ليست قضية المقاتلين الأجانب في التنظيمات الجهادية مسألةً حديثة، بل هي قديمة قِدم وجود هذه التنظيمات، لكنها تبرز كقضية ملحّة خلال الأسابيع الأخيرة، جرّاء اقتراب المعركة مع آخر جيوب داعش في منطقة شرق الفرات من نهايتها، وبسبب تزايد أعداد المقاتلين الأجانب في سجون قوات سوريا الديمقراطية، الحليف الرئيسي للتحالف الدولي في سوريا.

وللبحث عن حلول لهذه القضية التي باتت مصدر أرق لدول كثيرة، كانت كندا قد استضافت اجتماعًا دولياً قرب أوتاوا يوم السادس من شهر كانون الأول 2018، ضمّ وزراء دفاع ثلاثة عشر دولة، من بينها كندا وأستراليا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، وأعلن في ختامه وزير الدفاع الكندي هاجيت ساجان، أن مصير نحو 700 مقاتل أجنبي معتقلين في سوريا ستحدده البلدان التي يتحدرون منها.

لم يتم الإعلان عن نتائج حاسمة في ذاك الاجتماع، سوى التوافق على تحسين معايير احتجاز هؤلاء في سجون قسد. وبحسب جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأمريكي السابق، فإن قوات سوريا الديمقراطية تحتجز معتقلين يتحدرون من نحو 40 بلداً.

وقد التحق بالتنظيمات الجهادية في العراق وسوريا عشرات آلاف المقاتلين الأجانب خلال الأعوام العشرة الأخيرة، وعلى وجه الخصوص بتنظيم الدولة منذ ولادة نسخته العراقية الأولى على يد أبي مصعب الزرقاوي. ولا توجد أرقام مؤكدة لأعدادهم، ولا إحصاء معلن لجنسياتهم، لكن العدد الأكثر تداولاً يتراوح ما بين أربعين وخمسين ألف مقاتل من دول أجنبية خلال هذه السنوات، لا يزال الآلاف منهم في تنظيمات جهادية متعددة، أبرزها خلايا ومجموعات تنظيم الدولة في التي لا تزال تحتفظ بتواجد في العراق وسوريا حتى اللحظة، وهو رقم لا يشمل المقاتلين المتحدرين من دول عربية.

يشكل مصير هؤلاء، أو من تبقى على قيد الحياة منهم بعد سنوات المعارك الطويلة، عامل أرق للحكومات الغربية وأجهزتها الأمنية وحتى شرائح من شعوبها،  خاصة تلك الدول التي عانت من هجمات لعناصر ينتمون لتنظيم داعش مؤخراً مثل بلجيكا وفرنسا، حيث تشكل عودة هؤلاء هاجساً أمنياً وتحدياً مجتمعياً خطيراً، يتعلق بأوضاع مراكز احتجازهم وعائلاتهم وحقوقها وكيفية إدماجهم بالمجتمع في حال عودتهم، إذ صرحت الحكومة البلجيكية على سبيل المثال بأنها تخشى من ازدياد عمليات تجنيد يقوم بها معتقلون جهاديون داخل سجونها.

ولمواجهة هذه المخاوف، تفكر تلك الدول بحلول كثيرة غير إعادة المقاتلين المستسلمين أو المعتقلين إلى أراضيها الآن، ومنها تحسين أوضاعهم في أماكن أحتجازهم في العراق وسوريا، وهو ما يحصل في سجون قوات سوريا الديمقراطية، حيث يُعامل رعايا تلك الدول معاملة خاصة، ضمن ظروف احتجاز تماثل ظروف الاحتجاز المحتملة في بلدانهم نفسها، ويحضر عمليات التحقيق معهم عناصر استخباراتية من بلدانهم في أحيان كثيرة.

لكن الأعداد الكبيرة للمعتقلين في سجون قسد، والتي قيلَ إنها بلغت 700 مقاتل قبل انطلاق معركة شرق دير الزور الأخيرة، تجعل من إدارة هذا الملف أمراً بالغ الصعوبة في ظروف عدم الاستقرار الراهنة. وتشير جميع الأنباء المتتالية إلى أن هذه العدد يتزايد سريعاً خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، جرّاء استسلام أعداد من هؤلاء المقاتلين، الذين تداولت مواقع إلكترونية أسماء كثيرين منهم وجنسياتهم، وهو ما تؤكده مصادر محلية متقاطعة، ومصادر داخل قوات سوريا الديمقراطية نفسها.

