بمجرّد النقر على شعار (لوغو) موقع «الوكالة العربية السورية للأنباء»، أو سانا اختصاراً، وليس ناسا كما يحصل من التباس لدى البعض، يخترق مقطع موسيقي مسامعك دون استئذان ولا مُقدّمات، فتختلط مشاعرك بين السخرية والضحك والحقد.

أقلّ من عشرين ثانية من عزفٍ للنشيد الوطني السوري، تجعلكَ في حيرةٍ وارتباك، إذ أنك ربما تعتقد حينها أنّ «الجيش السوري الإلكتروني» قد نالَ منك بالفعل واخترقَ كمبيوترك. شعورٌ بالخطر يزيد في إفراز هرمونات التوتّر، بعد أن تكون قد استنفذتَ خياراتك في معرفة مصدر الصوت وطريقة إسكاته، حتى أنّ الحلول المُستعجلَة والمباشرة في كتم الصوت لم تجدِ نفعاً هذه المرّة، ومحاولة إغلاق المتصفّح بتبويباته الكثيرة باءت بالفشل، بل قد تفرض عليكَ لحظةٌ كهذه عودةً لا إرادية إلى حلولٍ بدائية لكنها تبدو مثالية؛ كـ «سحب الفيش» مثلاً، أو إطفاء الشاشة على عَجَل.

لاستيعاب ما جرى وبعد امتصاص صدمة الوهلة الأولى، تقوم بتحديث الموقع، فيخرج النشيد مُجدّداً. تُصغي بانتباه. تتذكّر مواقع ومنتديات «الدردشة» التي كانت رائدة في زمن النجومية لـ Messenger MSN وYahoo! Messenger. حينها، كان القائمون على بعض تلك المواقع يحاولون إضافة لمسةٍ من الرومانسية وجوٍّ من الـ «ريلاكس»، عبر منح الزائرين والمشتركين خيار الاستماع إلى الموسيقى والأغاني.

الاستماع هناك كان اختيارياً، لكن الاستماع هنا في موقع سانا إلزامي بحت، وهو أشبه ما يكون بأمرٍ عسكري صادر عن القيادة العليا، مع ملاحظة جودة الصوت الرديئة، ودرجة التشوّه البصري الكبيرة التي تتسبّب بها الألوان والأشكال غير المتناسقة منذ اللحظة الأولى لرؤية شعار الوكالة، ذلك رغم الاهتمام الواضح بتقديم الموقع وتحديثه بسبع لغاتٍ أجنبية، بينها العبرية والروسية والتركية، والفارسية بالطبع.

لم تكن زيارة موقع سانا هذه المرّة جولةً استطلاعية لأخذ جرعةٍ من السخرية بين الحين والآخر كما جرت العادة، وإنما محاولة لجمع ما يمكن جمعه من معلومات حول زيارةٍ قام بها وفدٌ حكومي برئاسة رئيس وزراء النظام السوري لمحافظة دير الزور، وما رافق هذه الزيارة من إعادة نصب تمثالٍ لحافظ الأسد في إحدى ساحات المدينة.

«بتوجيه من الرئيس الأسد… المهندس خميس يبدأ زيارة إلى المنطقة الشرقية لافتتاح عدد من المشاريع الخدمية والتنموية»، تحت هذا العنوان الطويل، نشر الموقع تقريراً (مع صور وتسجيل فيديو) عن تفاصيل الزيارة المذكورة من النواحي «الخدمية» فقط، في حين تكفّلت الفضائية السورية وعلى عَجَل، بالإشارة إلى التمثال الذي أُعيد مُجدّداً إلى مركز المدينة المُدمّرة.

عودة التمثال إلى المدينة المدمرة
عودة التمثال إلى المدينة المدمرة

تمثال «القائد المُؤسِّس» (التسمية الرسمية لحافظ الأسد في وسائل إعلام النظام)، كان قد اُزيل من قبل أجهزة الأمن في تموز/يوليو لعام 2011، خوفاً من وصول المتظاهرِين الى ساحة «السبع بحرات» ومحاولتهم تحطيمه، كما حصل في نيسان/إبريل من العام نفسه، عند تحطيم تمثال «الباسل» في الساحة التي تحمل الاسم ذاته، ولا تبعد عن ساحة الأسد الأب سوى نحو خمسمئة متر.

