بينما نقترب من إتمام عامين على تولي ترامب سدة الرئاسة، بدأت نتائج وتأثيرات سياسته «أميركا أولاً» تظهر بوضوح، وبدأ مؤيدو النظام العالمي القائم على القواعد متعددة الأطراف يشعرون بالقلق. نحن نشهد نهاية الاستقرار ضمن نظام الهيمنة الأميركية (Pax Americana)، أو نهاية الأمركة بمعناها العام، فعلياً، ونهاية دعم الولايات المتحدة لنظام عالمي أنشأته هي وحلفاؤها بعد الحرب العالمية الثانية.
تبشّر سياسة «أميركا أولاً» بعودة النزعة التجارية (الميركانتيلية)، فانهيار العولمة والتجارة الحرة والسلسلة القيمية العالمية، سيحمل آثاراً اقتصادية سلبية علينا جميعاً. في الحقيقة، لقد تم تحذيرنا مسبقاً، إذ إن دونالد ترامب كان صريحاً، منذ التسعينيات، بشأن ازدرائه للعديد من جوانب النظام العالمي الجديد.
منذ ما قبل فوزه بالرئاسة بعقود- وهو الفوز الذي شكَّل مفاجأة مزعجة للمؤسسة السياسية الأميركية، وأتى مدعوماً من قِبل أولئك الذين أُهمِلوا، وتلقوا الازدراء من قِبل السُلطة، وأصبحوا «غرباء في أوطانهم»، حسب وصف آرلي هوتشيلد البليغ- عُرف عن دونالد ترامب انتقاده الشديدة للعولمة والنظام التجاري العالمي، بل إنه وفي بداية 1993 هاجم اتفاقية أميركا الشمالية للتجارة الحرة (NAFTA) بشدة.
علاوةً على ذلك، انتقد ترامب علاقاتنا مع الصين منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي. واليوم، وعلى الرغم من أن تغريدات ترامب تجعل دبلوماسيي واشنطن يسهرون الليالي، إلا أن هذه التغريدات متسقة مع مواقف الرئيس السابقة (وتعهداته الانتخابية لعام 2016)، التي اعترض فيها بشكل جذري على المعايير الاقتصادية الليبرالية الدولية في الماضي، أي في فترات رئاسة كل من أوباما، بوش الابن، كلينتون، وبوش الأب.
وكان الرئيس ترامب في خطابه الافتتاحي واضحاً جداً في أن أميركا ستكون «أولاً» خلال عهده. مع سياسة «أميركا أولاً»، يأتي الجميع في المرتبة الثانية، أو ما هو أسوأ، فصدى حقبة الثلاثينات والفترة الانعزالية بات صادحاً. لقد ألغى ترامب، بفخر وعلى الملأ، القيادة الأميركية للنظام العالمي عندما رفض التوقيع -بطريقة صدامية- على بيان مجموعة الدول السبع الكبار في عام 2018، وعندما رفض حتى الإشارة اللفظية لـ«نظام عالمي مبني على النُظم والقوانين» – وهي عبارة دبلوماسية جوفاء أصلاً – في البيان. وقد أشار الرئيس الأميركي في خطابه الذي ألقاه في الأمم المتحدة عام 2018، بوضوح تام: «لقد هجرنا إيديولوجيا العولمة، واعتنقنا مذهب الوطنية». ومنذ ذلك الحين تركت سياسة «أميركاً أولاً» آثارها المفزعة على نظام التجارة العالمي.
اليوم، يواجه نظام التجارة الدولي القائم على النُظُم أخطر تحدياته منذ عام 1944، فمنظمة التجارة العالمية واقعة في جمود مميت، ونظام تسوية الخِلافات بالكاد يعمل تحت إشراف هزيل من ثلاثة قُضاة فقط، ومع نهاية العام سيتوقف عمل هذا النظام مع توجّه المزيد من القُضاة نحو التقاعد، وإن لم يتم إيجاد بدائل لهم فإن العمليات التجارية على مستوى منظمة التجارة العالمية ستتوقّف.
