يتيح هذا الكتاب أكثر مما يوحي به عنوانه المتواضع: العنف والنضال، مسارات مناضلين في العالم العربي، إذ أنه يتيح التفكّر في الاستمراريات والانقطاعات التي تعبث بنقاط العلّام الثابتة في الزمان والمكان، وفي العلائق التي تجعل وجود مجتمع أمراً ممكناً. فنظام العنف الذي يحلله الباحثون يحكم على الأفراد، وعلى الأجيال المتعاقبة، وعلى علاقات الانتماء والبنوة، وعلى دوائر الانخراط الاجتماعي، أو حتى على المنظمات -سواء كانت سياسية، إنسانية، نقابية أو مهنية-؛ يحكم على كلّ ما سبق بإعادة اختراع النفس  باستمرار، وبالتموضع  في فجٍ صعب، وبأن يثقلوا بالمعاني والدلالات زمناً مُمثّلاً به وينبغي السيطرة عليه في حيزٍ يتضايق أكثر فأكثر. الحاضرية Présentisme التي يفرضها هذا النظام مختلفةٌ تمام الاختلاف عن الزمن الذي يحلله فرانسوا هارتوغ في مؤلفه: نظام التاريخانية. الحاضرية وتجارب الوقت(2003)، فضمن الوقت المختزل إلى اللحظة نفسها ينبغي على الفرد إنتاج علاقات اجتماعية، وقراءة ماضيه الموسوم بالوحشية. وينبغي عليه في الوقت ذاته أن يستشرف نفسه في المستقبل دون الاتكال على استمرارية ثوابت اللحظة الراهنة.

قطعاً، ليس العنف حاضراً دون انقطاع في الزمن والفضاء اللذين يغطيهما هذا العمل، لكن الأنظمة الأمنية أو الحربية  -وكما تُظهر القراءة التي يقدمها ليو فورن لسير حياة نشطاء سوريين ممن لم يكن المنفى خياراً بالنسبة لهم، بل الاحتمال الوحيد الممكن للهروب من الموت- تبلغ، بمعدلات متقاربة، مستويات شديدة الفجاجة. حينها لا تعود تُشكِّلُ مجرد خلفية للحياة بل تغدو نظاماً، تحكم الزمن وتذهب بالذواكر التي تُشظيها، الذواكر الجيلية والعائلية والجماعاتية، المدينية منها أو الريفية. تحدّ  تلك الأنظمة الزمكان، تجمّده وتعسكره؛ وتفرض الانزواء والتقوقع بحيث تُختزل الحركة بشكل حاد. كذلك تحوّلُ تلك الأنظمة المعارضة السلمية منها أو المسلحة، الشرعية أو المتوارية، إلى الوسيلة الوحيدة لاستعادة الزمان والمكان. إن العنف الذي تريد الدول أن تتحصن منه بتعبئتها لقوى عسكرية وقمعية مهيبة، مُقيمةً الحواجز والجدران والمخيمات والسجون هو، قبل كل شيء، نتاج علاقات الهيمنة التي تفرضها الأنظمة. «الدولة» السورية، التي يعترف بها القانون الدولي كفاعل ذي سيادة مسؤول عن تأمين فضائه واستعادة السلام ضمنه، لا تختلف في شيء عن البهيمة «البهموت»، وإن كانت تشرف على مجتمعها فليس لحمايته كما يفعل ليفياثان، ولكن لتتمكن من تدميره أحسنَ تَمكُّن. في لبنان، تتقاسم بقايا الدولة سيادتها «الويستفالية» مع قوى ميليشياويّة أخرى. وأخيراً، في إسرائيل، حيث ترتكز الدولة إلى جهاز مهيمن وصلب، فتعمل كقوة احتلال، مُشرذِمةً بذلك زمان ومكان السكان الذين تسيطر عليهم. 

