تشوب ذاكرتي عن «الوزن الزائد» الكثير من التخيلات المرضية بالغة القسوة، مثلاً: رأسي مُعلّقاً على جسد أخريات من الصف، أو أن أصاب بحالات قصوى من المرض تؤدي إلى انخفاض سريع في وزني. حتى التصورات عن المراحل القادمة في حياتي، أو اللحظات التي تدعو للفرح، مثل التخرج من الجامعة أو تسلم وظيفة جيدة في شركة ما؛  لم أكن فيها أنا، أو بكلامٍ أدق، كنت أنا في جسد آخر مُتخيّل، جسد أنحف وأقل وزناً. وظلّ هذا الجسد الفعلي الذي أمتلكه عدوّي الأول، يعكّر صفو أي لحظة رضى، وينتقص من قيمة أي نجاح دراسي أو مهني. كذلك، أتذكر وجه أمي، إذ كان ذلك «الوزن الزائد» يشكّل لها شعوراً بالخيبة، ومزيداً من الحرج عندما كنت أفشل بحشر جسدي في سروال الجينز الضيق، وأطل برأسي من خلف الستارة في غرفة القياس الضيقة في متجر الثياب، «ماما بدي أكبر». تكرر ذلك المشهد مرات  كثيرة، وفي كل مرة كان يسبب لي مقداراً من الحزن والكآبة. وقد كنت أواسي نفسي بعدها بأن حالي لا يزال أفضل من حال الأخريات من صديقاتي اللواتي يشترين ملابسهن من القسم الرجالي، أو من قسم الـ Unisex بأفضل الأحوال. وقد كان النكران وسيلتي لتجاوز الهمس والغمز -لاسيما وأن ازدياد وزن أحدهم، يظل موضوعاً شيقاً للنميمة- فهذه التي يتكلمون عنها ليست أنا، وهذا الجسد ليس لي، ولا أريد أن أمتلك أياً من الصفات الأخرى التي تلحق تلقائياً بالبدانة، كالبلاهة أو البلادة العقلية أو حتى الفشل الوظيفي في أداء الأنوثة. هذه لمحات سريعة من ذاكرتي عن شبح «الوزن الزائد» الذي لا يزال حاضراً مع كل سروال أو فستان جديد.

أود أن أنوه سريعاً إلى أن تعبير «الوزن الزائد» أو «بلس سايز» سيوضع بين قوسين في كل مرة في هذا المقال، كشكل من الاحتجاج على فاشية المعايير التي تفترض وزناً مثالياً يُصنّف البشر وفقه في ثلاث فئات: أصحاب الوزن المثالي؛ من  هم تحت هذا الوزن، ومن هم فوقه. وقبل استخدام تعبير «الوزن الزائد» يجب أن يعرّف أحدهم لنا أولاً ما هو الوزن الطبيعي ؟ وما هو الوزن المثالي؟ كما أنه احتجاج على الفشل اللغوي في إيجاد مفردة تحمل توصيفاً مجرداً من الإدانة أو التصنيف.

على أي حال، الأمر تغير الآن ، أصبحنا نرى بكثرة صوراً لنساء من أصحاب «الوزن الزائد» في عروض الأزياء والإعلانات التجارية، كما أن بعض ماركات الملابس صارت تخصص أقساماً لهن في المتاجر. وعالمياً اشتهرت الموديل آشلي غراهام كعارضة أزياء لثياب السباحة واللانجري، وحسابها على تطبيق إنستاغرام هو رحلة غير منتهية في خطوط السلوليت وطبقات البطن المتجعدة، ومع ذلك تقف بالبكيني أمام عدسة الكاميرا متباهية بالكتلة الدهنية دون أدنى إحساس بالحرج. أما عربياً، اشتهرت في الآونة الأخيرة  عارضة الأزياء أو«الفاشينستا» الكويتية روان بن الحسين، والتي تجاوز عدد متابعيها الثلاثة مليون متابع. هذا الترحيب العالمي بذوات «الوزن الزائد»، وبالجسد الممتلئ موضوعاً للرغبة والإغراء على صفحات تطبيقات التواصل الاجتماعي وفي الإعلانات، ليس إلا تصويراً زائفاً عن تحوّل البدانة إلى أمر مقبول اجتماعياً، وأن الجسد السمين لم يعد ينظر إليه بوصفه نفوراً عن النموذج العام، لأن ذلك قلما يحدث ذلك في الحياة الواقعية. أعرف العديد من النساء، وعدداً أقل من الرجال، ممن هم في صراع يومي مع أوزانهم. وهذه الصور المنمقة والجميلة فعلاً لآشلي غراهام أو روان بن حسين، تقترح شروطاً مساعدة لأن تصبح السُمنة مقبولة اجتماعياً، على سبيل المثال: أن تكون مرفقة بعلامات تدل على الرخاء المادي واقتناء الملابس غالية الثمن؛ والاستمرار في ممارسة الرياضة حفاظاً على الشباب والصحة، حتى لو لم يؤدِ ذلك لإنقاص الوزن؛ ويا حبذا لو ترافق ذلك مع نجاح علمي ومهني. أما عن الدعوات المستمرة لأن تحب الواحدة منّا نفسها كما هي، أو عبارة «أنت جميلة كما أنت»، فهي شعارات كاذبة ومستفزة، خاصة عندما تقولها وجوه إعلانية نعرف جميعاً أنها خضعت لعمليات تجميل/تصنيع خلقت منها الشكل الحالي.