في الواقع، هدد الرئيس مراراً بمغادرة منظمة التجارة العالمية إذا ما تعارضت قراراتها مع مصالح الولايات المتحدة، وهو أمر ممكن الحصول. في الوقت نفسه، تشير الدلائل إلى أن توسّع التعاملات الثنائية الجديدة اليوم يمكن أن يؤدي إلى ترسّخ نظام تجاري أكثر انقساماً وتعقيداً، وأقل حريةً وعدالة؛ أقل عدالة لأنه سينحاز أكثر للدول الكبرى، مما سيلحق الضرر بالدول الأصغر والأضعف. بالإضافة إلى ذلك، فإن استبدال التعاملات التجارية العالمية الشائعة بمجموعة من التعاملات الثنائية هو بطبيعته مسألة أكثر تعقيداً، وأقل فائدة، وبالطبع أكثر صعوبة بالنسبة للشركات الكبيرة والصغيرة على حد سواء.
يقود هذه التعاملات الثنائية اليوم موظفون كبار معادون للنظام العالمي، مثل بيتر نافارو، مساعد المدير الرئيسي للتجارة والسياسة الصناعية، ومؤلف كتاب الموت القادم من الصين
على المنوال نفسه، أمضى الممثل التجاري للولايات المتحدة (USTR)، روبرت لايتيزر، عقوداً وهو يرفع الدعاوى القضائية للدفاع عن منتجي الحديد في الولايات المتحدة ضد مستورديه من الصين وكوريا الجنوبية. ولنا أن نتخيل لايتيزر وفريقه المختار بعناية فائقة على طاولة المفاوضات اليوم، يناقشون فائدة منظمة التجارة العالمية، والتجارة الحرة، وهم يحملون وجهة النظر المعادية تلك.
بالنسبة للبيت الأبيض الحالي، فإن عقد الصفقات وفقاً لأرضية مشتركة هو، بالتعريف، لا- صفقة. فلكي تربح الولايات المتحدة يجب أن يخسر أحدٌ ما، وإن كان هناك إيجابية ما لطرف آخر، فهذا يعني حتماً أن هناك خسارة للولايات المتحدة. تعكس كيفية إبرام الصفقات بالنسبة للبيت الأبيض اليوم، العقلية التي يفكر بها الرئيس عندما كان مقاوِلاً، فقد اعتاد حينها على طرح صفقته، والمغادرة فوراً في حال تلقّى رداً لا يتضمن الموافقة الكاملة عليها. هذا التبسيط الشديد، القائم على كليشيه «هذا هو الموجود، خذه أو اتركه» عديم الواقعية في الدبلوماسية الدولية، التي تتطلب مقايضات معقدة وتفاهمات تمت صياغتها على مدى سنوات في العديد من المجالات. إن مفهوم ترامب للدبلوماسية لا يمكن بأي حال أن يكون طريقة ناجحة لبناء العلاقات الدبلوماسية اللبقة والسلسة مع الحلفاء والخصوم. يُجمع المُفاوضون المتمرسون على تأكيد أن أسلوب ترامب ليس ناجعاً للحصول على صفقات ذات مصداقية، فللوصول إلى ذلك هنالك حاجة لمعرفة وجهة نظر خصومك وفهمها، وتخمين أهدافهم النهائية، وما هي المساحات التي يمكن تقديمها لهم من أجل الحصول على ما أسماه روبرت بوتنام «قطّاعات الربح»، أي تلك التي يستطيع فيها الطرفان الادعاء بالفوز.
باتت المحادثات التجارية اليوم تُبنى على نظرية «خذه أو اتركه». فعلى سبيل المثال، تعدُّ الاتفاقية الجديدة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA) أسوأ بكثير لكلا البلدين من اتفاقية أميركا الشمالية للتجارة الحرة (NAFTA). وتتضمن هذه الاتفاقية شروط المحتوى المحلي، والحد الأدنى للأجور، ما قد يجعل منطقة التجارة في (USMCA) أقل ربحية للشركات التي تعتمد على سلاسل التوريد المتكاملة. ومع ذلك، كانت الصفقة هي أفضل ما يمكن أن نتوقعه من رئيس كان الدافع له، كما ورد مسبقاً، هو التخلي عن (NAFTA) تماماً. ونعلم أنه قد تم تجنب الفراغ الكامل فقط بعد قرار رئيس المجلس الاقتصادي القومي الأميركي، غاري كوهن، سحب خطاب إعلان خروج الولايات المتحدة من (NAFTA) من مكتب الرئيس قبل أن يتمكن من التوقيع عليه.
