منذ أيام قليلة، تداول السوريون قائمة مُسرّبة للأسماء المقترحة لعضوية اللجنة الدستورية التي يتم العمل على تشكيلها برعاية الأمم المتحدة، وبالتوافق بين الدول المؤثرة في الشأن السوري، وعلى رأسها روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة. ولمّا كان اسمي مدرجاً ضمن تلك اللائحة الأولية، تحت قائمة «لائحة الأمم المتحدة» التي قد تتغير خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فقد وجدت أنه من واجبي توضيح بعض النقاط المتعلّقة بهذه القائمة، وتقديم رؤيتي الخاصة لمحددّات عمل اللجنة، وللشروط الأساسية التي يتوجب على الأمم المتحدة مراعاتها وضمان تحقيقها، والتي من دونها لن يكون لهذه اللجنة أي أثر حقيقي على مجريات الواقع السوري، بل ستتحول إلى هيئة شكلية وتجميلية معيقة للحل السياسي.
وهنا أودّ التأكيد على أنه لم يتم التواصل معي بشكل رسمي إلى الآن بخصوص وجودي في هذه اللجنة، ولم أُسأل بعد، وبشكل رسميّ، عن قبولي أو رفضي الانضمام إليها. وكنتُ قد علمت بورود اسمي فيها مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، من قبل جهات غير رسمية قريبة من المباحثات المتعلقة باللجنة. وإنّ قرار قبولي للعمل في هذه اللجنة أو عدمه، في حال تمت دعوتي رسمياً للمشاركة أساساً، يرتبط بمجموعة عوامل وشروط أساسية، سأحاول طرح أهمها في هذا المقال.
كما أودّ أن أنوّه إلى أن القائمة المتداولة حالياً، وبحسب عدد من المصادر المقربة من عملية تشكيل اللجنة الدستورية، هي ليست القائمة النهائية، وإنما هي القائمة الأولية التي طرحت للتداول في اجتماع وزراء خارجية الدول الضامنة لأستانا، روسيا وتركيا وإيران، مع المبعوث الأممي الخاص لسوريا، والذي عُقد في جنيف في 18 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ونتج عنه استبدال عدد كبير من أسماء اللائحة الثالثة، التي يُطلق عليها اسم لائحة الأمم المتحدة أو لائحة المجتمع المدني، بأسماء أخرى لم يتم التوافق عليها بعد.
مع تسريب هذه القائمة، عاد النقاش حول العملية الدستورية ليحتل حيزاً كبيراً من الفضاء السوري العام، خصوصاً بعد أن كان المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا، قد أعطى الأولوية لهذا الملف خلال الفترة الأخيرة من مهمته. وعلى الرغم من أن العملية الدستورية هي من المحاور الأساسية لاتفاق جنيف وقرار مجلس الأمن 2254، إلا أنها ظلت محوراً ثانوياً حتى قامت موسكو بالدعوة لما عُرف بـمؤتمر سوتشي في كانون الثاني (يناير) من العام الماضي، حيث تم الإعلان عن تشكيل «لجنة دستورية عليا» تحت رعاية روسية، وتم تقديم مقترح دستوريّ روسيّ كنقطة انطلاق لعمل تلك اللجنة، وهو ما دفع المبعوث الخاص السابق لتكثيف جهوده لإنشاء لجنة دستورية تحت رعاية أممية، تكسر إلى حد ما الاحتكار الروسي لهذا الملف، وتعطي للأمم المتحدة والدول ذات التأثير المباشر على الوضع السوري، دوراً أساسياً في هذه العملية. ذلك إضافة إلى رغبة دي ميستورا في ترك علامة فارقة ما، بعد أن فشلت كل مساعيه الأخرى في تفعيل بقية «السلال» التي تم الاتفاق عليها في الجولة الرابعة لمحادثات جنيف، كسلّة الانتقال السياسي والإصلاح الأمني والانتخابات.
وبعد سلسلة من المباحثات والزيارات المكوكية للمبعوث الخاص وفريقه، تم إرسال لائحة أوليّة لأعضاء اللجنة الدستورية مصنّفة ضمن ثلاث قوائم: قائمة النظام السوري، وقائمة المعارضة المعينة بشكل رئيسي من قبل هيئة المفاوضات السورية، وقائمة الأمم المتحدة أو المجتمع المدني، التي لا تزال أسماء أعضائها وآلياتها ومرجعيتها موضع تجاذبات ومفاوضات إقليمية ودولية.
وبالطبع، لا يمكن لهذه اللجنة أن تكون ذات معنى أو تأثير حقيقي على العملية السياسية، إن لم تتوافر جملة من المحددات والمقومات الأساسية، والضمانات الرسمية، التي ينبغي أن يقدمها المبعوث الأممي الخاص الجديد غير بيديرسون وفريقه قبل الإعلان الرسمي عن تشكيل اللجنة، وقبل البدء بأي لقاءات رسمية لأعضائها. ومن أهم تلك المحددات:
ـ أن يكون للمشاركين في اللجنة الدستورية الدور الرئيسي في حوكمة عمل هذه اللجنة، وتحديد أهدافها وطرق اتخاذ القرار فيها وآليات انعقادها، ورفض أي آليات «معلّبة» تُفرض عليها. وأن تكون الأمم المتحدة هي المرجعية الأساسية، والوحيدة، لهذه اللجنة، بعيداً عن تأثير اللجنة الدستورية المنبثقة عن مؤتمر سوتشي.