على بعد أمتارٍ قليلة من ساحة السبع بحرات، أو دوّار الرئيس كما هو معروف لدى سائقي سيارات الأجرة، يقع متحف دير الزور، هناك حيث بقي تمثال حافظ الأسد مُخزّناً لسبع سنواتٍ وسط الظلام وبين العناكب. تُرِكَ وحيداً، مختبئاً، هارباً من أصوات الرصاص، خائفاً من دويّ القنابل والصواريخ، مُفتخراً بهمجيّة البراميل المُتفجّرة التي غيّرت معالم المدينة بشكلٍ مُخيف.

موقع التمثال قرب ساحة السبع بحرات في دير الزور
موقع التمثال قرب ساحة السبع بحرات في دير الزور

في تموز/يوليو 2017، أصدر البنك الدولي تقريراً بعنوان خسائر الحرب: التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا. اختارت الدراسة التركيز على عشرة مدن، هي: حمص، وحماة، وحلب، وإدلب، ودرعا، ودير الزور، والرقة، وتدمر، ودوما، وعين العرب (كوباني). «وَقَعَ أكبر دمار كامل في دير الزور»، تُشير الدراسة، مُتحدّثةً عن نسبة الدمار التي لحقت بالمنازل السكنية في هذه المدن.

فوق قاعدة رخامية كانت إعادة تأهيل تمثال حافظ الأسد ونصبة فوق القاعدة الرخامية تقدمة من مجموعة قاطرجي الاقتصادية (KG)، وهي مجموعة مُتعدّدة المهام، واسعة النشاط التجاري، على صلة وثيقة برأس النظام السوري. تم إدراج مجموعة قاطرجي على لائحة العقوبات من قبل وزارة الخزانة الأمريكية، بسبب الدور الذي لعبته المجموعة بين داعش والنظام السوري، في شراء ونقل النفط والقمح من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيم باتجاه مناطق النظام. عجائبيّة، تموضَع تمثال «الأخ الأكبر» مجدّداً في مكانه، بعد أن اكتسى بلون «عجاج» دير الزور، اللون البرونزي. ذراعه الأيسر نصف مطويّة، ويده اليمنى تحمل ما يُفترض أنها لفافة ورق، في إشارة إلى الخَطابة والفصاحة والثقافة. يقفُ مُنتصِباً ومن خلفِه أحد مَشاهد الدمار، البناء العالي الذي يُعرف محليّاً بـ «برج شباط»، هناك حيث استمتع عناصر النظام لسنواتٍ طوال بقنص المدنيين، مستفيدين من الإطلالة المرتفعة التي تكشف جيّداً ما يسعى إليه أيّ قاتِل. لم يكترث «الأخ الأكبر» بما يتواجد خلفه من أطلالٍ لحيّ الرشديّة ومن ورائه حيّ الحويقة، فلا حياة هناك ولا شيء يستحقّ المراقبة. نظراته دائماً ما تكون مُتّجهةً نحو وينستون سميث (الشخصية الرئيسية في رواية 1984 لـ جورج أورويل) وغيره من المواطِنين في حيّ القصور والمناطق التي بقيت خاضعةً لسيطرته. هناك حيث يتواجد الشعب الذي يُصبِح ويُمسي على صورة وتفاصيل وجه «القائد المُؤسِّس» و«السيّد الرئيس». في المنزل، وفي العمل، وفي الطرقات، وفي المقاهي والحدائق، شعور المُراقبة بات شعوراً طبيعياً مفروضاً على الجميع. يَتّخذ «الأخ الأكبر»، بنسخته السورية، من السّاحات العامة، مكاناً مُفضّلاً له، وبشكلٍ خاص عند وجود دوّارٍ مروري، فهو ينتصب مُنتشياً في وسطه، وبحركةٍ لا إرادية، يقوم المارّون بالدوران حوله، في طقوسٍ أشبه ما تكون بالمُقدّسة. في الليل، وفي مشهدٍ سينمائي لا يحتاج إلى مؤثرات خاصّة أو معالجات بصرية، يظهر «الأخ الأكبر» كشعلةٍ وسط الصحراء. الأضواء الكاشفة تتّجه نحوه من جميع الاتجاهات. يَمتصّ ما تبقّى في الأرض من طاقة، ويترك باقي مناطق المدينة غارقةً في ظلامٍ دامس.

