يوم الخميس الفائت، الحادي والعشرين من شباط 2019، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز في بيان مقتضب، إن الولايات المتحدة الأمريكية ستُبقي على مئتي جندي كقوات حفظ سلام في سوريا. وفي وقت لاحق يوم الجمعة، قال مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية، لم يتم الكشف عن اسمه، لمراسل قناة فوكس نيوز الأمريكية، إن الولايات المتحدة ستُبقي أربعمئة جندي موزعين على شمال شرقي سوريا وعلى قاعدة التنف بالقرب من المثلث الحدودي بين العراق وسوريا والأردن، الأمر الذي يعني عملياً تراجع واشنطن عن قرارها القاضي بالانسحاب الكامل من سوريا.

وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قد أعلن في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، اعتزامه سحب جميع الجنود الأمريكيين من سوريا، بعد ما أنجزوا هدفهم الرئيسي، حسبما قال، وهو القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. وقد تعرض هذا القرار لانتقادات واسعة داخل الإدارة الأمريكية، أفضت إلى استقالة كل من وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، والمبعوث الأمريكي في التحالف الدولي لمحاربة داعش بريت مكغورك.

وعلى الرغم من ترحيب كل من موسكو وأنقرة بالقرار الأول القاضي بالانسحاب الكامل من سوريا، إلا هذا القرار الذي جاء مفاجئاً، أدى على أرض الواقع إلى تبدل كثير من الحسابات الإقليمية والدولية بما فيها حسابات أنقرة وموسكو، وذلك في سبيل لعب أدوار أوسع، وملء الفراغ الذي ستتركه واشنطن في المنطقة في حال سحب قواتها كلها فعلاً. وقد أدى هذا إلى اضطراب الاتفاقات والتفاهمات بين سائر الدول المعنية بالملف السوري، وبحثها السريع عن خلق توازنات جديدة لدعم موقفها ضمن الظرف الجديد.

وكان حلفاء واشنطن الأوربيين هم الأكثر رفضاً لقرار الانسحاب الكامل، خاصة وأنه جاء دون أي ترتيبات مسبقة، ودون إعلام الحلفاء المشاركين في التحالف الدولي، الأمر الذي دفع مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكيين، للقيام بجولتين منفصلتين خلال الشهر الماضي، شملت دولاً في المنطقة والخليج العربي وأوروبا.

وكما جاء القرار الأول القاضي بالانسحاب الكامل بعد مكالمة هاتفية بين أردوغان وترامب، كذلك جاء القرار الجديد القاضي بإبقاء قوات أمريكية في سوريا بعد هزيمة داعش، بعد مكالمة مماثلة بينهما. وعلى الرغم من أن التصريحات التي نشرت بعد إجراء الاتصال لم تشر إلى مثل هذا القرار، إلا أن المحادثات بين أنقرة وواشنطن طوال الفترة الماضية كانت مرتبطة بشكل وثيق بما تفعله الأخيرة في سوريا اليوم، وهو ما يرجّح فرضية أن القرار الجديد مرتبط بما جرى في ذلك الاتصال. وعلى الرغم من أن الانسحاب الأميركي يشكل في أحد وجوهه مصلحة تركية، كونه قد يطلق يد أنقرة في منطقة شرق الفرات، إلا أن حدوثه بشكل كامل ومفاجئ، ودون ترتيبات معها، سيلقى على عاتقها عبئاً كبيراً لا يبدو أنها مستعدة لتحمله الآن، لأنه يضعها في موقف ضعيف أمام موسكو وطهران، اللتين ترغبان بالهيمنة على شرق سوريا بالكامل في حال رحيل الأمريكيين عنه.

كذلك جاء إعلان بقاء قسم من القوات الأمريكية على إثر تصريحات من مسؤولين أوروبيين، رفضوا خلالها الإبقاء على قوات بلادهم في سوريا لحماية المنطقة «العازلة» المزمع إنشاؤها بالقرب من الحدود مع تركيا، إذا ما أصرت واشنطن على سحب جميع قواتها من هناك، وهو الأمر الذي شكَّلَ واحداً من دوافع القرار الأمريكي الجديد على ما يبدو.

وقد تعني التطورات الأخيرة اقتراب الوصول إلى اتفاق معلن بين واشنطن والدول الأوروبية من جهة، وأنقرة من جهة أخرى، يقضي بإنشاء منطقة «عازلة» قرب الحدود السورية مع تركيا، تقوم بإدارتها قوات مقبولة من أنقرة وبرعاية كاملة ومباشرة من واشنطن والدول الأوربية، ليكون ذلك بمثابة حل وسط بين رغبة أنقرة بالتدخل عسكرياً في هذه المنطقة، وبين الوضع الحالي المتمثل بسيطرة قوات سوريا الديمقراطية المرفوضة تركياً عليها.

وأياً يكن عدد الجنود الأميركيين الذين سيبقون في سوريا بعد هزيمة داعش، فإن بقاءهم هذا في حال حدوثه سيترك آثاراً سياسية على المدى المتوسط، أوسع من مجرد تهدئة التوتر في شمال شرق سوريا، لأنه سيعني في الواقع مزيداً من الضغط الأمريكي غير المباشر على طهران ومناطق نفوذها في سوريا. لكنه في الوقت نفسه لن يعني استعادة واشنطن لنفوذها الكامل في الملف السوري، كما كان عليه قبل إعلان ترامب الشهير في شهر كانون الأول الماضي، بل سيتوجب عليها اتخاذ خطوات أكثر قوة في الفترة المقبلة، ذلك إذا ما أرادت التأثير في المسار السياسي السوري بشكل فعّال.