور الوسطى وما قبلها. وتكمن نقطة اختلافه الأساسية في أنه أول مفكر أوروبي يطرح، بوضوح لا لبس فيه، موضوع الانفصال بين السياسة والأخلاق، حيث «الغاية تبرر الوسيلة». وقد كرّسَ ميكافيللي جلَّ مؤلفاته لإنتاج مفهوم جديد للسياسة بصفتها علماً وضعياً منفصلاً عن الدين والأخلاق، إذ كان ببساطة ينزع إلى تخليص السياسة من أي اعتبار خارجي، وإلى جعلها علماً مستقلاً بذاته. ورغم تعدد مؤلفاته وتنوعها، إلا أن أبرزها هو كتاباه، الأمير والمطارحات.
في مؤلفاته، دشَّنَ ميكافيللي طريقة جديدة في الكتابات السياسية، تمتاز عن طرائق الآخرين بميزتين أساسيتين: الأولى هي تركيز اهتمامه على معطيات العالم السياسي الواقعي، وإهمال أي حديث عن إقامة جمهوريات أو إمارات مثالية. والثانية هي عدم الاكتراث بمقولات علماء الأخلاق عمّا يجب فعله، بل الاهتمام بما يُعمل حقاً، بما يفعله الأمراء بصورة خاصة للحفاظ على سلطتهم.
يمكن تحديد النقاط الأساسية في منهج ميكافيللي وفسلفته السياسية، بالآتي :
– يعتمد ميكافيللي على اختبار الأفكار، وذلك بعرضها على مختبر التاريخ، وملاحظة تكرار وقوعها، واستقصاء النتائج الحسنة أو السيئة التي تترتب عليها بالنسبة للحاكم أو الدولة، ثم استقصاء طبيعة السلوك الذي أدى إلى هذه النتيجة أو تلك.
– عندما تتكرر نتيجةُ حادث ما، فإن ميكافيللي يلجأ إلى تعميمها وافتراض أنه عندما يقع حادث مشابه، فإنه سيؤدي إلى النتيجة ذاتها.
– يعمد ميكافيللي إلى تحديد طبيعة النتيجة التي آل إليها الفعل، هل هي من النوع المرغوب فيه، أم أنها مكروهة بالنسبة إلى الحاكم أو الدولة؟ وبناءً على ذلك يضع ميكافيللي القواعد الملائمة لنوع السلوك الذي ينبغي إتباعه.
– المعيار الذي يقترحه ميكافيللي للحكم على طبيعة الأفعال ونتائجها هو «المصلحة»، التي يعتمدها معياراً وحيداً نقيس عليه ونحكم بموجبه على الأفعال ونتائجها. وهكذا يرى ميكافيللي أن «المفاهيم الأخلاقية» لا تكتسب معناها إلا في ضوء نتائجها العملية.
في كتاب المطارحات، يظهر حماس ميكافيللي الشديد للنظام الجمهوري، وتفضيله له من بين أنواع الحكومات، فالنظام الجمهوري، حسب رأيه، يتصف بفضائل من الصعب توفرها في النظام المطلق، فيكتب: «إذ عندما تكون العامة في الحكم، وتكون حسنة التنظيم، فإن الإستقرار يكون طابعها، والعقل والاعتراف بالجميل مميزاتها، بطريقة أفضل من تلك التي يظهر فيها الأمير، مهما كانت مكانته رفيعة وعالية في مجال الحكمة». ويعتبر ميكافيللي أن: «الفضيلة الموجودة لدى الشعب في النظام الجمهوري تفوق ما يوجد منها عند الأمير»، وهو يرى أن النظام الجمهوري يتصف بحساسيته السياسية وقابليته للتطور والتجدد، كما أنه أكثر احتراماً للاتفاقيات والمعاهدات الدولية من النظام الملكي.