إذن، حتى البدانة، تلك الرغبة بالخروج من الحدود المرسومة عالمياً للجسد الجميل التي يعبر عنها الجسد، بيولوجياً وفيزيائياً، قد تمت قولبتها. لا يمكن لأي تكن من صاحبات «الوزن الزائد» مثلاً أن تصبح موديلاً، بل أن هناك مقاييس معينة وأطوال تتناسب مع الأوزان، فمثلاً يجب أن يكون محيط الخصر أقل بعشرة إنشات من محيط الأوراك. الأمر أعقد مما نتخيل، وليس أيّ شكل من أشكال السمنة يعد مقبولاً، بل يجب أن يكون توزع الدهون في الجسد متناسقاً وفي أماكن محددة منه، حتى يدخل ضمن التصنيف. ويخطئ من يعتقد أن الانتشار الجديد لصور العارضات ذوات «الوزن الزائد» هو تحول ثوري في معايير الجمال أو الموضة، لأن الأسواق والماركات ذاتها التي صنعت الـ «باربي ستايل» تصنع الآن نموذجاً آخر يضم تحت رايته فئة كبيرة من المستهلكين (النساء)، المرهقين مادياً ومعنوياً من المحاولات الفاشلة للانضمام لفئة «الوزن المثالي». والرسالة الاستهلاكية المبطنة «أنت جميلة كما أنت» تعني أننا قادمون لنجدتك، وأننا نصنع لأجلك ثياباً داخلية وفساتين وسراويل تلائم حاجاتك ريثما يتغير وزنك أو حجمك الحالي.

هذا إصلاحٌ في السيستم وليس انقلاباً عليه، وعندما نقول إنه إصلاح، فإننا نعني أنه توجيه داخلي ممنهج إلى معايير جديدة من الجمال، وليس تمرداً عليها. هذه المعايير بالغة التعقيد والمتضاربة أحياناً، تتحدى الزمن والطبيعة البشرية، ترحب بالجسد الممتليء لكن مع بروز عظم الفكين والرقبة الطويلة والمشدودة. لا أحد من أصحاب الوزن المثالي يودّ أن يصبح بديناً، إلا أن نسبة معينة من الدهون مطلوبة في الصدر والأرداف، لذلك تصبح حشوات السليكون ضرورية!

منذ عقود طويلة، تغلّبَ شكل الجسد على وظيفته، وخضع لعمليات من القولبة والتصنيع، صارت واقعاً مكرّساً، حتى الطريقة التي ننظر بها إلى جسدنا تمت برمجتها، إذ أصبحنا نعاتب أنفسنا ونعاقبها عند زيادة بضعة كيلو غرامات، ونتحجج بذريعة الصحة، والأمراض التي تسببها السُمنة، لكنها في الحقيقة مخاوفنا من الخروج من الحيز المقبول اجتماعياً. صار النظر إلى الجسد، ككتلة طبيعية ووظيفية تتبدل وتتغير عبر الزمن، ينطوي على أبعاد سياسية واجتماعية، لأنه بمثابة تحدٍ لنظام راسخ، ومنظومة من معايير جمالية فاشية تلفظ خارجها أجساداً مرهقة ومتعبة، أجساد الأمهات اللواتي أنجبن خمس أطفال مثلاً، وأجساد النساء اللواتي لا يجدن الوقت الكافي أو القدرة المادية للعناية بمظهرن، أجساد المصابين بالاكتئاب.. والكثير الكثير من الأجساد البائسة بسبب شكلها ومقاسها.

بعد خسارة 12 كيلوغراماً، ورحلة طويلة من تحدي الذات، والتجويع، والركض على أجهزة الجري في النوادي كأن شبحاً يطاردني، وبالرغم من مخاوفي المستمرة من العودة إلى الماضي عندما كنت بدينة، إلا أنني أعرف يقيناً أنه لا شيء مريحٌ أكثر من الجسد العادي، وأنه لا شئ أكثر رحمة من الجسد الذي يؤدي وظيفته على أتم وجه من أجل البقاء على قيد الحياة، غير أن هذا اليقين يبقى هشّاً وضعيفاً، ليس لأنه فاقد للصحة، بل لأنه أضعف من محاربة منظومة المعايير القائمة.