وكما يقترح العديد من المفكرين، من جان بول سارتر إلى ميشيل دو سرتو، على اختلاف خلفياتهما وتقاليدهما السياسية والفكرية، فإنه لا يمكننا أن نفهم عنف الفاعلين الخاضعين دون أن نأخذ بالحسبان المسببات لمنظومات الهيمنة. إلا أنه من البديهي أن يتطلّب الانتقال إلى المعارضة المسلحة، بدوره، إقامة بنى تراتبية وطرائق جديدة في الهيمنة وإصدار الأوامر، كما يتطلب انضباطاً عسكرياً، ودلالات وتراكيب حربية، ومخيالاً ورمزية معينة تشرعن الأضحيات الطوعية، قبل أن تستثير خيبات تدفع بالفاعلين إما إلى الإيغال في الجذرية أو إلى استراتيجيات تأقلم وتفاوض أو ارتداد. لا يتعلق الأمر هنا بقصة تنتهي بمرحلتين متمايزتين يمكن أن نحددهما ضمن الزمان، ولكن بسيرورتين متراكبتين ومتزامنتين يمكن أن نلحظهما بدءاً من الهزيمة العربية خلال حرب الأيام الستة: كل جيل، تقريباً، يتاح له الوقت ليصبح فاعلاً في موجة تجذر وموجة إزالة تجذر في آن معاً.

لا يمكن مماثلة الفاعلين الذين يتناولهم الكُتّاب هنا مع «الحيوات العارية» التي يتحدث عنها جورجيو آغامبن: إذ رغم وقوعهم  دون أي حماية في سياق حرب مفتوحة، تُشنّ بواسطة تكنولوجيا عالية وقاتلة كما في حربي غزّة وسوريا، إلا أنهم يحاولون التصدي لضغوطات ومقيّدات النظام القمعي عبر بناء أنفسهم كأفراد وأجيال ودوائر نضالية، «كجمهورية آداب» أو كمجتمعات محلية في المنفى. مقابل أن يتحمل «المخيم»، المهدد دوماً بأن يؤول خراباً، عبء وثمن اللايقين، يمكنه أن يتحول إلى فضاء مدني تديره سلطة أمر واقع أو سلطة قانونية. السجن الإسرائيلي الذي يدرسه ستيفان لاتييه عبد الله قد يغدو فضاءً للتنشئة الاجتماعية المكثفة، متيحاً تنظيماً تراتبياً، مجزءاً وقائماً على الإدارة الذاتية في آن معاً. فانطلاقاً من فضاء متقوقع، يمكن للسجن أن يتحول إلى «جامعة»، حيث لا يُكتفى بنقل معارف مؤسسة وحسب، بل يتم إنتاج معارف جديدة تجريبية وتحليلية انطلاقاً من التجارب الذاتية. مع أننا ما زلنا بحاجة لدراسة عن السجناء السياسيين القضائيين، إلا أنه في حالة السجناء السياسيين لدينا تأكيد للفرضية التي صاغها سارتر عام 1939 في اسكيزه لنظرية حول العواطف، والتي مفادها أن الموقف الذي يكون فيه ظهر المرء ملتصقاً بالحائط محاصراً، هو موقف مرافق للمسار التحرري. 

يَنظُمُ جثومُ الضغط الدولتي، أو ضغط الدولة المباشر، مسارَ تسييس وتعبئة أجيال متعاقبة. ولكن مصير مناضلي اليسار في سنوات الستينيات والسبعينيات، أو مناضلي الانتفاضة الأولى بين عامي 1987 و 1991، والذين درستهم فالنتينا نابوليتانو، يُظهر أنه يمكن، مع ذلك، للأجيال السياسية أن تُرهق خلال المعركة، أو أن تختبر فقدان المعنى. ابتعادهم عن الالتزام المباشر، والذي يغير المعطيات السياسية، يندرج ضمن سيرورة معقدة لا يغادر فيها الكثير من أولئك المناضلين القدامى المشهد تماماً. فهم يكتسبون مكانة أعيان نضالية، بحكم الخبرة، ولكن أيضاً نتيجة الهزيمة. وبحكم تزودهم برأسمال ثقافي، فإنهم ينخرطون في موجة ثانية من الالتزام في الحقول الثقافية أو الإنسانية. وبحكم مشاركتهم كـ «حاملي وعي» في الاحتجاجات الثورية عام 2011، فقد برزوا كـ «مهزومين فاعلين» دون أن يكون لهم تأثير كبير على الأجيال الشابة من المناضلين. وتثبت تجربة الانتفاضتين أن كل تحرك وتعبئة واسعين يتبعهما تراجع نسبي في التعبئة والتحرك، والذي يمكن أن نفسّره بتمايز بين الأجيال. ورغم أن الفوارق بين هذه الأجيال لا تتجاوز بضعة سنوات، إلا أنها تتموضع ككهول وشبان على الرقعة السياسية. ولأسباب مفهومة، يتجنب الشبان الانخراط في أعمال عنيفة خلال فترات الانتظار أو الصمت، ويتجهون نحو خيارات الروتين والتسويات وتأجيل إسباغ الدلالات على حياتهم.