ـ ألّا تُختزَل عملية الانتقال السياسي في هذه اللجنة، خصوصاً أن انعقادها وسيرها في عملها شرط لازم لكنه غير كافٍ لتحقيق الانتقال السياسي، وبالتالي فإنه يجب أن يُنظر إليها كأحد حوامل الحلّ السياسي، وليس بوصفها الغاية النهائية منه.
ـ ألّا تكون نقاشات اللجنة الدستورية مساراً بديلاً للمفاوضات السياسية التي تتم تحت رعاية الأمم المتحدة، فمن غير المنطقي أن تعمل هذه اللجنة بمعزل عن بقية «السلال» الأساسية المتفق عليها في جنيف، وعلى رأسها تشكيل هيئة الحكم الانتقالي. إذ لا يمكن، ومن غير الأخلاقي أساساً، النظر إلى ما يجري في سوريا اليوم على أنه «خلاف دستوري» بين المعارضة والنظام، خصوصاً وأن الدساتير السورية التي كُتبت تحت ظلّ حكم البعث، سواء كان دستور 1973 أو دستور 2012، ورغم كل المشاكل العميقة والكارثيّة التي تحملها نصوصها، لا تسمح، نظرياً، للنظام السوريّ بارتكاب هذا الكم الهائل من انتهاكات حقوق الإنسان، من الاعتقال التعسفي والتهجير والتغييب القسري، إلى قصف المدن والأحياء السكنية بمختلف أنواع الأسلحة، كالأسلحة الكيماوية والباليستية.
ـ إنّ العملية الدستورية يجب أن تضمن مشاركة شعبية واسعة لكل مكونات المجتمع السوري، بمن فيهم النازحون واللاجئون، وبما أن الظروف الحالية تجعل من المستحيل القيام باستفتاء شعبي واسع، حر ونزيه، فيجب إذن أن يقتصر عمل اللجنة الدستورية على الاتفاق على «إعلان دستوري مؤقت» أو «مسوّدة دستورية»، يتم الاعتماد عليها في مرحلة الانتقال السياسي لصياغة دستور تفصيلي للبلاد من قبل هيئة مُنتخبة، يُطرح بعدها لاستفتاء شعبي عام ضمن مناخ سياسي يضمن المشاركة الحرة والنزيهة لكل السوريين، تحت إشراف ورقابة الأمم المتحدة.
أخيراً، وبعيداً عن الضمانات الأممية السابقة التي ينبغي أن تتوافر، وبما أنّ الهدف الأساسي للثلث الثالث من اللجنة الدستورية هو إعطاء دور فعّال لمنظمات المجتمع المدني السورية، فإنه يتوجب بالتالي على أعضاء هذه القائمة توسيع دائرة النقاش والحوار مع المنظمات والتحالفات المدنية السورية. إضافةً إلى ذلك، ونظراً لأن نسبة المشاركة النسائية لا تتجاوز 25٪ من مجموع كل القوائم، فإنه يجب خلق قنوات تواصل فعّالة مع المبادرات النسائية ومنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال تمكين المرأة، لضمان إيصال صوتها وترسيخ دورها في العملية الدستورية ومرحلة الانتقال السياسي.
لا شكّ أن سوريا المستقبلية بحاجة إلى دستور يحدّ من الصلاحيات المطلقة المعطاة للسلطة التنفيذية، ويخلقُ آليات واضحة للعدالة الانتقالية، ويرى أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو أحد مصادر التشريع في الدولة، ويؤكد على أن مبدأ فصل السلطات هو شرط مقدس لا يجوز المساس به، وأن استقلال القضاء هو أهم أسس الدولة الديمقراطية الحديثة، وأن توسيع مفهوم اللامركزية هو شرط أساسي لتمكين المجتمعات المحلية في الفضاء العام. إلّا أن هذه القيم ستبقى حبراً على ورق إن لم يتم تطبيقها ضمن مرحلة انتقال ديمقراطي حقيقية، تضفي شرعية مجتمعية على النص الدستوري.
في مرحلة الاستعصاء السياسي التي يمر بها السوريون، حيث لا دور حقيقياً لهم في تقرير مصيرهم، تتلاشى فرص المجتمع المدني السوري في خلق مساحة عمل مستقبلية تضمن الحد الأدنى من الحريات العامة والمشاركة المجتمعية. ومع ذلك، لا بدّ أن نحاول فرض واقع جديد بكل الوسائل المتاحة لنا اليوم، بما قد يهيّئ لنشوء تربة خصبة للمجتمع المدني في المستقبل، البعيد والبعيد جداً. وربما تكون هذه العملية الدستورية فرصة للمضي قدماً في تحقيق تلك الغاية، خصوصاً إذا نجح أعضاء اللجنة في خلق كتلة حرجة، عابرة للقوائم، قادرة على فرض تلك الشروط والدفاع عن قيم انتفاضة الحرية والكرامة السورية. وفي حال فشلهم، ستتتحول تلك العملية برمّتها إلى مصدر إحباط جديد، يُضاف إلى سلسلة الإخفاقات المتتالية للعملية السياسية السورية.