لا شيء ثابت، والممكن هو عنوان المرحلة. فالمتغيرات التي طرأت على مختلف ملفات المنطقة نسفت معظم الثوابت، وأرجعتها إلى أصل واحد هو المصالح، سواء تعارضت مع الحلفاء أو اتفقت مع الأنداد، فهل سيدفع الفراغ الذي خلقه الانسحاب الأمريكي المفاجئ من شرق الفرات، موسكو وأنقرة إلى التنافس أو الصدام مجدداً، وما هو مصير اتفاق سوتشي حول إدلب في مثل هذه الأوضاع الجديدة؟
شكّل الاتفاق الذي تم بين تركيا وروسيا في 17 أيلول 2018 لإقامة منطقة منزوعة السلاح الثقيل في محيط إدلب والأرياف المحيطة بها بداية مرحلة جديدة من التعاطي السياسي بين البلدين، ترتبط بها قضايا ذات بعد قومي لدى تركيا، تتعلق بمسألة شراء منظومة الصواريخ الروسية؛ وأخرى روسية تتعلق برغبتها بعدم اعتراض أنقرة على شكل التواجد الإيراني وحجمه في سوريا، والذي تريد موسكو إقناع واشنطن به، مرحلياً على الأقل.
وأمام هذا الاتفاق، الذي جرى تطبيقه في 15 تشرين الأول، والقاضي بسحب السلاح الثقيل من المنطقة المحددة بعرض يتراوح بين 15-20 كلم على طول خط التماس بين النظام والمعارضة، وإخلائها من الفصائل الجهادية، بقيت عدة نقاط شائكة ومبهمة، أهمها مصير الطرق الرئيسية في المنطقة (طريق M5 الذي يربط بين محافظتي حلب وحماة؛ وطريق M4 الذي يربط بين محافظتي حلب واللاذقية) حيث زادت وتيرة التصريحات الروسية الممتعضة من الوضع في إدلب بعد فتح معبر نصيب الحدودي بين سوريا والأردن في نهاية شهر تشرين الأول.
وكان واضحاً أن روسيا تريد تعديلاً في مضمون الاتفاق مع تركيا، أو أن هناك بالفعل بنوداً لم تُطبق ولم يكشف عنها أصلاً بين الطرفين. ثم جاءت إشارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنظيره التركي رجب طيب أردوغان خلال لقائهما في اجتماعات مجموعة العشرين، في الأول من كانون الأول 2018، في مدينة بوينس آيرس الأرجنتينية، حول ضرورة اتخاذ إجراءات أكثر نشاطاً لتطبيق الاتفاق حول إدلب، ورد عليه الأخير مقترحاً عقد قمة جديدة بين الطرفين لمناقشة وضع إدلب. تؤكد هذه التحركات أن الاتفاق غير ثابت، واحتمالية التغيير واردة، خاصةً بعد قرار الرئيس الأمريكي الانسحاب من سوريا.
تُبنى الفرضية هنا على أساس المضي في تطبيق القرار الأمريكي بالانسحاب، والذي سيترك فراغاً لن تقدر باقي دول التحالف على ملئه، لسببين رئيسيين، يتعلق الأول منهما، بعدم مقدرتها على إدارة الصراع بين تركيا و قوات سوريا الديموقراطية (قسد)؛ فيما يرتبط الثاني بعجز دول التحالف على حسم المعركة عسكرياً وأمنياً مع تنظيم داعش. لذلك، فإن لكل من تركيا وروسيا حظوظ وافرة للسيطرة على المنطقة، فتركيا ترغب بإكمال السيطرة على الشريط الحدودي وصولاً إلى المثلث التركي السوري العراقي، بعمق مريح يصل إلى البلدات العربية في محافظتي الحسكة والرقة، أي أن الحديث عن عرض الشريط لا يتعلق بجغرافية المنطقة أو مدى وصول المقذوفات الصاروخية، بل بالسيطرة على بلدات المنطقة ذات الأغلبية الكردية، وبالتالي تخلّص أنقرة من خطر حزب الاتحاد الديموقراطي وحزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية. وهناك أيضاً استفادة ثانوية تتعلق بضبط شمال حلب فيما يعرف بمنطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، حيث ستُنقل فصائل المعارضة التي تعود أصولها من المحافظات الشرقية وتسند إليهم حماية المنطقة الجديدة.