إلى أي حدّ ووفق أي طرائق يتم تناقل التجارب والمعارف المنتجة في سياق تاريخي معيّن؟ سواء في مخيم أو سجن أو ضمن كفاح مسلح أو حتى في المنفى؟ يمكن أن نرى، بعيداً عن الفروقات وحتى الانقطاعات الجيلية، أن هناك «سردية مؤطرة»، بدئية حتماً، إلا أنها تسمح لكل جيل أن يندرج ضمن انتماء مزدوج: وطني و«تنظيمي»، وذلك لاتخاذ موقع على الرقعة التاريخية. يبدو هذا جلياً في الحالة الفلسطينية، حيث تشكّل النكبة أو النكسة لحظات إعادة تأسيس انطلاقاً من الهزيمة، و«المحفل الوطني»، والمخيالُ حول الأقصى كتكثيف جغرافي وسياسي لسلب الملكيات، ومجازُ مفتاح البيت المهجور، تُشكّل كلها رموزاً موحدّة. كذلك فإن «الصدمة الأخلاقية» التي تذكُرُها بينيلوب لازيليير منطلقة من مفهوم اقترحه جيمس ياسبيرس، تبقى فاعلة من زمن تاريخي إلى آخر، نتيجة مخيال مشترك وبعفوية تامة، تبقى فاعلة كدافع للانتقال إلى المعارضة والاحتجاج، واصلةً بذلك الأجيال فيما بينها. يظهر بُعد «الصدمة الأخلاقية» أو اللاعدل واضحاً كذلك في نص إيرمينا كيارا كالابريس، الذي يتطرق إلى المسارات النضالية ضمن حزب الله اللبناني: فلم يترافق الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982 بوحشية كبيرة وحسب، ولكنه أكّد وثبّت التأويل الإيديولوجي الذي كان الفاعلون يعطونه للحرب الأهلية، في حين أن هذا الصراع الذي بدأ عام 1975 اكتسب قبل ذلك بعداً ميلشيوياً بيطوائفيّ. في الحالتين، تأتي التجربة المباشرة التي يشهد فيها المرء على اللاعدل لتحمل الدليل على مصداقية السردية الوطنية الشاملة. تتشكل بذلك ذاتيات خاصة ومتراكمة في آن، تبرر الكفاح عبر الزمن وتجدده في الـ«آن وهنا» لكُلَّ جيل من الأجيال. تدخل الخلافات البيفلسطينية أو البيشيعية أيضاً في تشكيل الذاتيات وفي إنتاج تراكيب ودلالات سياسية، وهي خلافات حاملة لاحتمالات العنف القاتل. تلك التراكيب والدلالات تلحّ على مفاهيم مثل التنازل أو الخيانة، إلا أنها، أي تلك الدلالات، هي في أصل انتماءات ثانية تسمح بالارتباط بتقليد نضالي أو بحزب سياسي.

يُعنى المؤَلَّف الذي أصدرته كالابريز ونابوليتانو بالفضاء الفلسطيني السوري اللبناني، وهو فضاء متصل ومُجزّأ في آن معاً. حيث تعتمل ديناميات ذات طبيعة مختلفة. فمنذ نشوء فلسطين الانتدابية إلى حرب الأيام الستة، أصبحت المسألة الفلسطينية مسألة وطنية، ولكنها اكتسبت أيضاً بعداً فوق ترابي جرّاء تشكل المخيمات. ويمكن تفسير الانقسامات الفلسطينية بالتاريخ الخاص الموصوم بانقطاعات حادة، مثل هزيمتي 1948 و1967 والاجتياح الإسرائيلي للبنان وحرب المخيمات والانتفاضتين؛ أو، فيما هو أقرب إلينا، تدميرُ مخيم اليرموك في سوريا. بالمقابل فالمعطى الطائفي المسيحي أو العلوي أو الشيعي أو السنّي يؤثر بشكل كبير على علاقات القوة في لبنان، كما على حالة العنف التي نلحظها في سوريا منذ منعطف 2011 ،والتي تُعبِّئُ فاعلين مسلمين آخرين، خاصةً إيران أو السعودية أو تركيا، في سياق تطييف واسع. تجد المأساة الفلسطينية نفسها رهينة صراعات خارجية،  تحرمها من جزء أساسي من قواها الحيّة، كما أظهرت الحرب الأهلية اللبنانية، وكما يُظهر الصراع السوري في أيامنا هذه.