أما كتاب الأمير، فقد كتبه ميكافيللي مسكوناً بحبه للقومية الإيطالية، وبرغبته الجامحة في توحيد وطنه المجزأ، وخلاصه من خلافاته وانقساماته. كان شعوره القومي وإحساسه بعظمة الروح الإيطالية وإمكانية استنهاضها وبعثها، طاغياً على أي فكرة أخرى. ولعل هذه العاطفة المتوثبة كانت وراء اعتبار السلطة المطلقة التي لا ترحم مثلاً أعلى، فخصص كتابه هذا لتمكين الأمير المنقذ من امتلاك الأدوات والوسائل التي يمكن أن تساعده على تحقيق هذا الحلم، توحيد واستنهاض إيطاليا. وقد ركّز ميكافيللي في هذا الكتاب على المزايا والخصائص التي يرى ضرورة مناقشتها عند الحديث عن سلطة الأمير، منها: الكرم والبخل، الرحمة والقسوة، الوفاء بالعهود والنكث بها، عدم الحياد. ويعدّ «مبدأ عدم الحياد» من المبادئ الهامة التي ينصح بها ميكافيللي أميره.
الفكر السياسي للحركة الإنسانية
يمكن النظر إلى الفكر السياسي، الذي عبرت عنه الحركة الإنسانية في عصر النهضة الأوروبية، بإعتباره اتجاهاً آخر يختلف عن النزعة الميكافيللية في مرتكزاتها الفلسفية وتوجهاتها ومقولاتها، ويتناقض معها. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى نقطتين أساسيتين: الأولى أن الحركة الإنسانية قد ركزت بشدة على الفضائل العامة، وعلى القيم والقواعد الأخلاقية والدينية، وأولتها أهمية كبرى في تصوراتها وأفكارها السياسية. بينما نحت النزعة الميكافيللية بإتجاه آخر، وشددت على النزعة الفردية والأنانية، ولم تبال بالفضائل والقيم إلا بمقدار نفعها، ودعت إلى إلتزام الحياد فيها.
النقطة الثانية هي أن النزعة الإنسانية اتخذت منحى عاماً يمقت الحروب، ويرفض اللجوء إليها أو استخدام القوة ووسائلها، مقابل النزعة الميكافيللية التي مجدت وشرعنت استخدامها للوصول إلى الغايات السياسية.
ويستعرض المؤلف أهم أعلام الحركة الإنسانية في عصر النهضة، ومعالم فكرهم السياسي الرئيسية:
1- ديديه إيراسموس (1469 – 1536)
بعد أن شهدت مرحلة النهضة على الصعيد السياسي قيام وانتشار أنظمة الحكم المطلق في عموم القارة الأوربية، كانت السمة العامة التي هيمنت على الفكر السياسي في تلك المرحلة، هي الدفاع عن هذه الأنظمة والتنظير للاستبداد وشرعنته على أسس عقلية وفلسفية جديدة، وسواء جرى الحديث هنا عن (الأمير، ميكافيللي)، (لفياثان، هوبز)، (كتب الجمهورية الستة، بودان)، أو حتى عن كتابات أولئك الذين رفعوا راية الإصلاح الديني (لوثر وكالفن)، فإن القاسم المشترك بين هؤلاء جميعهم هو أن أفكارهم وجهودهم انصبت في نهاية المطاف على خدمة الحكم المطلق والتنظير له. وبالمقابل، عبّر إيراسموس ومعه الحركة الإنسانية إجمالاً عن نزوع سياسي مختلف، يقوم على رفض الاستبداد وأدواته، ويدعو في الوقت ذاته إلى بناء السياسة على دعائم من الفضيلة والأخلاق المستمدين من روحانية الكتاب المقدس وتعاليمه.
ويمكن أن نقسم كتابات إيراسموس ذات الصلة بموضوعنا إلى مستويين أساسيين؛ الأول نقدي– هجائي ساخر، موجه إلى المجتمع بمستوياته ورموزه المختلفة. والثاني: سياسي–تربوي، يتناول فيه إعداد الأمير الحاكم وفق التقاليد الأخلاقية–اللاهوتية كما يراها في المسيحية. ولقد كان يؤمن بعنق أن خلاص المجتمعات الإنسانية من مختلف الشرور التي تحيق بها، مرتبط بمقدار ارتباط الحاكم بالأخلاق المسيحية أو ابتعادها عنها.
