يخرج محمد أبو أحمد في أحد صباحات منتصف شهر آذار/مارس 2018 من الملجأ، منتهزاً أخباراً عن «هدنة إنسانية» أقرّها الجانب الروسي لبضع ساعات، يُفترض أن تجعل من ذاك اليوم يوماً للقصف الاعتيادي، أي أنه سيكون أخفّ وطأة من الأيام والساعات الأخرى للحملة العسكرية الأوسع على غوطة دمشق الشرقية.
ومحمد أبو أحمد هو شاب ثلاثيني أسمر من أبناء بلدة كفربطنا في الغوطة، له عينان صغيرتان متعبتان، غارقتان في بقعتين سوداوين بفعل فقر الدم، خفيف اللحية، نحيل بفعل الحصار، أب لثلاث بنات، ولدت الأولى قبل الثورة بشهرين، والثانية بعد مجزرة الكيماوي بعشرة أيام، والصغرى أثناء الاقتتال الداخلي الثاني! هكذا كان يتم توثيق الأحداث في الغوطة الشرقية.
يحاول محمد بجد تشغيل دراجته النارية التي تعمل على وقود متجمد من البرد، تم استخراجه من عملية تقطير النفايات البلاستيكية. يشتغل محرك الدراجة النارية بعد عناء، فيطير بها متنقلاً بين الأحياء والأزقة والبلدات المجاورة ومراكز الإغاثة الشحيحة. بندقيته على كتفه، لكنه لن يذهب بها إلى الجبهات التي كانت قد أصبحت على مرمى حجر عنه، لأن عليه أن يؤمن الخبز والغذاء لأطفاله وزوجته الحامل. كذلك ستكون هذه الجولة على مشاقها فرصة «صفاء» ذهني، يحاول خلالها جمع شتات أفكاره، علّه يهتدي إلى قرار يحدد مصيره ومصير عائلته: ماذا سيفعل إن بقي على قيد الحياة، ثم وقع المحتوم وسيطر النظام السوري على الغوطة كلّها، فارضاً كما جرت العادة في مناطق سابقة خيارات المصالحة أو التهجير؟ هل يصالح ويبقى في الغوطة؟ أم يخرج إلى الشمال السوري مع الخارجين؟
أينما حلّ في سعيه وراء الطعام، كانت تتردد في أسماعه عبارة «وين صاروا!؟»، العبارة التي تصدّرت وقتها «ترند» العبارات الأكثر تداولاً في الغوطة، والتي تعني التساؤل عن مدى تقدم قوات النظام السوري وحلفائه، الذين كانوا قد بدأوا الاجتياح العسكري البري مع مطلع شهر آذار من عام 2018، في سياق الحملة العسكرية الأعنف، التي ابتدأت على كامل الغوطة الشرقية المحاصرة بتاريخ 18/02/2018، بعد فشل التقدمات البرية خلال حملات عسكرية سبقتها في الأشهر والسنوات الماضية.
في تلك الحملة، استطاع نظام الأسد إحداث خروقات، وبدأ التقدم من الجهة الشرقية للغوطة حيث الأراضي الزراعية. توالت الانهيارات بشكل سريع في مناطق النشابية وحزرما، ثم بشكل متتابع وتدريجي في أوتايا، تلاها مناطق الحواش والشيفونية والريحان شمالاً، والأفتريس والمحمدية ومزارع جسرين جنوباً، لتصبح المعارك البرية وخطوط الجبهات على تخوم المدن والبلدات الرئيسية، حيث الأبنية والمجمعات السكنية المكتظة، ولتختلف بذلك طبيعة المعركة وأدواتها قليلاً.
بعد فترة وجيزة، وبالتزامن مع عودة القصف الهيستيري، يعود محمد حاملاً معه نصف كيلوغرام من طحين الشعير، ونحو كيلوغرام من لحم الخاروف، الغذاء الأرخص وقتها فيما كان قد بقي من مناطق الغوطة، لأن قطعان الخرفان لا تستطيع أن تتغذى طبعاً على الإسمنت بعد فقدان الأراضي الزراعية والمراعي، فكانت السكاكين أقرب إلى رقابها من عشب يصعب العثور عليه بين الأنقاض.
يصرخ محمد على باب القبو منادياً «أم أحمد» زوجته الملتجئة فيه، علَّ الصوت يجد إلى مسامعها سبيلاً وسط ضجيج الأحاديث وبكاء أطفال قاطني الملجأ الجماعي، الذي اختاره محمد بناء على توصيات «جماعة شيخ المصالحة» بسام دفضع، وهو ملجأ من عدة ملاجئ حددها الشيخ «مناطق آمنة» لا تُقصف، ولن يتعرض أحدٌ لقاطنيها في حال دخلت قوات النظام إلى البلدة، وهو الأمر الذي لم يحدث لاحقاً بالطبع.
