يأتي التصعيد العسكري والقصف المستمر على إدلب منذ أيام، متوافقاً مع التصريحات المتشددة لكل من إيران وروسيا حول مصير المحافظة والأرياف المحيطة بها، إذ تواصل قوات النظام السوري، بما فيها تشكيلات عسكرية معروفة بارتباطها بموسكو، قصف ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي باستخدام المدفعية الثقيلة وصواريخ أرض-أرض، على نحو يبدو كما لو أنه تمهيد لمعركة برية مقبلة، وهو السيناريو الذي يرتبط مصيره بملفات متعددة.

وكانت تصريحات كل من الرئيسين روحاني وبوتين، قد أشارت، قبيل مؤتمر سوتشي الذي عُقد قبل أيام في المنتجع الروسي على البحر الأسود، إلى ضرورة استعادة النظام السوري السيطرة على منطقة إدلب، بعد سلسلة من التصريحات الروسية متعددة المستويات، التي كررت القول إن سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) على المحافظة، تشكل تطوراً غير مقبول بالنسبة لروسيا.

لكن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أول أمس السبت، خلال مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن، عن أن المسؤولين في موسكو وأنقرة وطهران قد توصلوا إلى خطة «الخطوة خطوة» للسيطرة على إدلب، قد دفعت إلى تغيير التوقعات المرتقبة من التصعيد العسكري المتواصل هناك. ذلك أن الخطة التي أفصح عنها لافروف تتضمن عمليات أمنية وتسيير دوريات تركية-روسية مشتركة في بعض مناطق إدلب، وهو ما يبعد، في الوقت الحالي على الأقل، شبح عمليات عسكرية واسعة على المنطقة الواقعة شمال غرب سوريا.

غير أن التمهل الروسي في اتخاذ خطوات عملية للسيطرة على إدلب عسكرياً، وكبح موسكو لرغبة كل من النظام وإيران باحتلال المنطقة، لن يستمرا إلى الأبد، إذ أشار الرئيس الروسي مجدداً في تصريح على هامش مؤتمر سوتشي، إلى أن التفاهمات مع أنقرة حول إدلب ليست دائمة، ما يعني أن الموقف الروسي سيتغير فور تحول الظروف في سوريا خلال الأشهر المقبلة.

ويبدو أن العامل الأهم بالنسبة لثلاثي أستانا بما يخص قرار المعركة في إدلب اليوم، هو مدى جدية واشنطن في انسحابها من سوريا، فقد تشكل التفاهمات بين هذا الثلاثي على الوضع في المنطقة المعروفة باسم شرق الفرات، ضغطاً على الاستقرار في إدلب، وتسمح لاحقاً بمعركة واسعة هناك، إذا ما قررت أنقرة أن تقدم تنازلات في إدلب، مقابل تثبيت تفاهمات تمنحها سيطرة على منطقة تعتبرها حيوية بالنسبة لها.

في الوقت الحالي، قد تكون عمليات القصف المدفعي والصاروخي، التي لم تستخدم فيها الطائرات بشكل جدي عدا عمليات الاستطلاع، تمهيداً لعمليات عسكرية محدودة في المنطقة «منزوعة السلاح الثقيل»، تهدف إلى الضغط على تركيا التي باتت المنطقة تحت غطائها السياسي منذ اتفاق سوتشي، وإلى تقليص مساحة سيطرة هيئة تحرير الشام على الطريق الدولي، الذي تتضمن الاتفاقيات ضرورة فتحه أمام التجارة الدولية، والذي استهدف القصف المركز مدناً وبلدات قريبة منه ومشرفة عليه، أكبرها معرة النعمان وخان شيخون، اللتين يمر الطريق عبرهما.

أما العامل الثاني الذي بدأ يؤثر على الوضع في إدلب، فهو الضغوط التي تتعرض لها إيران منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وفرضها عقوبات وصفت بالأشد منذ سنوات على طهران. ويبدو أن هذه الأوضاع تدفع النظام الإيراني إلى مزيد من التشدد على أكثر من صعيد، لخلق ظروف تعطيه أفضلية في عدة ملفات يستطيع من خلالها التفاوض على تخفيف أثر العقوبات، التي بدأت تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد الإيراني المنهك أصلاً نتيجة سنوات من العقوبات والمقاطعة الدولية.

وفي هذه الظروف، يبدو أن طهران ترى أن مزيداً من الضغط على أنقرة قد يساهم في تخفيف ضغط العقوبات عليها، خاصةً أن أنقرة لديها القدرة على خنق الاقتصاد الإيراني بشكل أكبر، باعتبارها ممراً هاماً للتبادلات التجارية مع طهران، وهو ما يجعل الأخيرة مهتمة جداً بأي ملف يمكن استثماره للضغط على تركيا والتفاوض معها.

يحيط وضع معقد بمصير محافظة إدلب والأرياف المحيطة بها، وعلى الرغم من أن المنطقة لا تواجه عمليات عسكرية شاملة حتى الآن، إلا أنها تشهد كارثة إنسانية كبيرة جراء القصف المستمر، إذ بالإضافة إلى عشرات الضحايا والجرحى من المدنيين، تحولت قرى في ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي مثل التح واللطامنة إلى مناطق منكوبة، ونزح أغلب سكانها إلى مناطق أبعد عن القصف، ما يشكل عبئاً إنسانياً كبيراً على مجمل المنطقة، التي تعاني أصلاً من توقف معظم عمليات التمويل الأوروبية والدولية للمنظمات العاملة في الشأن الإنساني فيها.