تبدو السمة الأساسية التي تنحو إليها كتابات إيراسموس، وتكاد تطغى على جميع اهتماماته وأفكاره الأخرى، هي هجاؤه للحرب وتعنيفه إياها ودعوته للسلم بين الدول والمجتمعات والأفراد. وأمام المشهد الكارثي الذي تخلفه الحروب، يرى إيراسموس في السلام شرطاً لكل ازدهار، ومصدراً وحامياً لكل الأشياء الطيبة في السماء والأرض، ويرى أن السلام غير العادل أفضل من أكثر الحروب عدالة وإنصافاً.
2- توماس مور (1478 – 1535)
برز توماس مور من خلال كتابه يوتوبيا، الذي ألّفه في فترة نضجه وتكامل مواهبه، عندما كان قد بلغ السابعة والثلاثين من عمره. في هذه المرحلة من حياته، كان قد أسّس لعلاقات وطيدة مع كبار مثقفي عصره، وفي مقدمتهم إيراسموس الذي كان قد وضع كتابه الشهير مديح الحماقة، وأهداه إلى صديقه مور. لقد كان التطابق بين هذين المفكرين كبيراً، وبخاصة فيما يتعلق بمكونات اتجاههما الإنساني.
من الواضح لمن يقرأ يوتوبيا، أن هذا العالم الخيالي الذي يُحاط به، قد استقدمه مور إلى حد بعيد من الاكتشافات الحديثة التي كانت قد تحققت في عصره. لقد كان اكتشاف أميركا ملهماً لكثيرين. وبناءاً على ذلك، فإن كل ما يصادفه القارئ في كتاب يوتوبيا من أجواء خيالية وحوداث أسطورية وأسماء غريبة، وغير ذلك، إنما هو في نهاية المطاف إشارات مرمزة لواقع عياني مشخص يحاكي واقع المجتمعات الأوربية (بريطانيا خصوصاً). الكتاب هو تعبير عن رفض مور لهذا الواقع، وتصوراته عن الانتقال ببلاده إلى مجتمع إنساني متحضر.
حركة الإصلاح الديني
شكلت حركة الإصلاح الديني التي عرفتها أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أحد المعالم الرئيسية على أفول العصور الوسطى، وبزوغ فجر العصور الحديثة. على الرغم من أن هذه الحركة ارتكزت في جوهرها على قضايا الإيمان والعقيدة المسيحية، إلا أن آثارها اتسعت لتشمل كل جوانب الحياة الأخرى، وفي مقدمة ذلك مساهمتها الفاعلة في إزاحة الأسس الشرعية للسلطة السياسية، وتقويض المرتكزات اللاهوتية التي هيمنت على الفكر السياسي والنظرية السياسية طيلة العصور الوسطى. وقد كانت أهم العوامل التي هيأت لقيام وانتشار حركة الإصلاح الديني في أوروبا، تصدع بينة الكنيسة الكاثوليكية وانقسامها، وتدعيم سلطة الملوك المطلقة، إذ لم يكن لحركة الإصلاح الديني أن تحقق النجاح الذي حققته، لولا التحالف الذي جرى بينها وبين السلطات الزمنية القائمة في البلدان التي انتشرت فيها.
ويستعرض المؤلف أهم مفكري الإصلاح الديني، ومعالم فكرهم السياسي الرئيسية:
1- مارتن لوثر (1483 – 1546)
أدت الرؤية الجديدة التي حملها مارتن لوثر للمسيحية، ورفضه للطابع الحصري لحق البابا في تفسير الكتاب المقدس، ودعوته المجمع الديني إلى تقويض الأسس التي ارتكزت عليها السلطة الكنسية، إلى التمهيد للتحول الذي فتح المجال واسعاً أمام قيام الدولة المدنية وانتصار العلمانية في أوروبا. ومن هنا تبدو أهمية مارتن لوثر وخصوصية تأثيره في تطور الفكر السياسي الأوربي، فهو رجل الدين الذي خرج من رحم المؤسسة الدينية، وانتفض على سلطتها بأدوات لاهوتية، وبرهن على عدم حقها بالوصاية على ضمير الفرد وإيمانه، ولا على الدولة أو السلطة.