أمّا روسيا، فترى في منطقة شرق الفرات، وتحديداً الريف الشمالي والشرقي من محافظة دير الزور المتصل بجنوب محافظة الحسكة، مكسباً سياسياً يزيد من أوراق التفاوض مع أنقرة، وآخر اقتصادي معني بالسيطرة على منابع النفط والغاز، فهي لم تخفِ في وقت سابق رغبتها بالوصول إلى معمل غاز كونيكو، أكبر معامل الغاز في سوريا. وتستفيد موسكو في إمكانية التفاوض مع قوات سوريا الديمقراطية لتسليم هذه المنطقة دون عناء عسكري كبير، ودون اعتراضات عدا تلك التي يمكن أن تصدر من المجموعات العربية داخل قسد، والتي لن تقوى على المقاومة كثيراً في ظل الظروف والإمكانيات الحالية. لذلك، يمكن قول أن مساحة التفاوض بين أنقرة وموسكو قد باتت متداخلة بشكل أوسع ممّا كانت عليه سابقاً، الأمر الذي سيعني إدخال ملف إدلب مجدداً ضمن المساومات بين أنقرة وموسكو، فأين مواضع الإشكاليات بين الطرفين إذاً؟
ستسعى موسكو للحصول على موافقة واشنطن لتبسط سيطرتها على منطقة شرق الفرات، وإذا ما أقنعت روسيا الإدارة الأمريكية بقدرتها على منع الميليشيات الإيرانية إلى شرق الفرات، وقدرتها على محاربة تنظيم داعش، فإن ذلك قد يعني تسلمها المنطقة بعد الخروج النهائي لواشنطن من شرق سوريا.
في المقابل، فإن تحقق مثل هذا السيناريو سيعني على أرض الواقع دخول الميليشيات الإيرانية إلى شرق الفرات، ما يعني أن تركيا ستواجه إشكالية حقيقية تجاه فكرة التقاء مليشيات إيران مع حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديموقراطي في نفس المساحة الجغرافية، وعلى أهداف متقاربة في أحد أطوارها (مواجهة النفوذ التركي)، ولا يمكن إهمال معلومة أن هناك تيار وازن لدى حزب العمال الكردستاني، المظلة الرئيسية لحزب الإتحاد الديمقراطي، موالٍ لإيران ولديه نفوذ واسع في أجنحة الحزب ودائرة صنع القرار.
لذلك، فإن وقوع هذا السيناريو سوف يضع تركيا في مأزقٍ كبير، وينقل الصراع مع حزب العمال الكردستاني الى مستوى آخر، وعلى الرغم من أن الظروف الحالية لا تسمح لطهران بالانخراط في مثل هذه المواجه، لحاجتها القوية للتعاون التركي في مواجهة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها مجدداً الولايات المتحدة، إلا أن مجرد وجود احتمال خلق تحالف بعيد المدى في سوريا بين إيران وحزب العمال سيعني وفق فهم حكومة العدالة والتنمية للأمن القومي التركي خطراً كبيراً.
بالنتيجة، فإن هذه المخاوف تولد حاجةً لتفاهم روسي تركي، غير بعيد عن أعين واشنطن، فإذا لم تقتنع أنقرة بضمانات موسكو بعدم عبور مليشيات إيران إلى الضفة الشرقية، فإن المشاغبة الروسية سوف تتحول إلى ضغطٍ -سيكون الأكبر على تركيا- لتغيير اتفاق إدلب، وربما ستكون روسيا من يدفع بمليشيات إيران لاقتحام المنطقة.
لن تنتهي هذه الإرهاصات إلا بتغير خارطة السيطرة في إدلب والارياف المحيطة بها، وسيكون فتح الطرقات المنشودة هدفاً شبه محقق. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن خسارة تركيا من فتح الطرقات لن تكون كبيرة، فالفوائد التي ستجنيها من تشغيل اوتوستراد حلب – حماة (وهو جزء من الطريق الدولي الذي يصل تركيا بالأردن) ستكون كبيرة جداً، فالبضائع والمنتجات التركية ستعاود غزو منطقة الخليج العربي من هذا الطريق. ومع هذا السيناريو فسيكون لزاماً إيجاد حل للفصائل الجهادية، وتحديداً هيئة تحرير الشام وتنظيم حراس الدين. يفيد إدراك ثقل الفصيلين في المنطقة لتوقّع الكلفة العالية لعملية إنهائهما، والفوضى الداخلية الناتجة عن ذلك في المنطقة، والتي سيتأثر بها المحيط أيضاً.
أمّا إذا ما توصلت أنقرة وموسكو لتفاهم معين حول منطقة شرق الفرات، فإن شبح العمل العسكري في محيط إدلب سيكون قد زال مرحلياً، وإن تخلله في فترات معينة مطالبات بفتح الطرق الرئيسية وضمان تركي جديد بإنهاء التنظيمات الجهادية، وأعتقد إن الزيارة المرتقبة للوفد التركي -والذي سيضم كلاً من وزيري الخارجية والدفاع ورئيس جهاز الاستخبارات ومتحدث الرئاسة- إلى موسكو في يوم السبت 29 كانون الأول ستحدد ملامح التفاهم بين البلدين، والتي سيعلن عنها بعد القمة المشتركة لرئيسي البلدين في وقتٍ لاحق، كما أعتقد أن زيارة جون بولتن، مستشار الأمن القومي الأميركي، إلى تركيا مطلع العام القادم ستبلور شكل الخارطة المقبلة لشمال وشرق سوريا بشكل أكثر وضوحاً.
ستتأثر إدلب بأي شكل ممكن من أشكال التفاهم الدولي حول منطقة شرق الفرات. في الوقت الذي لا يتمسّك أي طرف فيه بالوضع الحالي، ولا يحمل في المقابلة رغبة حقيقية بتغيير الأوضاع، تفرض التفاهمات الكبرى أن تكون إدلب ورقة مساومة جزئية فيها.