أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليل أمس الخميس أن وزير الدفاع جيمس ماتيس سيتقاعد نهاية شهر شباط القادم، وذلك عبر تغريدة على موقع توتير. وعلى الرغم من هذا الخبر الصادم، فإن تغريدته الأشهر الآن، هي تلك التي لمح فيها عن نية بلاده الانسحاب من المنطقة التي باتت تعرف بشرق الفرات في سوريا، الأمر الذي أحدث صدمة دولية، وبلبلة حَسَمها البيت الأبيض في بيان رسمي، أعلن فيه نية الولايات المتحدة سحب قواتها فعلاً من شرق الفرات.

منذ نشر الرئيس الأميركي تغريدته الشهيرة، ليل أول أمس الأربعاء، نقلت الصحف ووسائل الإعلام الأميركية والدولية عدة تقارير، أكدت خبر الانسحاب، حيث نقلت وول ستريت جورنال تصريحاً لمسؤول عسكري أميركي، أكد التباحث في مثل هذا القرار. وقد أكدت عدة وسائل إعلام الخبر، منها قناة سي إن إن. وبعد أقل من ساعة، نشرت وكالة رويترز تصريحاً لمسؤول في البنتاغون، أعلن فيه نية الولايات المتحدة سحب جنودها وموظفيها بشكل سريع من منطقة سوريا، خلال جدول زمني يبلغ أربع وعشرين ساعة للموظفين المدنيين، ومدة لا تتجاوز الشهرين بالنسبة للجنود.

لاحقاً، أعلن البيت الأبيض أيضاً عبر بيان نشرته المتحدثة باسمه سارة ساندرز، أنّ الولايات المتحدة تنوي سحب جنودها من سوريا.

أعاد هذا الإعلان رسمَ توازنات الإقليم المحيط بسوريا من جديد، إذ سيترتّب على مثل هذا الإجراء نتائج أضخم بكثير من حجم القوات الموجودة هناك، والتي لا تتجاوز أربعة آلاف جندي أميركي. فقد ساهم هذا الوجود طوال الفترة الماضية بتثبيت الأوضاع شرقي الفرات وفي عموم سوريا، من خلال الضغط الأميركي على الدول صاحبة النفوذ في الملف السوري.

وقد أشارت تقارير صحفية إلى أن ترامب اتخذ القرار المفاجئ هذا بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي أردوغان، وهو الأمر الذي عاد ونفاه مسؤول أمريكي حسبما نقلت رويترز عن مسؤول أميركي.

وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية كانت تستطيع سحب مفاعيل هذا القرار المتعجل، إلا أن الرئيس الأميركي أصرّ، كما يبدو، على تنفيذ قرار انسحابه بشكل كامل، بما يشمل الغطاء الجوي الذي أمنته القوات الأميركية في منطقة شرق الفرات خلال العمليات ضد تنظيم داعش.

من جهتها، أعلنت فرنسا، شريكة الولايات المتحدة في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، والتي تمتلك أيضاً قوات عسكرية متواجدة على الأرض في منطقة شرق الفرات، استمرار وجودها في المنطقة وتقديمها الغطاء لـ«قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، واعتبرت وزيرة الدفاع الفرنسية قرار ترامب فادحاً، وقالت إن تنظيم داعش لم يُهزم تماماً، هذا بينما يُجري اليوم الرئيسان المشتركان لـ «مجلس سوريا الديموقراطية» لقاءات مع المسؤولين الفرنسيين في قصر الإليزيه.

وقد اعتبرت قيادة قسد إعلان الولايات المتحدة سحب قواتها من سوريا «طعنة في الظهر»، فيما رحبت كل من أنقرة وموسكو بالقرار، وقد صرح الرئيس الروسي أمس خلال مؤتمره الصحفي السنوي، أنه يوافق الرئيس الأميركي بأن تنظيم داعش قد هزم، معتبراً قرار ترامب «صائباً».

على الأرض، كانت أولى التحركات الأميركية في مدينة منبج، التي انسحبت منها خلال ساعات من إعلان البيت الأبيض.