شدَّدَ مارتن لوثر على وجود سلطة واحدة مسؤولة عن عقاب المجتمع، وهي السلطة المدنية، وقد قدّمَ لوثر أطروحتين رئيسيتين تشكلان أساساً لكل تعاليمه. الأولى هي الطابع المقدس لمهام السلطة الزمنية، والخضوع غير المشروط لها وعدم مقاومتها. والثانية هي حرية المعتقد والفصل الجذري بين الديني والدنيوي أو بين القانون والإيمان، وعدم قدرة أية سلطة على فرض رؤيتها لما تعتبره الإيمان الصحيح عن طريق القوة.
2- جان كالفن (1509 – 1575)
يمكن النظر إلى جان كالفن بإعتباره زعيم الجيل الثاني من المصلحين البروتستانت، ورغم أنه تبنى أفكار مارتن لوثر إلا أنه ينبغي ملاحظة ما بينهما من تباين واختلاف حول العديد من قضايا ومسائل الإصلاح الديني.
يميز كالفن في مبحثه الأساسي عن الحكم المدني بين ثلاثة مستويات: الحاكم الذي هو حارس القوانين والمحافظ عليها، والقانون الذي يسيطر الحاكم بمقتضاه، والشعب الذي يجب أن يُحكم بواسطة القوانين وأن يخضع للحاكم.
أَولى كالفن الأهمية الكاملة للسلطة المدنية، بينما نظر إلى الشعب باعتباره عنصراً سلبياً، لا يملك من أمره إلا الطاعة للقانون والسلطة المدنية. يرى أن هذه الطاعة لا تتم بدافع الخوف، وإنما بدافع الوعي والحب. فالحاكم بطبعه يجب أن يكون محباً للخير، عادلاً ومتسامحاً، مما يقتضي التعلق به. ويرى كالفن أن التعبير عن هذا التعلق يتم بتقديم الولاء والطاعة، ويتخذ هذا الولاء شكل الطاعة العمياء. فما دامت السلطة الزمنية وسيلة الخلاص الظاهرية، فإن مرتبة الحاكم تكون أشرف المراتب، فهو نائب الله، ومقاومته تعني مقاومة الله.
3- جان بودان (1530 – 1596)
يرى جان جاك شوفاليه في كتابه تطور الفكر السياسي، أنه ما من كتاب يختلف عن كتاب الأمير، بقدر اختلاف كتب الجمهورية الستة لـ جان بودان عنه.
عند الحديث عن بودان، لا بدّ من التطرق في كتاباته إلى مفهومين؛ المفهوم الأول هو الأسرة وأصل الدولة، إذ بالرغم من أنه لم تكن لدى بودان نظرية واضحة حول الغاية من الدولة، إلا أنه بدأ كتابه الجمهورية بمحاولة تعريفها. ففي السطور الأولى من الفصل الأول، الذي عنوانه «ما هي الغاية الرئيسية للجمهورية المنظمة تنظيماً حسناً؟» يقدم بودان التعريف التالي: «الجمهورية هي الحاكم القويم لعدد من الأسر، ولما هو مشترك بينها، شريطة أن يتوفر في ذلك كله سلطة عليا سيدة».