في روايته العنف والسخرية، يُخبرنا ألبير قصيري (1913- 2008) عن ضرورة وأهمية مواجهة عنف النظام الحاكم بالسخرية، فلا شيء يتغيّر وإن تغيرت السلطة: «الوجوه فقط تتغيّر ويبقى النظام قائماً». يرى قصيري أنّ هناك نوعين من الأشخاص الحالمِين بتغيير الأنظمة، أحدهما يَتّخذ من العنف المُسلّح طريقاً وحيداً لتحقيق ذلك (شخصية طاهر، المثقّف اليساري)، والآخر (شخصية كريم) يرى في السخرية الحلّ الأمثل لمواجهة هذه الأنظمة، فـ «العنف هو ما يبحث عنه الطغاة، وحين نأخذهم على محمل الجد، فإنّ ذلك يعطيهم نوعاً من الاحترام والأهمية، وخصومنا أوغاد لا يستحقون هذا».

لعلّ عودة تمثال «القائد المُؤسِّس» إلى تلك الساحة في دير الزور، ما هو إلا مثالٌ بسيط عن مستوى السخرية المُفرِطة التي تُرافق أفعال النظام، رغم قناعة أصحاب القرار في هذا النظام بجديّة وصَواب أفكارهم على الدوام. في 30 آذار/مارس لعام 2011، وفي الخطاب الأوّل لـ «السيّد الرئيس» بعد اندلاع الثورة السورية، ظَهَرَ أخيراً الرجلُ الشجاع، عضو مجلس الشعب السوري، الراحل خالد العلي. وَقَفَ العلي بلباسه التقليدي أثناء النقل المباشر للخطاب، ونَطَقَ بالكلمات الأكثر سخرية التي يُمكن أن تُقال في لحظةٍ كهذه: «الوطن العربي قليل عليك، أنتَ لازم تقود العالم يا سيادة الرئيس». قبل أن يعود العلي للجلوس في مكانه، كانت موجة التصفيق الحار قد انطلقت من قبل «نُوّاب الشعب» الحاضرين، أي أنهم شاركوا بإرادتهم في فعل السخرية بأقل جهدٍ ممكن.

في عام 2007، كانت دير الزور على موعدٍ مع قدوم «الأخ الأكبر» الصغير، بشار الأسد. التحضيرات جارية على قدمٍ وساق. الموظفون والطلبة وغيرهم من أبناء المحافظة، تمّ تجميعهم (بصورةٍ عفوية) في ساحة السبع بحرات. مِن على شُرفةٍ لبناءٍ حكومي تُطلّ على الساحة، ظَهَرَ «السيّد الرئيس» وأَخَذَ بتحيّة «القائد المُؤسِّس» الذي كان حينها يرتدي حلّةً بيضاء، ويحمل في يده اليمنى لفافة الورق ذاتها. اليوم، لم تعد الشُّرفة صالحة للاستخدام، لكنَ سخرية الحرب وعنفها أعادا مُجدّداً تمثال «الأخ الأكبر» وسط أشباح تلك المدينة.

أعود لتحديث موقع وكالة سانا مرّةً أخرى، لا شيء جديد، باستثناء عنوان لخبر، سيكون العالم مكاناً جميلاً للأحلام بعد قراءته: «عودة البث الإذاعي والتلفزيوني إلى دير الزور بعد انقطاع دام 7 سنوات».