وبالنظر إلى المستقبل -وبخلاف بريطانيا الـ«بريكست»، اليائسة والفاقدة للأصدقاء-، سيكون هنالك عدد قليل من الدول المستعدة للانضمام إلى هذه التعاملات الثنائية اللاتفاوضية مع أميركا. لماذا؟ لأن الإدارة الأميركية تطالب بالاستسلام، ولا تُفاوض، ولا تبذل سوى قليل من الجهد لفهم احتياجات الآخرين، أو مواقفهم، في حين تضع مطالبها المصلحية أمامهم وكأنها صخور صمّاء.
شخصياً، لا أتوقع من دول كثيرة أن تتقدم للحصول على صفقات متعثرة، تقرّ فيها، فعلياً، بهزيمتها إثر تلقيها إهانات دبلوماسية. وهكذا فنحن نشهد اليوم نهاية الهيمنة الأميركية الناعمة، ونهاية التعددية، وصعود الميركنتيلية، وصعود فكرة «أميركا أولاً».
ليبقى السؤال بعد كل هذا: ما الذي يجب أن يقوم به حلفاء ومؤيدو البُنية الدولية السائدة حتى الآن، الذين استفادت بلادهم منها بشكل كبير؟
أولاً، يجب على المدافعين عن النظام التجاري العالمي التخطيطُ لغياب أميركا، ويجب على القادة الأمميين الاستعداد لعالم ما بعد أميركا؛ يجب عليهم أن يضعوا خططاً لمواجهة سيناريوهات التغيرات المناخية، وتطوير سياستهم الخارجية إزاء بؤر التوتر، وأيضاً التحضّر للصفقات التجارية الجديدة، دون التعويل على الدور الأميركي التاريخي في كل هذه الأمور. قد يستمر هذا الخواء الأميركي لست سنواتٍ إضافية، فمن المحتمل جداً أن يفوز الرئيس ترامب بفترة رئاسية ثانية، خاصة بعد أن انخفضت نسبة البطالة إلى 3.7 في المئة، وهو أدنى مستوى لها منذ 49 عاماً. عادةً ما يُعاد انتخاب الرؤساء الأميركيين إذا كان الاقتصاد قوياً في فترة ولايتهم الأولى، وغالباً ما يُرجِّح هذا فوز الرؤساء بولاية ثانية. لذلك، علينا أن نتوقع أضراراً كبيرة يمكن أن تلحق بالنظام العالمي خلال هذه الفترة، وهذا هو الواقع المرير الذي تولي الحكومات انتباهها له الآن.
ثانياً، ستكون هنالك حاجة لإعادة تشكيل تحالفات للدفاع عن النظام العالمي، من دون الولايات المتحدة، وقدر الإمكان، إلى جانب الصين. لقد أخذ الرئيس الصيني، شي جينغ بينغ، على عاتقه بالفعل لعب دور المدافع الرئيسي عن العولمة، في المنتدى الاقتصادي العالمي، وأيضاً في الأمم المتحدة، وهذا يشير إلى أنه قد يكون شريكاً مرغوباً. يبدو الرئيس الصيني واعياً لضرورة التمسّك بالأسس التي ارتكز عليها ازدهار الصين الاقتصادي، والتي تحمل فرص نجاحها في المستقبل.
على العكس من ذلك، ستسرِّع سياسة «أميركا أولاً» من التراجع الجيوسياسي النسبي لأميركا، وتقوض فعالية قوتها الناعمة، بدلاً من تعزيز موقفها. ومع انسحاب أميركا طواعيةً من القيادة المهيمنة على النظام العالمي، يبدو أن آخرين، بما في ذلك الصين، مستعدون لملء الفراغ، والمساهمة في دعم النظام الدولي، وسيكون على الاتحاد الأوروبي أن يفعل شيئاً بشأن ذلك بالطبع.