قبل التقدم البري لقوات النظام، كان هناك تمهيد عنيف من القصف بمختلف الذخائر والأسلحة العسكرية المباحة والمحرمة على المناطق السكنية والحيوية، استهدف كل ما يمت للحياة بصلة، واستمرّ بشكل يومي دون توقف يذكر على مدار الساعة لمدة أربعة عشر يوماً، ثم استمرّ بوتيرة متزايدة مع التقدم البري، بشكل يوضح تماماً النية لتدمير البنية التحتية لكامل المنطقة.
عاشت عائلة محمد معظم هذه الأيام في الأقبية، كان محمد يخرج خلالها في أوقات قليلة، غالباً ليلاً، باحثاً عن الطعام ومستلزمات الحياة الأساسية، وعن مصدر للطاقة عند أي صديق لشحن هاتفه الخلوي. وقد يكون مصدر الطاقة هذا مدخرة يتم شحنها عبر ألواح الطاقة الشمسة خلال النهار، أو مولد كهرباء صغير. كان محمد يسعى لأن يبقى هاتفه متصلاً بإحدى شبكات الانترنيت التي تهالكت بفعل القصف، ليبحث ضمن مجموعات الأخبار المحلية، المتهالكة أيضاً، عن أي خبر أو معلومة قد تساعده على اتخاذ قراره من بين الخيارات المحدودة المتاحة.
أدى تقدم النظام والانهيار السريع للجبهات إلى تكدس المدنيين والمقاتلين في بقع جغرافية أصغر، تتعرض لتدمير مستمر لكافة المرافق وتنعدم فيها مقومات الحياة، بعد أن كانت أصلاً مناطق محاصرة لعدة سنوات، وسط ظروف ندرة موارد الغذاء والمياه والطبابة والدواء ووسائل التدفئة، والبقاء. كانت تلك عوامل ضغط استثنائية، جعلت المقاتلين المنظمين في فصائل عسكرية يفقدون تنظيمهم وحماسهم ومعنوياتهم وعزيمتهم، ويفقدون الدافع الأهم للقتال، وهو حماية المدنيين، فهم عاجزون عن حماية أهاليهم من أعنف حملة عسكرية يمكن أن تُتخيل!
كما نشطت في تلك المرحلة حركات زعزعة داخلية في المناطق المتبقية في الغوطة، مدفوعة من النظام عبر مؤيديه وأدواته من وجوه محليين دينيين وحزبيين موجودين داخل الغوطة وخارجها، تدعو المدنيين والمقاتلين لتسليم مناطقهم والتوقف عن القتال مقابل ضمانات بعدم المساس بهم، وبإمكانية تجنيدهم لصالح قوات النظام ومنحهم عفواً وامتيازات، وهو الأمر الذي حدا بكثير من المقاتلين للاستسلام وتسليم أنفسهم وأهاليهم عبر ممرات أعلنها الجانب الروسي والنظام لهذا الغرض، وسميت «ممرات إنسانية». في مشهد سوريالي للغاية، يهرب الضحايا المحاصرون من جحيم قصف النظام وحلفائه، إلى النظام! في تلك الفوضى، لم يكن قد بقي إلا عدد قليل من المقاتلين غير المنظمين، أغلبهم مقاتلون عقائديون، ظلّوا مرابطين على جبهات متهالكة على أطرف مدن وبلدات الغوطة الأكثر اكتظاظاً، وظيفتهم فقط إبطاء تقدم قوات النظام، بانتظار أمر لا يعلمه أحد!
كفربطنا، بلدة محمد وعالمه، هي مركز ناحية تحمل الاسم نفسه، وتشكل مساحتها قسماً واسعاً من الغوطة الشرقية أو ما يعرف بالقطاع الأوسط. ورغم وجود نقاط تماس وجبهات لها مع النظام من جهة نهر بردى جنوباً، إلا أن النظام في حملته الأخيرة لم يحاول التقدم برياً منها، بل اقتصر دور قوات النظام في تلك الجبهات على قصف المناطق الداخلية للبلدة. فيما حاول النظام التقدم إلى البلدة من الجهة الشرقية، بعد أن تقدم في أراضي وبلدة جسرين المحاذية لها شرقاً.