إن التأمل في طبيعة العلاقة التي أقامها بودان بين الأسرة والدولة، يسمح لنا بالكشف عن نزوعه العميق إلى تحقيق هدفين اثنين؛ الأول يتمثل في رغبته بإضفاء الطابع البطريركي الأبوي على من يسمك بالسيادة، وهذا ما يفسر إلى حد كبير استعانته بمبادئ التشريع الروماني التي أعطت للأب سلطة مطلقة في أسرته، إذ دعا بودان إلى إحياء هذا التقليد، ورأى أن صفة المواطن تقتصر على رب الأسرة. أما الهدف الثاني من إقامة العلاقة بين الدولة والأسرة، فيتمثل في رغبته الواضحة في الحفاظ على الملكية الخاصة وعدم المساس بها.
أما المفهوم الثاني فهو نظرية السيادة، ويتفق مؤرخو الفكر السياسي على أن أهم ما كتبه بودان في الفلسفة السياسية هو نظريته في السيادة التي ذاع صيته بسببها، فهو أول مفكر سياسي وضع لمبدأ السيادة أساساً نظرياً متكاملاً نعيش آثاره وتعاليمه حتى الآن.
انطلق بودان في تقديم نظريته من الفكرة القائلة بأننا نلحظ في المجتمع وجود سلطات كثيرة، إلا أن العلامة التي تميز الدولة عن التجمعات الأخرى تكمن في وجود السيادة، فالسيادة هي القوة التي تمنح الجماعة السياسية تماسكها واتحادها، والتي من دونها لا بدّ أن تتفكك، وهي التي تقوم ببلورة وتنظيم العلاقات المتبادلة.
وقد حدّد بودان للسيادة علامتين إثنين؛ الأولى هي السلطة الدائمة، إذ أن الديمومة هي ما يميز السلطة صاحبة السيادة عن أي سلطة أخرى مقتصرة على فترة زمنية محددة. وتعني ديمومة السيادة أنها غير خاضعة للزمن، أي للضرورة، فهي لا تتغير من شكل حكم إلى آخر، بل تبقى مستمرة بغض النظر عمّن يمارسها. أما العلامة الثانية للسيدة بحسب بودان، فهي أن تكون السلطة مطلقة، وقد جاء في معجم المؤلفات السياسية، لفرنسوا شاتليه وآخرين، أن «السيادة لا يمكن أن تكون إلا مطلقة وغير قابلة للتجزئة، لذا فإن على أصحاب السيادة ألا يكونوا خاضعين لأوامر الآخرين، وأن يكونوا قادرين على سن القوانين الجديدة، وعلى نقض القوانين العقيمة أو إلغائها، ليسنوا قوانين أخرى».
لكن بودان عاد ووضع عدداً من القيود على ممارسة «السيادة»، وأخضع ممارستها لقوانين الله والطبيعة، والأخلاق الإنسانية المشتركة بين الشعوب، معتبراً أن قانون الله والطبيعة هو القانون الأسمى الذي يضع للحق مستويات محددة لا يمكن أن تتغير، وهو يعلو فوق قوانين البشر، ومنه يستمد صاحب السيادة شرعية استخدامه للسلطة المطلقة، وإن مراعاته هي ما تتميز به الدولة المنظمة عن مجرد استخدام العنف. وكذلك ذهب بودان إلى القول بحرمة المساس بالملكية الخاصة، واعتبر أن هذا الحق، الذي يضمنه قانون الطبيعة، هو حق مقدس للفرد، ولا يجوز للحكام المسّ به من دون إرادة المالك.
فلسفة القانون الطبيعي ونظريات العقد الاجتماعي
القانون الطبيعي
إن القول بوجود قانون طبيعي يتميز عن أي قانون وضعي آخر، ويتفوق عليه، هو قول قديم وعميق الجذور في الفكر السياسي والفلسفي. ويمكن لنا أن نتلمس العناصر الأولى لهذا المفهوم عند قدماء الإغريق، وقد صاغ الرواقيون بناءاً على ذلك مفهومي «المواطن العالمي» و«الدولة العالمية». أما في العصور الوسطى، فقد اغتنى القانون الطبيعي بمعان جديدة، بعد أن اقتبسه المفكرون المسيحيون، وخلعوا عليه مضامين لاهوتية، وأصبح معهم يعبر عن القانون الإلهي أو الأزلي.
