حين وجدتُ نفسي ذلك اليوم أركب الباص مع بقية زملائي في العمل، لنتوجه غصباً لحضور مسيرة مؤيدة للنظام، شعرتُ أنني انقسمتُ شطرين غير متناسقين، أحدهما ينتمي إلى الماضي حيث كنتُ يوماً أعيش في حيّ الوعر المحاصر قبل أن يسقط في يد النظام، والآخر ينتمي إلى الحاضر حيث أقفُ بين حشد كبير من أشخاص يهتفون بحياة «الرئيس»، ويحملون أعلاماً يحيّون بها موكب المحافظ، الذي يكون دائماً على رأس «الاحتفالات الوطنية» التي تؤكد الولاء للقائد؛ من أنا؟ وأين أنا؟ كل ما أعلمه أنني ضللتُ الطريق، وأن طريق الباصات الخضراء كان يجب أن يكون طريقي مهما كانت وجهته قاسية وغائمة.

أسأل صديقتي التي تقفز وتهتف بحياة الأب القائد كيف تستطيع ذلك، وهي التي فقدت أباها في غياهب السجون، فتقول إنها تريد أن تعيش، وإنها تعبت الحروب، وإنّ ما حصل يكفي. يتطاير العلم الأحمر عالياً مثل نهر دم لزج يرفرف في الهواء، أكاد أسقطُ وأنا أراقبُ حركات الأعلام التي تتراقص في أيادي المشاركين، أنسحبُ من المسيرة وأعود أدراجي إلى البيت وأنا ألتفتُ وأنظر إلى أنهار الدماء المعلقة في طريقي، مُستذكرة ما جرى خلال شهوري الأولى منذ غادرت الوعر نزولاً نحو حمص البلد.

1

تعثّرَ الرجل الأعمى أكثر من مرة في مشيته رغم عصاه الناحلة أمامه، وعندما كاد يمرُّ أمام سيارة مسرعة، ركضتُ نحوه وشددته من قميصه وقلتُ له: «انتبه، هناك سيارة مسرعة!». رقصَتْ جفونه شبه المطبقة كثيفة الرموش، وظهرت سعادة واضحة على وجهه لأن امرأة تمشي إلى جواره. كان شاباً في بداية الثلاثين، وكنتُ امرأة مرتبكة بكعب عال تمشي بجوار رجل أعمى وتقوده نحو وجهته، التي شرحها بارتباك لأنه لا يعرفها بالضبط، فهو قادم من ضيعة قريبة ومعروفة بأن أهلها ينحدرون من الطائفة الشيعية، وبأنها معقل لحزب الله.

لم يكن للرجل الأعمى أن يعرف أني جئت من مكان كانت حياته لتتعرض للخطر فيه لو أنه وطأه قبل سقوطه بيد النظام، ولم يكن له أن يعلم أيضاً أن منظرنا كان مدعاة للفرجة المجانية، حين تلكأ الرجال القلائل في الطريق عن استلام المهمة المُربكة مني، وتابعوني بعيون خبيثة حين اضطررت في لحظة أن أمسكه من ذراعه لأحميه من دراجة مسرعة. قال لي مبتسماً وناظراً إلى أعلى بأنه ترك زوجته في الضيعة، ولم يسمح لها بالمجيء معه كي تبقى في البيت مع طفليهما. قال أيضاً إن هناك رجلاً سيدعمه إما بوظيفة أو بمساعدة مالية، ثم أخرج ورقة قديمة من جيبه وترجّاني خَجِلاً أن أتصل بالرقم المكتوب.

على الهاتف، بدت اللهجة الفجّة لرجل ردّ عليَّ من الطرف الآخر مثل وخز كئيب في رأسي، كانت تشبه لهجة عناصر حاجز الوعر الذي أذاق قاطنيّ الحي صنوف الذلّ طوال سنوات. ناولتُ هاتفي للرجل الأعمى الذي بدا لي قادماً من عالم آخر، واستمعتُ إليه يتحدث بكل احترام وتبجيل للصوت المقيت الخارج من الهاتف. لم يكن ليخطر في بالي يوماً أن أقود رجلاً أعمى إلى وجهته، في المرة الأولى التي وطأتْ فيها قدماي المدينة بعد غياب دام أكثر من سنتين. كنتُ مقيمة في الوعر منذ سنوات، وبعد مغادرتي إياه مؤخراً، كنتُ مثقلة بكل ما جرى هناك، وكنتُ أشبهَ بذاك الأعمى الذي يمشي دون أن يرى وجهته، لكن دون أن يهرع أحد ما ليدُّلني على الطريق.

