في إطار البحث عن مقاربة تاريخية وإسقاطها على الواقع السوري، وكذلك في محاولة لفهم ما جرى ويجري في وقتنا هذا، أسترجعُ ما كتبه الأديب الأميركي هنري ديفيد ثورو في نصه الشهير عن العصيان المدني، On the Duty of Civil Disobedience، في منتصف القرن التاسع عشر. ويعدُّ هذا الكتاب من أهم النصوص الأدبية التي تتحدث عن المقاومة المدنية ورفض سياسات الظلم والاستبداد على مرّ السنين، وقد كان مصدر إلهام لعدد من المفكرين والمناضلين اللاعنفيين في أنحاء العالم، من أمثال ليو تولستوي وغاندي ومارتن لوثر كينغ، في كتاباتهم وخطاباتهم ونضالاتهم من أجل العدالة.
يورد ثورو في كتابه أفكاراً فلسفية عديدة، ويُظهر بشكل جلي كيف أن الإنسان يحوز بإنسانيته الفطرية مخزوناً من الأخلاق والضمير، كافياً لتجنيبه الوقوع في أي مخالفة يمكن أن تحددها القوانين. ويرى خلال قراءاته وتجاربه أن الأنظمة والقوانين لم تكن أعدل من الإنسان، بل على العكس، فالحكومات في شكلها الحالي – في زمانه – أعاقت الطريق نحو الحرية، وهي تعمل أساساً على النقيض من المصلحة العامة. منتقداً الحكومات شكلاً وأداءً، يأخذ ثورو عليها أنها جسم خشبي يفتقد حيوية الفرد، وبما أن الفرد يحكمها فهي ضعيفة من الداخل، تستعين بالقوة الخارجية لإرهابنا. وهو يرى أن المواقع المضيئة في التاريخ الأميركي على سبيل المثال كانت من صنع البشر الأفراد وليس الحكومات، لا بل إن الحكومات كانت وما تزال العائق أمام أي تطور أو تقدم.
يورد هنري في نصه عن العصيان المدني جملة على الشكل الآتي: «إن الثبات أمام الغلط الأشيع والأوسع يتطلب الفضيلة الأكثر زهداً»، قاصداً أننا لكي نتصدى لحالات الظلم والجور والاستغلال المتكررة والمنتشرة في زماننا، لا بدّ لنا أن نعود إلى فضيلتنا الأخلاقية، فضيلتنا العادلة والحكيمة، التي تخلى عنها معظم الناس، حتى أصبح الرجوع لهذه الفضيلة – بتوصيف هنري – زُهداً. وإن العلاقة بين الخطأ الأشيع والأوسع والفضيلة الزاهدة بحسب كلام الأديب الأميركي ينبغي أن تكون علاقة طردية، كلّما ازداد الأول تزداد الثانية.
فماذا لو كان هنري يعيش معنا كسوريين؟ ماذا كان سيرى في تاريخنا الحالي؟
يبدو الخطأ الأشيع والأوسع في زماننا واضحاً في تسليم السلطة في سوريا لترسانتها الكيماوية برقابة دولية، عوضاً عن معاقبتها على التسبب بمقتل مئات المدنيين في ريف دمشق والشمال السوري بهذه الترسانة، هذا قبل أن تبين الأيام أن النظام لم يُجرَّد حتى من كل ترسانته تلك. ثم ما الخطأ الأشيع والأوسع في زماننا إلا أن نسمع مراراً وتكراراً عن قوائم جديدة لمعتقلين سوريين قضوا في سجون النظام السوري تحت التعذيب؟! وما الخطأ أكثر من اختطاف أربعة نشطاء مدنيين عاملين بالحقل الإنساني والحقوقي، والإصرار على إخفاء المعلومات عن مكانهم ومصيرهم؟! وغير هذه الأمثلة كثيرٌ كثير.
ربما كان الأديب سيدعو إلى إعمال الجانب الإنساني الذاتي داخل كل فرد منا؛ للعودة ربما إلى فضيلتنا الأخلاقية الأولى بغض النظر عما يحدث في العالم المحيط، علماً أن ما يحدث ما فتئ يُنبِئنا بغياب أي ضمير جمعي، مقابل وجود مجموع لضمائر الأفراد. ربما كان سيرى أن تحركنا كأفراد سيُنتج حالة من العدالة، ويؤثر على الظروف الموضوعية التي نمرّ بها، وأن حراكنا سيسعى بكل جهد إلى مواجهة الخطأ الأشيع والأوسع، وتسجيل موقف ضده بفضيلة أكثر زهداً. فكيف تكون فضيلتنا الزاهدة القادمة؟ وهو سؤال أطرحه في الوقت الذي نعيش فيه نحن السوريون حالة عامة من الإحباط والخسارات المادية والبشرية.
الاتجاه نحو الفضيلة الزاهدة والكاملة، على وصف ثورو، هو من أجل قطع الطريق أمام أنصاف الحلول، وأمام القبول بما هو مُرضٍ في الوقت الراهن، لنُفاجأ فيما بعد بآثاره السلبية والعكسية. وهو يشبه ما حصل في التجربة السورية، بعد تقديم بعض التنازلات والقبول بخيارات عنفية وبالارتهان لقوى خارجية، كما حصل من قبل بعض المعارضين لنظام الأسد.