لم تكن الجبهات الجديدة للبلدة مجهزة ومحصنة كما الجبهات على نهر بردى، والمقاتلون القلائل فيها هم عناصر غير منظّمة من أهالي وشباب المنطقة، بينهم من كانوا منظمين في فصائل مقاتلة، وبينهم من كانوا أفراداً غير منظمين. وقد حاولت الفصائل رفدهم بمؤازرات من مناطق أخرى، لكن المؤازرات كانت تخرج من المقرات بتعداد خمسين عنصراً مثلاً، لتصل إلى الجبهات بعنصرين أو ثلاثة. المقاتلون يتسربون، لا يجدون جدوى من قتالهم، ولديهم على سلّم أولوياتهم عوائل وأطفال جوعى في الأقبية والملاجئ، لن ينظر أحدٌ في حالهم إذا هم اتجهوا إلى الجبهات. كانت تلك لحظات قد يتنكر الأخ فيها لأخيه، كأن يوم القيامة قد وجد في الغوطة مسرحاً لأهواله.
في البلدة، وبالتوازي مع عمل الشيخ بسام على تجميع وتحشيد الناس في أماكن قريبة من مكان إقامته، افتتح مركزاً لتسجيل أسماء طالبي التهجير رافضي المصالحة، وطالبي المصالحة، في حركة لمباغتة الفصائل المعارضة المحلية، التي رفضت أي عرض للتفاوض في حينها، بما في ذلك عروض لعب فيها بسام دفضع دور الوسيط مع قوات النظام.
وبسبب معارضة الفصائل لها، كان واضحاً أن مبادرة الشيخ بسام لتسجيل أسماء طالبي التهجير والمصالحة ليس لها أي اعتبار، ولا يمكن التعويل عليها أبداً كخطوة على طريق إنهاء الحالة الكارثية في المنطقة، أو حتى الخلاص الفردي على الأقل. لكنها شهدت إقبالاً كبيراً على الرغم من ذلك، خاصة بعد المجزرة الأخيرة التي وقعت في كفربطنا يوم الجمعة السادس عشر من شهر آذار(مارس)، والتي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى، وجاءت بعد إشاعات أطلقها مؤيدو الشيخ دفضع، تفيد بأن كفربطنا منطقة آمنة، وأن المواقع التي حددها الشيخ هي ملاذ آمن للمدنيين، وهو ما جعل العديد من أهالي الغوطة يتوجهون إلى كفربطنا، كما جعل المحتجزين في الأقبية يُبعثون وينتشرون في شوارع البلدة لقضاء حاجاتهم التي تعذر قضاؤها خلال الأيام المريعة الماضية!
محمد الآن يحمل بندقيته التي لم تفارق كتفه خلال الحملة، يقف على مدخل الملجأ الجماعي الذي يؤوي زوجته وبناته. ويقع مركز الشيخ بسام دفضع في الشارع نفسه الذي يضمّ الملجأ، والذي بات ينتشر فيه مريدوه والذين «أرادوه» مؤخراً مكرهين. يحاول محمد أن يجد له مكاناً بحيث يبقى عند مدخل الملجأ دون أن يعرقل طريقه طابور الناس الذين توافدوا إلى المكان «ليختاروا مصيرهم»، الطابور الذي يبدأ من وسط الشارع حيث مركز الشيخ بسام، ولا ينتهي عند باب الملجأ.
كان طابوراً واحداً، يضم أولئك الذين يريدون المصالحة والبقاء، وأولئك الذين يرفضون المصالحة ويختارون التهجير. يجد محمد نفسه يزاحمهم في الطابور، يتقدم بخطوات بطيئة نحو بدايته، حيث مركز الشيخ بسام الذي يضم مكتبين وخيارين مفروضين لا ثالث لهما. وفي أثناء تقدّمه البطيء وخطواته الثقيلة، كان يستحضر كل ما يمكن لعقله استحضاره من احتمالات وأفكار وذكريات، علّ ذلك يعينه على اختيار المكتب الذي سيقف عند بابه في نهاية الطابور، الباب الذي سيحدد مصيره ومصير عائلته.
في مطلع عام 2011، كان محمد شاباً متزوجاً حديثاً ومقبلاً على الحياة، منكباً على العمل في مهنة صناعة الزجاج التي كانت تقدّم له دخلاً معقولاً. وهو لم يجد وقتها في الحراك الذي بدأ في آذار ما يثيره أو يحفز لديه الرغبة في تغيير واقعه الذي كان راضياً عنه. تستمر الثورة أشهراً دون أن يُلقي لها بالاً، تزداد وتيرة القمع والعنف تجاه المنخرطين في الثورة، وتبدأ الحملات الأمنية الواسعة على المنطقة، ومع نهاية العام الأول للثورة تبدأ الأعمال التجارية بالتوقف في المحال والمصانع والورش، ويبدأ التضييق على المنطقة والحصار الجزئي.