ثالثاً، يجب على الاتحاد الأوروبي وقادته أن يدافعوا بقوة عن النظام الدولي القائم، بدل أن تهرول دوله منفردة للبحث عن امتيازات قصيرة الأمد، بالتوافق مع رئيس متقلب وسريع الغضب. لقد كان الرئيس ماكرون على حق عندما قال: «لا تقبلوا نهاية التعددية، لا تقبلوا أن يتفكك تاريخنا».
إن حكومات الاتحاد الأوروبي اليوم مطالبة بأن تدعم النظام الدولي الذي دعم السلام، والتكامل السياسي، والعولمة الاقتصادية، والزيادة الهائلة في إجمالي الناتج المحلي العالمي.
يجب أن تستمر أوروبا في أخذ زمام المبادرة في العديد من المجالات، كالتغيّر المناخي، ودعم المحكمة الجنائية الدولية، والحاجة إلى تحديث وتفعيل منظمة التجارة العالمية، بالإضافة للعمل من أجل نظام عالمي اقتصادي متناسق مالياً ونُظُمياً (عبر مجموعة العشرين، ومجلس الاستقرار المالي). لقد بُني النظام الحالي عبر عقود، وهنالك حاجة لتعزيزه وحمايته من التحطيم. لكن كل ما سبق غير كافٍ في حدّ ذاته، فهنالك حاجة للتعامل مع غضب الناخبين عبر التوجّه نحو مصدر غضبهم وسخطهم.
يتعين اليوم على الحكومات، بشكل جدي، أن تفعل الكثير من أجل الناخبين والعمال الذين خذلهم الاقتصاد الرقمي، بعد أن سحب نظام التشغيل المؤقت البساط من تحت أقدامهم. إن المحاججات المُبالغ بحجمها، وغير المقنعة سياسياً، بأن التجارة المفتوحة كانت جيدة للعالم، هي محاججات صحيحة لكنها غير كافية، كونها فشلت في تلبية احتياجات أولئك المتضررين الغاضبين من العولمة، كالعاطلين عن العمل في مرسيليا، وأصحاب الأجور المتدنية اليائسين في أثينا، والشباب المحبط في برلين وبرشلونة.
يتطلب الدفاع عن العولمة أن تعالج الحكومات في أوروبا بشكل مباشر الآثار الاقتصادية السلبية لـ «اللبرَلة»، وعليها أن توفر التدريب والفرص الجديدة، بالإضافة إلى دعم الرعاية الاجتماعية للمتضررين من التجارة الحرة.
إن عدم القيام بذلك سيكون أمراً أحمقاً وقصير النظر، ومن المؤكد تقريباً أنه سيضمن استمرار انخفاض دعم الناخبين للتجارة الحرة.
إن الفشل في الدفاع عن العولمة، وفي تعزيز أسسها الاقتصادية والمجتمعية في الوقت نفسه، يهدد بحدوث مزيد من التآكل في البنية السياسية ليسار الوسط ويمين الوسط اللذين يرتكز عليهما استقرار العالم وازدهاره، لا سيما في أوروبا. فإذا انهار الدعم للأحزاب السائدة، كما حدث لأحزاب يسار الوسط (في فرنسا، وألمانيا، وبولندا، وهنغاريا، وغيرهم)، فإن الأسس الانتخابية للتوافق والتقدم الاقتصادي ستتحطم.
يصدح صوت الشعبوية اليوم، ومن المحتمل أن يتصاعد أكثر في المستقبل القريب، وكتاب كيف تموت الديمقراطيات
لذلك، تقتضي منا التحديات التي تواجه العولمة والتجارة الحرة أن ندافع عن العولمة والبُنية المؤسسية والنُظم التي تضمن التجارة الحرّة، في الوقت ذاته الذي نقدّم فيه حلولاً واقعية وفعّالة للمشاكل الاقتصادية الحقيقية التي تواجه الناخبين، وتهدد مجتمعاتنا.