2

حصل ذلك منذ سنوات، أهداني مسدساً ملفوفاً بقماشة قديمة، كان ذلك أثناء ما عُرِفَ بحصار الملح عام 2015. شعرتُ لحظتها أني أعيش لقطة من فيلم حزين النهاية. طلب أن أحتفظ به وأُخبّئه، وأعطاني بضع رصاصات. قال إن المسدس يلزم للحماية الشخصية في الوعر، وإنه قد يلزم عند مجيء لص يريد أن يسطو على المعونة أو على بطارية «الليدّات»، أو في حال دخول الجيش للحي بلا سابق إنذار. خبأتُهُ في البداية أسفل سريري، واستمرّ ذلك لأيام وأسابيع، لكني بعد ذلك وضعته على رفّ مغمور، لأني نسيته، ولأنه لم يلزمني يوماً، فالأمان الذي كان موجوداً في الحيّ جعل من المسدس أشبه بقطعة أثاث ثمينة يخبئها المرء بين الثياب في أسفل الخزانة، مثل ما نراه في مشاهد من مسلسل باب الحارة، لكن مع كثير من الصدق والواقعية وقليل من الفانتازيا.

قبيل دخول الجيش إلى الحي بفترة قصيرة كان صاحب المسدس قد مات، أو لعله استشهد، أو لعله رحل عن عالمنا، لم يعد اختيار الكلمة التي تحمل معاني الموت مهماً، ليبقى المسدس مجرد ذكرى ثقيلة وأمانة يجب عليَّ التصرفُ بها بسرعة قبل أن يفوت الأوان، وهذا ما حصل. تم تسليم المسدس لشاب كان يدرس الصيدلة، فَقَدَ جزءاً من بصره، وسيسافر في الباصات الخضراء إلى إدلب، وقد وعدَ بأنه سيحافظ على الأمانة حين سيكمل مسيره في إدلب الخضراء. لكنني علمتُ منذ أسابيع أن الشاب غادر إدلب وأصبح في ألمانيا، وأن الأمانة قد أصبحت في مكان آخر، في جيب آخر، أو ربما ببساطة تحت سرير آخر.

لم يكن المسدس الذي لم أستخدمه يوماً سوى قطعة ثمينة احتفيتُ بها ضمن أشيائي الثمينة الأخرى المرتبطة بالحي، لم يكن وجوده بحوزتي متعلقاً بالأمان يوماً، فالأمان الذي عاشه أهالي حي الوعر ويعرفونه تماماً، باستثناء القذائف والصواريخ والاسطوانات والقناصين، كان مرتبطاً بشيء أثمن وأعزّ بكثير، ذُرِفتْ لأجله أرواح وحيوات. شيءٌ أفتقدهُ ويفتقده كثيرون مثلي كانوا في الحي، وظلّوا فيه أو غادروه بعد سقوطه إلى وسط المدينة، نشعر بفقدانه تحديداً حين نمرّ بجوار حاجز أو بجوار عسكري أو سيارة مُفيّمة أو رجل يستعرض مسدسه، أو حين نسمع صوت جرس الباب في وقت متأخر، أو عند تأخر عودة شخص من أفراد الأسرة، وتفاصيل أخرى كثيرة قد يسخر من يسمعها عن خوفنا منها هنا، لأنهم اعتادوها واستمرؤوها. لأن «الفتنة» انتهت، والأمان عاد إلى البلد، ولأن «الدولة» تريد أن يعيش الناس في أمان، وما عاد من داعٍ للقلق، لأن حمص «تحررت من الإرهاب»، ولو أنها دفعت كثيراً لأجل ذلك، كما يقولون.

