خمسة أشهر مرّت على إعلان قوات سوريا الديمقراطية عن انطلاق المرحلة الثالثة من عملية عاصفة الجزيرة، التي تهدف إلى القضاء على تنظيم داعش في جيبه الأخير شمال نهر الفرات بريف دير الزور الشرقي. ويمكن القول إن التقدّم الذي أحرزته هذه القوات في مدينة هجين خلال الأيام الماضية، هو التقدّم الجديّ الوحيد خلال هذه الأشهر الخمسة، التي شهدت إيقاف العمليات العسكرية مرتين، فيما كانت طلائع قسد تقف على أعتاب مدينة هجين، وتخوض معارك كر وفر دون أي تقدم يذكر، لتتقدم فجأة وتتمكن خلال أسبوع واحد من دخول المدينة والسيطرة على مراكزها الحيوية، وعلى أجزاء واسعة منها بدعم جوي واسع من من طيران التحالف الدولي.

صحيح أن قوات سوريا الديمقراطية مُنيت بخسائر كبيرة خلال عملية التقدم، نتيجة استماتة عناصر التنظيم في الدفاع عن أهم مدينة في معقلهم الأخير في المنطقة، واستخدامهم لعدة تكتيكات قتالية أبرزها الالغام والأنفاق والعربات الملغمة والإنغماسيون، لكن سرعة تقدم هذه القوات خلال أيام قليلة، تشير بوضوح إلى أن العامل العسكري لم يكن العامل الوحيد الذي عرقل التقدم في المنطقة. لقد تطلّبَ إحراز تقدّم جدي في الجيب صغير المساحة، الذي يضم بضعة بلدات وقرى في شريط ضيق على ضفة الفرات، وقتاً يقارب الوقت الذي لزم للسيطرة على الموصل والرقة في أوج قوة داعش.

لا شكّ أن المقارنة تبدو مجحفة بعض الشيء، لأن التقدم في منطقة ضيقة يحتشد فيها مقاتلون ليس لديهم ملاذٌ آمنٌ يتجهون إليه، يختلف عن التقدم في مساحات واسعة كان لمقاتلي التنظيم خيارات عديدة للانسحاب فيها عندما يتعرضون للضغط الشديد البري والجوي، لكن يبقى مؤكداً أنه لو توافرت الإرادة الجدية لدى قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي، لما تطلب إحراز تقدّم كهذا كلّ هذا الوقت.

ثمة استعصاء مركب سياسي وميداني يعيق إنهاء ملف الضفة الشمالية للفرات حتى الآن، لعلّ أبرز أسبابه غياب الأجوبة الواضحة على الأسئلة التي تطرحها مرحلة ما بعد القضاء على داعش، إذ أثبتت الأشهر السابقة أنه لا يمكن التعويل على القيادة الكردية لقوات سوريا الديمقراطية في سدّ فراغ السلطة في مناطق دير الزور التي سيطرت عليها، إذ لم تستطع الإدارة الذاتية المرتبطة بحزب الاتحاد الديمقراطي تقديم نفسها كسلطة متماسكة في المنطقة، في ظل غياب تام للخدمات وعدم إصلاح البنى التحتية وحالة الفقر والعوز بين الأهالي، التي دفعتهم مؤخراً للقيام بحركة احتجاجية واسعة النطاق، سيطروا خلالها على عدد من الآبار بالقرب من حقلي العمر والتنك النفطيين، في تعبيرٍ عن السخط والغضب على سوء إدارة موارد المنطقة.

حالة عدم الاستقرار هذه، التي من بين أسبابها التوتر المستمر بين المكونين العربي والكردي في قسد، والذي ظهر في مناسبات عدة، ربما تكون قد جعلت التحالف يتريث حتى يجد حلاً لهذه المسألة التي ستتفاقم حتماً بعد هزيمة التنظيم، ويبدو أن الحلّ المقترح قد جاء عبر إشراك المكون العربي على نحو أوسع في العمليات، من خلال الزجّ بفصيل جيش الثوار الذي يضم مقاتلين عرباً، والذي بدأ يخوض المعارك على جبهة قريتي البوخاطر وأبو الحسن شرق هجين، وكذلك استخدام مقاتلين من أبناء القرى العربية في ريف دير الزور الشرقي، خاصة «فوج خابات الشعيطات» وما يُطلق عليه محلياً «قوات عبد الباسط»، التي حملت عبئاً كبيراً في العمليات العسكرية الأخيرة.

وإذا كان التحالف الدولي يسعى دائماً إلى تخفيف التوتر عبر إشراك المزيد من العناصر العربية في المعارك، ومن ثم في إدارة المنطقة، فإن هذا لا يصبّ في مصلحة قيادة قوات سوريا الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب، التي تخشى خسارة الامتيازات التي تتمتع بها في حال توقف العمليات العسكرية. تستفيد الإدارة الذاتية اليوم من حقول النفط في المنطقة على سبيل المثال، وإسناد إدارة المنطقة لأبنائها بعد نهاية المواجهة المسلحة، قد يعني خسارة هذه الموارد المالية المهمة.

لكن الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لقيادة قوات سوريا الديمقراطية، هو مواجهة التهديدات التركية المتكررة، إذ إن هذه القوات تحصل على دعم واشنطن تحت شعار محاربة داعش، وانتهاء الحرب مع داعش قد يعني تجريدها من هذه الورقة، التي استعملتها مراراً عبر الإعلان عن إيقاف العمليات العسكرية في كلّ مرة تتصاعد فيها التهديدات التركية.

انتهاء المعركة مع داعش، قد يعني وضع قسد في مواجهة حتمية مع تركيا، أو قد يعني السير في حلول أخرى لتلبية الرغبة التركية في إبعاد وحدات حماية الشعب عن حدودها، من قبيل ما تضمنته التسريبات التي تحدثت عن احتمال نشر قوات عربية عشائرية على الحدود السورية التركية، كقوات الصناديد، حليفة قسد السابقة، التي يقودها أحمد الجربا، أو قوات البيشمركة التي قد تحظى بقبول تركي، وهو ما سيحد كثيراً من نفوذ قسد ومكاسبها السياسية والاقتصادية.

رغم التقدّم المهمّ لقسد في هجين، فإن داعش لا يزال يسيطر على مدينتين رئيسيتين هما الشعفة شرق هجين والسوسة على أطراف البوكمال شمال النهر، وعلى بعض القرى الاستراتيجية مثل البوخاطر وأبو الحسن شرق هجين، والمراشدة والسفافنة قرب السوسة والباغوز. ولأن المشكلات سابقة الذكر، المتعلقة بمستقبل المنطقة بعد نهاية المعركة، لا تزال مستمرة دون حلول واضحة، فإن السيطرة على هجين لا تعني بالضرورة اقتراب نهاية عملية «عاصفة الجزيرة».