أما في العصور الحديثة، فقد تطورت فكرة القانون الطبيعي، وحظيت باستقلال تدريجي عن اللاهوت، وصارت تمثل بالأساس وسيلة عقلانية للانتقال إلى المجتمع المدني. ويبدو هذا التطور شديد الوضوح في كتابات توماس هوبز في القرن السابع عشر، حين أكد أن القانون الطبيعي ليس في الواقع إلا العقل البشري، وأن أحكام هذا القانون ليست في حقيقتها شيئاً آخر سوى ما يستنبطه العقل من طبيعة البشر.
لقد نادى منظرو القانون الطبيعي الجدد بمبدأ المنفعة العامة وحقوق الأفراد وحالة الفطرة. بهذا الشكل كانوا يبررون الطموحات القومية، ويقدمون للملوك أسلحة ثمينة في صراعهم ضد طموحات طبقة البنلاء التي كانت تتذرع بامتيازاتها الخاصة من أجل معارضة كل نزعة لتمركز السلطة في يد الملوك.
العقد الاجتماعي
كما رأينا، فقد اتفق فلاسفة العقد الاجتماعي على أن الإنسان توصل إلى القانون الطبيعي باستخدام عقله، وأن هذا القانون في جوهره هو قانون صحيح وعادل، وتالياً فهو يشكل أساساً صالحاً لتنظيم العلاقات الاجتماعية، وتحديد حقوق الأفراد وواجباتهم قبل ظهور الدولة. إن فكرة العقد الاجتماعي أخذت أشكالاً مختلفة، وذلك وفقاً للنتيجة التي يريد كل مفكر أن يرتبها عليها، وأهم هذه الأشكال:
– العقد بين الأفراد، لتكوين المجتمع المنظم.
– العقد بين الحاكم والمحكوم، لتفسير سلطة الحاكم وتحديدها.
– العقد بين الجماعات البشرية المختلفة، لقوننة علاقاتها وإحلال السلام فيما بينها.
قوضت فكرة العقد الاجتماعي كما تبنيها في العصور الحديثة فلسفة الأصل الإلهي للسلطة، وأعطت، لأول مرة في تاريخ الفكر السياسي، للفرد مركزاً متميزاً بصفته أحد طرفي العقد، كما أكدت على حقوقه ومكانته ودوره في المجتمع السياسي. وقد ترتب على ذلك التزام المواطن بالخضوع للسلطة السياسية، الذي ينبع من رضاه، أو من الوعد بالطاعة الذي قطعه على نفسه بحرية. أي أن التزامه بالطاعة هو التزام نابع من إرداته المحضة، وفقاً لما أملاه عليه عقله.
أما أبرز المنظرين السياسيين في موضوعات القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي:
1- هوغو غروشيوس (1583 – 1645)
إن عمل غروشيوس الأكثر شهرة هو كتابه الضخم قانون الحرب والسلم-1625، وهو كما يشي عنوانه رسالة في القانون الدولي، وليس رسالة في النظرية السياسية. ويشكل عمل غروشيوس هذا نموذجاً جديداً للكتابات السياسية في إطار التعاليم القانونية، مقابل ما كان سائداً من الكتابات السياسية في إطار التعاليم اللاهوتية أو الفلسفية. وقد توخى غروشيوس من كتابه أن يمنح العلاقات الدولية أساساً قانونياً، يقوم من حيث المبدأ على وضع بعض القيود على مصلحة الدولة، والتي كانت من غير قيد، وكانت تطغى على أي اعتبار آخر. لم يكن غروشيوس في مسعاه هذا يهدف إلى إيقاف التنافس بين الدول ذات السيادة، ولكنه هدف إلى وضع نظام قانوني يرتكز على القانون العقلي أو الطبيعي، يحيط بهذا التنافس من كل جوانبه.