تتحرك الحمية المناطقية لدى محمد، فهو يشاهد أبناء منطقته يصابون ويُقتلون ويُعتقلون، فيبدأ بالمساعدة بشكل سري وخجول، يعمل على إسعاف المصابين بسيارته الصغيرة التي كان قد اشتراها منذ مدة قليلة. ومع اشتداد القصف والعنف واطباق الحصار، يستمر محمد بهذا العمل مع نقطة طبية، يقدم خدماته في الإسعاف ونقل المرضى، ويساعده ذلك على تأمين بعض حاجاته الأساسية.
هي النقطة الطبية نفسها التي أسعف إليها من استطاع إسعافهم من ضحايا مجزرة الكيماوي الكبرى في آب (أغسطس) 2013. كان بطلاً حينها، إذ لم ينم لأكثر من أربع وعشرين ساعة وهو يستمر بنقل المصابين والشهداء طوال يوم الفاجعة، كما أن آثار الغاز الخانق كانت قد طالته، ولم يبرأ منها إلا بعد أسبوع من ملازمة الفراش.
ينتهي أخيراً عمله في مجال الإسعاف، وذلك باختفاء سيارته تحت ركام بناء تهدّمَ بفعل طائرة حربية لقوات النظام، ليلتحق بعدها بإحدى الكتائب المسلحة المحلية، مدفوعاً بحميته المناطقية المتزايدة، وحاجته لأي وارد مادي يعيله وأسرته.
تمر الأيام والأشهر وهو يعيش متنقلاً بين جبهات مختلفة، مرابطاً على حدود بلدته والبلدات المجاورة، مشاركاً في معارك ضد قوات النظام السوري، منخرطاً في الحراك المسلح في كل جوانبه، متماهياً مع ذاك الواقع الذي فُرض عليه بشكل أو بآخر. ثم تظهر خلافات فكرية وعقدية وتحزبات بين الكتائب والتشكيلات المسلحة المحلية، لكنها لا تهمه في شيء إلا أن يكون مع الفئة التي تُشبع لديه غريزة الانتماء للبلدة ومجتمعها، وغريزة البقاء على قيد الحياة، فينتقل بين عدة تشكيلات موازناً بين حاجة التكتل مع أبناء البلدة، وحاجته المادية لكفاية عياله.
تعرّض محمد لإصابيتن، الأولى أثناء معركة مع النظام، والثانية أثناء التصدي لفصيل محلي حاول اقتحام بلدته. لكن الإصابتين لم تبعدانه عن حياة السلاح والقتال التي ألفها، وأصبحت له مهنة في وقت ومكان عزّ فيهما إيجاد مهنة تعين على الحياة. وإلى جانب ما كان يعطيه الفصيل من راتب شحيح غير منتظم ووجبة غذاء يومية يحملها لأسرته، كانت مكانته العسكرية في المجتمع تتيح له اقتناص بعض الفرص، إما على شكل حطب للتدفئة من الشجر على خطوط الجبهات، أو أثاث وأدوات منزلية وبلاستيك (نفط الغوطة، المادة الأولية لتقطير الوقود) من بيوت جبهات المدن، أو أي شيء قد يحتاجه من أي مكان يستطيع الوصول إليه.
في سلوكه ذاك، كان محمد يراعي مستوى تأنيب الضمير الذي يشعر به ويحاول أن يتحايل عليه، إذ ربما كانت تلك سرقة، لكن اسمها في هذا الحصار «تعشيب»، المصطلح الألطف والأخف وقعاً على النفس، الذي ربما يكون قد اخترعه الواعظ الديني المتعاقد مع الفصيل المسلح برتبة شرعي، والذي كان يمرّ قليلاً على مقرات المقاتلين ليعظهم ويوجههم إلى خير العمل، فيسمعون منه دوماً القاعدة الشرعية الأجمل وقعاً على مسامعهم: «الضرورات تبيح المحظورات»، التي هي أيضاً القاعدة الشرعية الأنسب لبقاء واستمرار عمل الفصائل في المنطقة.
وقد استمرّت تلك الفصائل بالفعل، على الرغم من تناقص حاضنتها الشعبية بشكل مستمر جرّاء تجاوزاتها واعتداءاتها المتكررة وصراعاتها. استمرت بالاستفادة من مجمل الظروف الكارثية الناجمة عن الحصار في الغوطة، التي كانت تدفع كثيرين للبحث عن وسائل لمواصلة حياتهم، بما فيها الانضواء في فصائل مقاتلة. وعند الوصول إلى مرحلة الحملة الأعنف على الغوطة، لم يكن مقاتلوا الفصائل كما كانوا عليه قبل أعوام، إذ بات معظمهم أحجاراً تتحرك مدفوعة بالحاجة لا الاعتقاد، محكومةٌ باليأس والإحباط، مسلوبة القرار والرأي، همها الخلاص من واقعها.