وتشير تسريبات أسماء المقاتلين المستسلمين مؤخراً إلى تحدرهم من دول أجنبية متعددة، منها تركيا وأفغانستان وروسيا وكازخستان وطاجيكستان وأوزباكستان وألمانيا وأوكرانيا وإيرلندا والولايات المتحدة وغيرها.

ويعود هذا الازدياد الملحوظ في أعداد المقاتلين الأجانب المستسلمين إلى اقتراب معركة شرق الفرات من نهايتها، وتجمع آلاف المقاتلين في بقعة شديدة الضيق تتعرض لقصف جوي عنيف من قبل التحالف الدولي، وما يرافق هذا من شعور باليأس لدى كثير من المقاتلين. ويفرض هذا أعباء جديدة على قسد والتحالف الدولي، من ناحية تأمين هؤلاء وعدم المخاطرة في تجميعهم في مكان واحد، ما قد يسبب خطراً أمنياً على المنطقة فيما لو حدث هروب كبير للمحتجزين، على غرار ما حدث سابقاً في سجن أبو غريب في العراق عام 2013.

ومن الأحداث التي تشير إلى أهمية هذا الملف ومحوريته، مبادرة قيادة قوات سوريا الديمقراطية إلى استخدام هذه الورقة فور إعلان ترامب نيته سحب قوات بلاده في سوريا، وهو الإعلان الذي اعتبرته قسد تخلياً عنها، إذ هددت الأخيرة بإطلاق سراحهم كونها لن تستطيع إدارة هذا الملف وتحمّل مسؤوليته بمفردها.

وليس الاحتفاظ بهؤلاء في سجون قسد أو العراق مع تحسين أوضاعهم أمراً نهائياً، كما أنه ليس سياسة تتبعها جميع الدول الأجنبية، إذ استعادت كازخستان نحو 46 شخصاً يحملون جنسيتها مطلع كانون الثاني الجاري، هم خمسة مقاتلين كانوا محتجزين في سجون قسد، وواحد وأربعون طفلاً وامرأة من عوائل مقاتلين. كذلك تلجأ دول أخرى إلى حلول وسط، تقضي باستعادة الأطفال والنساء الذين يحملون جنسيتها فقط، وقد نقلت وكالة فرانس برس أواخر العام الماضي أنباء تفيد بنقل عشرات الأطفال والنساء من العراق إلى روسيا، معظمهم من داغستان والشيشان.

ويشكل الأطفال الذين ولدوا في مناطق سيطرة داعش نتيجة زواج مقاتلين أجانب من نساء يحملنَ الجنسية نفسها أو جنسيات أخرى، أو من نساء في المجتمعات المحلية، تحدياً قانونياً وأخلاقياً كبيراً يواجه دول المقاتلين الأصلية، سواء فيما يتعلق بجنسيات هؤلاء الأطفال وإثباتها، أو فيما يتعلق بحقوقهم ومصيرهم.

لا يبدو أن معضلة المقاتلين الأجانب تسير في طريقها نحو حلّ قريب، لما تحمله من تعقيدات قانونية وسياسية وأمنية، ولعلّها ستشكل أبرز تحديات المرحلة القادمة ممّا يسمى الحرب على الإرهاب، وسيكون بحث مصير هؤلاء وكيفية محاكمتهم وإعادتهم إلى دولهم الأصلية وإعادة تأهيلهم على رأس جدول أعمال دول كثيرة عبر العالم خلال الأشهر القادمة.

وفي ظل استمرار وجود الآلاف من هؤلاء في سوريا والعراق وغيرهما، واستمرار وجود بؤر مشتعلة عديدة في العالم، ومواصلة التعامل مع قضية الجماعات الجهادية باعتبارها قضية أمنية محضة من جهة، وقضية يمكن الاستفادة منها سياسياً من جهة أخرى، فإنه يمكن أن يتم إفساح المجال أمامهم للانتقال إلى أماكن وجبهات أخرى عبر توافقات استخباراتية دولية مباشرة أو غير مباشرة. وإذا كانت اتفاقات كهذه لا يمكن أن ترشح إلى العلن، فإن تجارب سابقة عديدة تشير إلى أنها تبقى أمراً محتمل الحدوث.