ويأتي الإعلان الأميركي بعد أيام من إعلان الرئيس التركي قرب بدء عمليات عسكرية ضد قسد في منطقة شرق الفرات، الأمر الذي بادرت واشنطن برفضه عبر المتحدثين الرسميين والمسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع، إلا أن المحادثات بين أنقرة وواشنطن قد انتهت -على ما يبدو- بموافقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إفساح المجال أمام تركيا للقيام بعمليات العسكرية شمال شرق سوريا، وقد نشرت عدة وسائل إعلام تركية أمس أن العمليات ستمتد على طول الشريط الحدودي من جرابلس حتى مثلث عين ديوار، وبعمق يصل إلى خمس وعشرين كيلومتر، الأمر الذي يعني أن هذه العمليات قد تشمل مدن القامشلي والحسكة، وليس فقط الشريط الحدودي من تل أبيض حتى كوباني.

ستفرز الاتجاهات التي بدأت تأخذها الأحداث شمال شرق سوريا عدداً كبيراً من المتغيرات والتحولات، إذ أن عملية عسكرية، واسعة كانت أم محدودة، قد تقود إلى تفكك وإنهاء قسد، إلا أن القوات التركية لن تقوم بتغطية كامل المساحة في المنطقة المتعارف على تسميتها بشرق الفرات، وهي منطقة تمتد على محافظات الرقة والحسكة ودير الزور وأجزاء من ريف حلب الشرقي، فيما سيكون من غير المرجح استمرار مفاعيل الاتفاق بين واشنطن وموسكو حول ترسيم الحدود بين قواتهما على الخط الذي يرسمه نهر الفرات، الأمر الذي سيعني عبور القوات الروسية وبرفقتها الميليشيات التابعة لإيران إلى شمال النهر، خاصة في محافظة دير الزور، معمقةً سيطرتها على الحدود مع العراق.

من جهة أخرى، فإن حديث الرئيس الأميركي عن نهاية تنظيم داعش غير دقيق، وقد يشكل الانسحاب الأمريكي وإيقاف القصف الجوي فرصة للتنظيم من جديد ليعيد رص صفوفه ويشنّ عمليات واسعة شرق سوريا، خاصةً وأن موسكو غير معنية اليوم بمحاربته.

وعلى الرغم من الإصرار الفرنسي على البقاء شرق سوريا، فإن باريس لن تستطيع تعويض الغياب العسكري والسياسي الأميركي عن المنطقة.

وقد تكون النتائج السياسية للانسحاب الأميركي أوسع من ذلك، فمثل هذا القرار المفاجئ قد يعطي موسكو ونظام الأسد الفرصة للتملص من تعهداتهما حول اللجنة الدستورية، مما يقود إلى تدمير العملية السياسية في سوريا وتراجع الأوضاع إلى ما قبل نقطة الصفر.

لكن التأثير الأكبر لمثل هذا القرار هو تراجعُ مصداقية واشنطن دولياً أمام حلفائها. كبير مراسلي سي إن إن لشؤون الأمن القومي نشر على تويتر ما قال إنه نص جملة قالها وزير الدفاع ماتيس لترامب خلال اجتماعهم الأخير «لا يمكننا حماية مصالحنا (…) بفعالية دون الحفاظ على تحالفات متينة وإظهار الاحترام لهؤلاء الحلفاء». وفي الوقت ذاته، نشرت وكالة رويترز أجزاء من نص خطاب استقالة وزير الدفاع الأمريكي نتيجة «عدم اكتراث أمريكا بأقرب حلفائها».

ربما لم يجرؤ رئيس أميركي واحد على اتخاذ هذا الكمّ من القرارات خلال أسبوع واحد، إذ صرح مسؤولون أميركيون عن نية ترامب سحب نصف قواته من أفغانستان، وهو قرار سيؤدي لتأثيرات ضخمة في الساحة الدولية بدوره، تأثيراتٌ لن تقتصر على الفراغ الذي ستتركه القوات الأميركية، لكنها تنسحب على التوازنات الدولية والإقليمية في المنطقة، ما يطيح بكل الجهود السابقة التي بذلتها واشنطن للوصول إلى أهدافها الثلاثة التي أعلنت عنها مراراً في سوريا، وهي تدمير تنظيم داعش؛ وصدّ إيران؛ وتفعيل العملية السياسية في سوريا.

أما بالنسبة للجنود الأميركيين والموظفين العائدين إلى واشنطن في عطلة العيد، فإنهم لن يستطيعوا على الأغلب صرف مرتباتهم، بعد أن علَّقَ ترامب توقيعه على قرار الكونغرس الخاص بتمويل الحكومة الفدرالية حتى شهر شباط، في سعيٍ منه للضغط على الكونغرس في قضية الجدار الحدودي.