إن الاتجاه نحو تلك الفضيلة يتطلب منا أن نقوم بعمليات مراجعة وتمحيص لتجربتنا السابقة، وفهمها بشكل موضوعي وعقلاني، وتجاوز العوائق التي واجهناها خلال السنوات الثماني المنصرمة، بالعودة إلى مسبباتها الأصل. الاتجاه نحو الفضيلة الزاهدة يتطلب منا كسوريين نهجاً فكرياً جديداً في عدد كبير من مسائل حياتنا اليومية. نهجاً يتخذ شكلاً نضالياً، ولكن بأشكال مختلفة تتوافق مع الظروف الجديدة المفروضة علينا في شتاتنا الخارجي، وفي غربتنا الداخلية. تتعلق هذه الأشكال المختلفة باتجاهنا للانفتاح والتعود على تقبل المختلف وسماع وجهات النظر المناقضة لخاصتنا، واللجوء إلى الحلول الحوارية والعقلية في معالجة قضايانا وإعادة النظر في طرق التربية والتعليم التي انتهجناها سابقاً، لتكون ثورة داخلية على النفس البشرية، ثورة مسلحة بسلاحي الضمير والأخلاق في وجه الظلم والسواد في هذا العالم وفي أنفسنا.
إن الاتجاه نحو الفضيلة الزاهدة يعني سلوكنا للطريق الصعب والوعر، وابتعادنا عن الطريق السهل لأننا ننشد أحلاماً مديدة وطويلة الأثر، أي أنه من الممكن أن يتغير نظام الحكم أو شكل الدستور أو طبيعة السلطة في سوريا في الوقت القريب، ولكن الأهم هو أن نتغير نحن كسوريين وأن نترك وراءنا كل الأسباب والآليات التي جعلتنا نفشل في محاولتنا الأولى.
سيتلقى الكلام السابق رداً بأنه صعب المنال، وأن ما سبق هي أشياء تخصّ الفرد وذاته ولن يكون لها انعكاس على الشأن العام والقضايا الكبرى، فيكون الجواب على هذا التساؤل بجملة بسيطة لا يكفّ الأصدقاء عن ترديدها: الحرية يصنعها أحرار، وكي نكون أحراراً لا بد أن نسعى بكل ما أوتينا من جهد للعمل على ذواتنا وإشغال عقولنا وكسر قيود مجتمعية ودينية تحول بيننا وبين ما ننشد.
ألم يكن صعب المنال خروج الناس للمطالبة بحقوقهم في سورية عام 2011؟ ألم يكن مجرد الحلم بدولة مدنية ديمقراطية هو ضرب من الخيال عام 2011؟ ألم يكن التفكير في نقل الحكم من القلّة إلى عموم الشعب السوري ضرباً من الخيال؟!
إذن، هي دعوة لتجاوز أخطاء المرحلة السابقة والبدء في التفكير بحلول منطقية لتجاوزها وضمان عدم تكرارها في المستقبل القريب والبعيد، ولفهم طبيعة الصراع السوري على أنه صراع طويل الأمد، وأن نتائجه هي نتائج مديدة تحتاج لوقت كاف كي تظهر إلى العلن. وعلى الرغم من عدم تحقق مطالب الثورة السورية، ومن الخسارات الحاصلة على المستوى البشري والذهني والنفسي، إلا أنني أرجحَ وجهة نظر في ميزان الخسارة والربح للحراك السوري بأن ما حصل ليس خسارة نهائية لا رجعة عنها، لأن من ينشدون الحرية والعدالة في سوريا بدأوا حراكم، وهم خسروا جولة أمام القوة والبطش الذي واجه النظام السوري به الناس، لكن الصراع لم يقترب من نهايته.
لنطرح على أنفسنا سؤالاً جدلياً من الممكن جداً أن لا نجد له إجابة واضحة وصريحة، هل حقاً كنا في تحركاتنا أفراداً أصحاب ضمير، أم أننا اتكلنا على ضميرنا الجمعي غير الموجود أصلاً؟!
في سعينا نحو الديمقراطية والحرية، هل سمعنا وجهة النظر الأخرى؟ وعندما كنا نركض وراء نظم وصناديق اقتراع وناخبين وهياكل أخرى، هل حقاً كنا ديمقراطيين أحراراً في نضالنا؟! هل سمحنا لرياح التغيير بالتسلل والعبور إلى مخادعنا، أم أننا كنا متعنتين ورافضين لأفكار ومناهج تفكير جديدة؟!
تملك كل هذه الأسئلة برأيي مشروعية الطرح، وهي أيضاً ضرورية الإجابة، وفيها نوعٌ من إشغال العقل والمنطق، وإحياءٌ للضمير الإنساني الذي لا شك أنه مرتكزنا الأساسي كآدميين. وفوق هذا تأتي هذه الأسئلة من باب الأمل، الأمل المبني على وقائع وتجارب نجاح عديدة أنجزها سوريين كُثُر في أماكن تواجدهم خلال السنين الماضية.