3

قام الأهالي بتعليم أطفالهم ما يجب أن يقولوه وما يجب أن يصمتوا عنه قبيل دخول الجيش، يُفاجأ المرء لقدرة الأطفال المذهلة على الكذب، في مقابل قدرتهم على الصدق. ليس عن الكذب النابع من خيال الأطفال هنا، بل عن الكذب النابع من قدرة الأطفال على فهم خوف أهلهم، والتعامل مع الواقع الجديد بسرعة على أساسه. من يستطيع الصمود أمام الأسطوانات وأمام الطيارات وأمام الحصار، سيصمد أمام من كان متحكماً بكل ذلك. كل شيء حدث أمامهم، وكل شيء قِيلَ أمامهم، هم يعرفون ما حدث بالتحديد، يعرفون أنهم انتقلوا من ضفة إلى ضفة، ومن قبضة إلى قبضة، يعرفون معنى كلا القبضتين والحدود المتاحة لكل منهما، ويلتقطون من أفراد أسرهم بيُسر تفاصيل النفاق اللازم للثبات حين يدخل الجيش بيتهم للتفتيش أو الإحصاء، أو حين يمرون على حاجز، أو حتى حين يدخلون المدرسة الحكومية.

الطفل الذي شاهدته يوماً يرسم علم الثورة بألوانه المائية قرب جدار بيته، هو نفسه الذي أصبح يرسم علم النظام على دفاتره ويضعه كسوار من الصوف حول معصمه. والطفل الذي كان يحفظ أغاني الساروت، هو نفسه الذي تصدح حنجرته الآن بأغانٍ «وطنية» تمجد الرئيس.

لم أكن سأصدق أني سأكون شريكة في ذلك ذات يوم، لكني سأشارك إحدى المعلمات في حفلة تمزيق وحرق كل رسوم الأطفال التي كانت من أجمل ما رسمه أطفال حي الوعر كله، والتي نسيت المعلمة إتلافها مع بقية الدلائل الأخرى. تلك الرسومات التي تحكي بعيونهم وأيديهم حقيقة ما حدث بعيداً عن ثرثرات الكبار وعن مبالغاتهم ونواحهم، تحكي الدم والموت والخوف والأمل المؤجّل الذي بات الآن بحكم الميت.

مساء ذلك اليوم، الذي كان بعد دخول الجيش للوعر بأيام، قادتني قدماي إلى الشارع الرئيسي في حي الوعر، كنتُ أطلبُ الهواء بعيداً عن دخان محرقة ذكريات أهل الوعر، وهو الأمر الذي عرفه كل من بقي في الحي ولم ينزح عنه. يومها، كانت ثلة من الأطفال متجمّعة أمام حاجز للجيش، كانوا يشكلون حلقة صغيرة حول الجنود، يهتفون بشعارات مجلجلة تحية لهم، ليتغير الهتاف في لحظات إلى هتاف لحياة القائد: بالروح بالدم نفديك يا بشار…

كانوا يضحكون، يضحكون كثيراً، يضحكون بشكل هستيري، أما الجنود العابسون، فيعرفون تماماً أن أولئك الصغار الذين يهتفون بحياتهم الآن، كانوا يهتفون ضدهم بالأمس، وأن لا أحد يعلم لمن سيهتفون في الغد.

4

لم نصل بعد إلى يوم الحشر، لكن هنا قد يتنكر الأخ لأخيه، والأب لابنه أو لابنته إن ثبت على أحدهم شيء، وهذا ما حصل لمن كانوا في الحي المحاصر، وعادوا إلى «حضن الوطن». يحدث أن نتصادف في الشوارع، وما أن تلتقي العيون لأجزاء من الثانية حتى يستدير الرأس للجهة الأخرى في تصريح علني بالتنكر لما كان قد جمعنا يوماً.

لا أعرفكم ولا تعرفونني، نحن الآن في حضن الوطن، وحضن الوطن لا يحتمل ثقل هذه المعرفة التي قد تكون حدثت في الملجأ الذي جمعنا ذات قصف، في قبو ضيق بالكاد يتسع لأهل البناية والبنايات المتجاورة. لا أعرفكم ولا تعرفونني، حتى إن كانت هذه المعرفة قد حدثت أثناء تبادل بعض أرغفة الخبز المصنوعة من مكونات لا تخطر على بال، أو كانت هذه المعرفة قد جمعتنا في عمل، أو في عزاء، أو في مناسبة عرس أُقيمت على فنجان قهوة، ودمعة فرح ضالة ذُرِفت عند مشاهدة عروس ترتدي الأبيض وسط ذاك الخراب.