2- توماس هوبز (1588 – 1679)
مع كتابه، اللفياثان: الأحوال الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، يعد هوبز من أوائل الفلاسفة الماديين في العصور الحديثة، وهو أول من وضع نظرية سياسية على أسس عقلية راسخة. فقد كان يرى أن خلاص المجتمعات من الاضطراب والفوضى والحروب الأهلية لن يكون إلا عندما نقيم بناء الدولة على أسس عقلية غير قابلة للشك. وفي هذا الكتاب، يرى هوبز أن في أهواء الإنسان وعواطفه ما يجعله «يميل إلى السلام»، ومن ذلك : «الخوف من الموت، والرغبة في الأشياء الضرورية لحياة مريحة».
يؤكد هوبز بشكل خاص على قانونين رئيسين يمليهما على الإنسان عقله وعواطفه، وهما :
– القانون الأول يسميه هوبز قانون الطبيعة الأساسي، ومضمونه أن مبادئ العقل وقواعده العامة توجه كل إنسان إلى أن يجتهد في سبيل السلام، طالما أن هناك أملاً في بلوغه.
– القانون الثاني مُشتق من قانون الطبيعة الأساسي السابق، ومضمونه أن يكون الإنسان مستعداً للتخلي عن حقه الطبيعي في أي شيء طالما أن الآخرين لديهم الإستعداد ذاته، أي أن يرضى لنفسه بقدر من الحرية إزاء الآخرين، مساوٍ لقدر حريتهم إزاءه.
3- جون لوك (1632 – 1704)
أحد كبار فلاسفة النزعة التجريبية، ورائد الفردية الليبرالية في الفكر السياسي الأوربي الحديث. ويعد كتاب، مقالتان في الحكم المدني، من أهم المؤلفات التي وضعها جون لوك في الفلسفة السياسية. ينقسم هذا الكتاب إلى قسمين رئيسيين: القسم الأول عنوانه «بحث في بعض المبادئ الفاسدة»، يتناول فيه لوك بالنقد أهم المبادئ التي يرتكز عليها مؤيدو نظرية الحق الإلهي في تبرير الحكم المطلق. أما القسم الثاني، وهو الأهم، فعنوانه «بحث في نشأة الحكم المدني الصحيح ومداه وغايته»، يعرض فيه لوك نظريته في الدولة، وفي قيام المجتمع السياسي المدني، محدداً نطاقه وقوانين المحافظة عليه وانحلاله.
في هذا المجتمع، يلتزم جميع الأفراد بما يمليه عليهم العقل من ضوابط وقواعد سلوك تجاه بعضهم بعضاً: «العقل يعلّم الناس، لو استشاروه، أنهم جميعاً متساوون وأحرار، فينبغي ألّا يوقع أحد منهم ضرراً بحياة صاحبه أو صحته أو حريته أو ممتلكاته». هذه الفكرة، كما يبدو لنا، ذات أهمية خاصة بالنسبة للفلسفة السياسية الليبرالية، التي يُعد لوك من روادها الأوائل، فأسبقية المجتمع واستقلاليته النسبية عن الدولة، تعني أن بمقدوره أن يتولى أموره دون الحاجة إلى الدولة. كما يعني أيضاً، أن نشاطات المجتمع تفوق أهمية وقيمة النشاطات التي تقوم بها الدولة. فجوهر الفلسفة الليبرالية، يقوم على إيلاء مبادرات المجتمع الأهمية الأولى.
كما اعتبر لوك أن الحق في الحياة والحرية هي حقوق طبيعية ملازمة للإنسان منذ ولادته، وسابقةٌ في وجودها على المجتمع السياسي المدني، الذي لا ينشأ أصلاً إلا لحمايتها بشكل أفضل. وقد أضاف لوك إلى هذه الحقوق حق الملكية، واعتبره أيضاً جزءاً أصيلاً من حالة الطبيعة. ولقد شكلت رؤيته لهذا الحق وتقديسه له، أحد الركائز التي استند إليها تيار ما بات يعرف لاحقاً باسم «الليبرالية».