مع استمرار القصف وتقدم النظام إلى كفربطنا، بدأت الفصائل (ومعها عدد كبير من المدنيين) بالانسحاب إلى المناطق الأخيرة في الجهة الغربية من الغوطة، تاركةً خلفها كثيراً من عناصرها، منهم من كان قد حسم قراره وآثر البقاء في مناطق سيطرة النظام، ومنهم من كان يصارع النفس والوقت ليحسم موقفه، خاصةً مع عدم وضوح مصير آخر مناطق المعارضة، أهي الإبادة أم التهجير! وبعد إتمام النظام سيطرته على كفربطنا وإعلان اتفاق التهجير وتوقف العمليات العسكرية، استطاع كثيرون ممن كانوا قد ظلّوا فيها الخروج عبر طرق أشبه بطرق التهريب، والوصول إلى مناطق خروج باصات التهجير للمغادرة نحو الشمال.
من خلال ما عايشتُهُ بشكل مباشر مع محمد في تلك الأيام، وما كان يُسرّه لي من وقت إلى آخر، أستطيعُ القول اليوم إن المفاضلة بين الخيارين عند محمد كانت تنحو منحاً فلسفياً، مشابهاً للمثال الذي ساقه جان بول سارتر عن تلميذه الفرنسي، الذي كان عليه أن يختار بين موقفين أخلاقيين، فإما أن يلتحق بالقوات الفرنسية الحرة في إنكلترا بدافع الانتقام لمقتل أخيه على يد الألمان، أو أن يبقى إلى جوار أمه كي يعينها على الحياة.
ما هي المنظومة الأخلاقية التي قد تساعد محمد على اختيار سلوكه؟ هل هو الدين؟ أي دين؟ وفق أي مذهب أو تفسير أو تيار؟ ذلك أن أي خيار يختاره المرء في ظروف كتلك، يمكن أن يكون مباحاً على واحد من المشارب على الأقل. وفضلاً عن ذلك، فإن الخطاب الديني بتنويعاته السائدة كان قد فقد بريقه وتأثيره على الشباب، إذ وقف كثير من المشايخ إلى جانب النظام، فيما وصل الخلاف بين المشايخ وقادة الفكر الديني المناهضين للنظام إلى حد التناحر والتحريض على سفك الدماء.
كذلك لم يكن هناك حضور لمنظومات أخلاقية أخرى يمكن التعويل عليها في الوصول إلى خيار، فلا فلسفة ولا إيديولوجيا يمكن أن تكون دليلاً للشاب ذي التعليم البسيط، ولا قيم أخلاقية مجردة يمكن أن تكون واضحة بحيث تساعد على اختيار قرار مصيري كذاك، بحيث لم يبقَ سوى مزيج من الغرائز والعواطف، ليرشد صاحبه إلى قراره.
أهمل محمد كل القيم التي كانت تتصارع في داخله وترك عاطفته تدله على خياره، فهو يحب أسرته وأمه، وأيضاً بلدته وأهلها المتعصب لهما، فاختار ما تمليه عليه عاطفته، مستنداً إلى ضمانات عديدة بعدم التعرض له ولأقرانه من شيخ المصالحة بسام دفضع، وفاعلين آخرين. قرر محمد البقاء في الغوطة تحت حكم النظام السوري، راعياً أسرته وأمه الكبيرة بالسن، رغم أن هذا الخيار قد يعني الاصطفاف مع النظام والقتال إلى جانبه!
محمد أبو أحمد هو اسم مستعارٌ لمقاتل من أبناء الغوطة الشرقية، تم سوقه إلى الخدمة الاحتياطية في جيش النظام السوري بعد ثمانية أشهر على سقوط الغوطة وإجرائه مصالحة مع النظام، وربما سيتم نقله إلى جبهات إدلب والشمال السوري، حيث المناطق التي آوت «أبناء البلد» المهجرين. وهو رغم مصيره القاسي هذا قد يكون محظوظاً، لأن العديد من رفاقه السابقين اعتقلوا بعد توقيعهم المصالحة، المصالحة التي كانت خياراً لم يستطع الدفاع عنه إلا بكلمات مرتبكة مترددة، كانت آخر ما سمعته منه: «لمين بدنا نترك البلد!».