حينما رأيته للمرة الأولى فوجئتُ به، كان الشاب ينتمي لإحدى الفصائل الكبرى، وكان معروفاً أنه يعمل كهربائياً لديها، لكنه الآن يبيع في سوبر ماركت صغير. أعرف زوجته وطفليه، وأعرف أنه كان من المطلوبين. هو الآن يبيع البسكوت والرز والبهارات. لم يكن من مجال لإدارة الرأس هنا، «أهلاً يا آنسة»، قال، ثم أعطاني بضاعتي على عجل وابتسم بثقة مُدّعاة.

هو واحد من مئات قاموا بالتسوية، وعادوا إلى ما كنا نسميها، نحن الذين كنا ننتمي لغير هذا العالم، حمص البلد. يحدث أن تسمع من يفتخر بأنه قام بالتسوية، ويحدث أن تجد كثيرين ممن يتهربون من ذكرها، والغالبية قد نسيوا أمرها، لكن المؤكد هنا، أن معظم الشبان أو الرجال في سن الخدمة العسكرية، أو من يعرفون أنهم مطلوبون، أو مطلوبات لفرع ما، ما كانوا ليعودوا للحضن الدافئ لولا قيامهم بالتسوية، واستلامهم تالياً لورقة كفّ البحث، التي تعني أن الواحد منهم ما عاد مطلوباً لأيّ من الأفرع الأمنية. كان ذلك مباشرة بعد خروج المقاتلين من الحي، وكانت هذه الورقة الغالية أشبه ببطاقة عبور إلى «جنة البلد» أخيراً. تفتخر صديقتي وهي تقول إن زوجها كان من أوائل من قام بالتسوية، وإن ورقة كفّ البحث وصلته بعد أسبوعين من توقيعها، وإنه مساء اليوم الذي استلمها فيها، نزلا معاً ومشيا في أحياء المدينة، بعد انقطاع دام خمس سنين عنها.

لم تنته الحكاية هنا، فكثيرون منهم سُحِبوا إلى الخدمة الاحتياطية، أو ينتظرون على قائمة الاحتياط كما هو معروف. كما أن بعضهم لا يجرؤون على التحرك لأمتار بعيداً عن منازلهم لمعرفتهم أنه مطلوبون فوراً للاحتياط، بل إن أحدهم استلم مهام الطبخ ورعاية الأطفال في البيت، بينما زوجته تعمل عشر ساعات في اليوم لتأمين قوت العائلة. أما من كان منخرطاً في العمل العسكري ضد النظام سابقاً في الحي وقام بتسوية، فإن مصيره يختلف بحسب دوره في السابق، إذ أن عدداً لا بأس منهم اختفوا فجأة من دون أن يجرؤ أحدٌ على السؤال عنهم.

لكن الذي يكسر القلب حقاً، ليس أولئك الذين أراهم ويتنكرون لمعرفتي وأتنكر بدوري لمعرفتهم، بل أولئك الذين يشبهون من غادروا إلى الشمال، والذين يُسقَط في يدي حين أراهم فتختلط عليَّ الوجوه ويُشبَّه لي أنهم ما زالوا هنا، وأهرع إليهم بالسلام كاسرة قاعدة يوم الحشر المزيّف، ليظهر أخيراً أني أخطأت، وأن عيني ضلّت الوجوه.

5

نحن الآن في رمضان، وها هي سنة انقضت منذ «تطهير» الحي. أستقلُّ سيارة تاكسي في طريقي إلى البلد. يبتسم السائق الخمسيني بودّ مفرط حين أحاول الاتفاق معه على أجرة الطريق، يقول «ما بتفرق»، ثم يُعرّفُني عن نفسه بابتسامة موحشة، ويقول إنه يعمل مع المخابرات الجوية. أتلعثم في الرد وأبتلع كلمة «تشرفنا!!». يتحدث بثقة عن دور القيادة في إعادة الأمان للبلد، يصمت للحظات ثم يقول إن الذي جرى يتحمل وزره المشايخ، هم من حرضوا الناس على الفتنة رغم أن القيادة احتوتهم ومدّت لهم يد التصالح منذ البدايات، لكنهم «أصل البلا» دائماً.

أهزُّ رأسي بالنفاق الواجب إياه، وأسترقُ النظر إلى يديه وأتخيل ما قام بفعله بهما. علّلتُ تصريحه بمهنته الحقيقية بأنه كان على سبيل التباهي، أو لعلّ ذلك جزءٌ من سياسة «تكسير الرأس» المُتّبعة بإفراط هنا، والتي اعتادت عليها جموع الناس وتماهت معها بشكل يذكّر بكثير من البلاد التي شهدت حروباً وثورات، حيث يصعد العفن كله إلى السطح، وينقلب الناس الأشقياء بفعل الحرب إلى قساة أنانيين؛ عندما وصلتُ البلد ناولَني السائقُ ورقة كتب عليها رقمه كي أتصل به إذا احتجتُ إلى من يوصلني، أخذتُ الورقة منه واحتفظت بها لأوقات الطوارئ، من يدري ما الذي قد يحصل في بلاد العجائب التي نعيش بها؟!

مشيتُ عند حديقة كبيرة في وسط المدينة، ورأيتُ خمس فتيات يجلسن على العشب ويُدخِّنَّ الأركيلة ويسمعن الأغاني، بينما يجتمع حولهنَّ حشدٌ من الأشخاص، يراقبون الفتيات حاسرات الرأس على نحو فضولي مُزعج. اعتدنا في المدينة أن نرى غير الصائمين خلال شهر رمضان، هكذا كان أصل الأمور منذ سنين، لكن الأمر في ذاك المشهد كان يتجاوز منظر فتيات يُدخِّنَّ الأركيلة في حديقة عامة في شهر رمضان، يتجاوز الدلالة الدينية التي قد يحملها، ويتجاوز كلّ ما يتعلق بالحريات الشخصية، التي يُفترض أن تكفل للناس اختيار الإفطار أو الصيام.

بدا المشهد بكل تفاصيله تعبيراً عن حالة عامة من الهزيمة التي يعيشها شطرٌ واسعٌ من أبناء المدينة، الذين يجدون أنفسهم اليوم مسحوقين تحت جبروت الطرف المنتصر الذي ثاروا عليه قبل سنوات. الفتيات في الحديقة كنَّ يُمثّلن ذاك الطرف المنتصر رغم أنوفهنّ، وبغض النظر عن ما كُنَّ يفكرنَ به فعلاً في تلك اللحظة.

6

عند دوار الرئيس الذي تم تجديده مؤخراً، تجمَّعَ كثيرٌ من الشباب والفتيات المتنوعين لالتقاط صور سيلفي، عند الدوار المزين بالأضواء، مع تمثال الأب القائد كخلفية حديدية، بعضهم/نَّ كان يستعين بالعسكري الواقف قرب التمثال ليساعده/ها على التقاط الصورة التاريخية!

هنا، كثيراً ما يحصل أن تتداخل الحقائق في هذا العالم الآخر، عالم الهزيمة، عالم النفاق، عالم الملح المسكوب داخل الجروح، وعالم الخسارات الكبيرة التي وقفت عندها حياة كثيرين، بحيث أصبحوا مثل الأحياء الأموات، الذين فقدوا البوصلة التي حسبنا أننا نسير وفقها حينما كان كل شيء واضحاً وقابلاً للفهم.

ينسحق التمايز بين ماضي المدينة في أوج ثورتها وبين ما آلت إليه عند سقوطها مع مرور الوقت ومع جبروت الخسارة، ليصبح أشبه بشرخ حاد رفيع جداً، وعميق جداً، في داخل كل من عاش حالة الثورة وحالة الهزيمة، ليستقر به المآل أخيراً في حضن الوطن الشوكي المسموم. هنا، تجد الحالات الأكثر تطرفاً من الانحيازات والآراء، بين من انساقَ حدَّ العمى وراء خُطى جلّاده، وبين من يحاول أن يرقص على أكثر من حبل ليستطيع أن يحتال على ذاته ويقنعها بأنه ما زال لديه موقف ضد الظلم رغم كل الرياء.

كثيرون هنا، في لحظة صدق، يجدون أنفسهم يتأرجحون بين عالمين، العالم الثوري المحفور في الروح والذاكرة، والعالم الآخر الذي شعاره كلمة «خلصت»، أو كلمة «الفتنة»، أو أي كلمات أخرى تُغلّفُ الحقيقة، الحقيقة التي يعرفها الجميع ويخشاها الجميع، والتي تظهر في لحظة مكاشفة صارخة، مثل لحظة عزاء سرّي أقيم لمن استشهد تحت التعذيب. لا، ليس نسياناً ولا تقبّلاً، لكنه جبروت الظلم الذي ما أن تخفّ وطأته قليلاً حتى تعود الأمور إلى عهدها الأول، وتُنكِّسَ راياتُ الدم الحمراء أعناقها خجلاً مما حدث.