تتنوع حساسيات المجتمعات تجاه حكايات الحرب، بعضها تمنعها تحريماً، وبعضها تسمح بأن تسري بعض أخبارها وسردياتها من أجيال إلى أجيال، فيما تعمل أخرى على استذكارها باستمرار عبر برامج حكومية واجتماعية، حتى لا تتكرر التجربة مرة أخرى.
الحرب نزاعٌ بين طرفين، والجريمة تفترض دوماً فاعلاً وضحية. إذن هناك قناعان يمكن أن يرتديهما الراوي لحكاية الحرب ذاتها، إذ لا بدّ أن تكون رواية أحد الطرفين مخالفة لرواية الآخر.
1- الرواي الضحية
تُظهِرُ لنا تجارب تاريخية سابقة كيف أن الضحايا أكثر مرونة في روي تجارب الحرب والعنف التي تعرضوا لها، بالمقارنة مع قدرة المعتدين أو مرتكبي الجرائم على روي تجاربهم. فمهما تأخرت قدرة الضحية على التعبير، إلا أنها غالباً ما تتمكن من الروي في النهاية، لأنها ضحية. وتُسجِّل حكايات الاغتصاب الحساسية الأعلى، إذا غالباً ما تكون روايتها هي الأصعب بين حكايات الحرب الأخرى.
في سرد التعذيب
في كتاب تسع عشرة امرأة: سوريات يروين (سمر يزبك، دار المتوسط، 2018)، تحتلّ شهادات الاعتقال المساحة الأكبر، فهوي يروي الكثير عن السجن والفظائع التي تُرتكب داخله، ويصفُها بدقة بهدف «تعرية الوجه الحقيقي للجلاد» على حسب تعبير المؤلفة يزبك، فداخل السجن يتمّ تشييء الجسد، ويُمسرَحُ التعذيب. وتتحدث الشهادات عن هذه المَسرَحة بتشابه فظيع، فالوسائل جميعها متاحة لتحطيم السجينة، وتفتيت إرادتها وكيانها، ودفعها إلى الرضوخ بإذلال لجبروت السجان الذي يمسك بخيوط الحياة والموت، السجان الذي يصبح بمثابة قَدَر يَصعُبُ الإفلات منه.
الراوية فاطمة، 27 سنة، من القنيطرة تروي عن أساليب التعذيب: «كانت جلسات التعذيب بالكهرباء، على رجلي بدايةً، وكان حلقي ينشف نتيحة صدمات الكهرباء، فيسقونني ماءً، ثم يعاودون التعذيب. لاحقاً، ونتيجة التعذيب، تمزق عندي الغضروف في ركبتي، وصارت حركتي صعبة، ولا أستطيع تحريك رجلي جيداً الآن. استمروا في التعذيب، ولم أعد أُبدي أي رد فعل، توقفتُ عن البكاء والصراخ، كنتُ لا شيء، ومحطمة ومذهولة من الاتهامات الموجهة إليّ».
عن التعذيب النفسي المركب وأثره على الذات، نقرأ في شهادة مريم حايد، طالبة علم نفس، يجبرها السجان داخل السجن على التأقلم مع اسم آخر: «قال لي: ما اسمك ؟ قلت مريم. فصفعني بعنف أكثر، وقال اسمك أميرة خليف. فصمتت. ضربني بعنف، ولطمني، ولبطني، فتراجعت السجينات مذعورات. منذ تلك اللحظة، لم أعد أُنادى إلّا بأميرة، وكلما كان السجان يناديني أميرة، كنت أقول لنفسي: لا تنسي… أنت مريم، أنت مريم حايد التي تريد سورية حرة ديمقراطية، أردد هذا الكلام مع تنفسي بصمت، وأنسى ما يفعلونه بي».
في سرد المجزرة
الشهادة الأخيرة في الكتاب، لفاتن، 24 سنة، تروي عن مُعايشة مجزرة: «عندما وصلت، رأيت أبشع منظر في حياتي، كنت قد رأيت الكثير من المجازر، ورأيت الجثث والفظائع، لكن منظر الطفلات الصغيرات وحقائبهن في أكتافهن وهنَّ مبتورات الأطراف، كان فوق احتمالي. صور لا يمكن أن تصفها اللغة. عدت إلى بيتي وثيابي تقطر دماء. انهرت، وشعرت بالعبث واللاجدوى، لقد كنت مديرة مدرسة، وأقود حملة من أجل التعليم والطائرات قتلت الكادر التعليمي والطلاب. ضحكت بهستيريا، وشعر أهلي بالخوف عليّ. بعد هذه المجزرة، فقدتُ قدرتي على التحكم بكمية الطعام التي أتناولها، وأصبت بإضطرابات هضمية. كانت اللحظة التي رأيت فيها طلابي قتلى ومبتوري الأطراف لحظة حاسمة. لقد فقدتُ نفسي، كنا نموت فقط. كل ما نفعله أننا كنا نموت، وكنت أموت معهم، ثم أعيش».
2- الراوي المجرم
مقابل تجربة الضحايا، يظهر كيف أن تجربة المعتدين أو مرتكبي الجرائم أثناء الحروب الأهلية أكثر صعوبة في الروي والسرد. هؤلاء نفذوا جرائم وأفعالاً يعجزون عن سردها بعد انتهاء العنف، لأسباب عدة. إمّا تهرباً من المسؤولية، أو لأن وعيهم الذي تشكل في زمن السلام يدلّهم على فداحة ما ارتكبوه زمن الحرب، أو لأنهم يخشون حكم المجتمع على البشاعة والشناعة وقسوة ما سيروون. لكن العجز عن الروي هو عقوبة المجرم، لأن الفن والأدب والتاريخ يبين أن الشعور بالذنب هو العقاب الأساسي لأي مجرم، ولا يمكن التحرر منه إلا ببذل الجهود للقيام بفعل الروي والاعتراف.
الذنب عقوبة المجرم
في المسرح اليوناني، أوديب شخصٌ يقتل أباه، ويتزوج من أمه وينجب منها. ورغم جهله وإقدامه على هاتين الفعلتين دون معرفة، فإنه لا يحتمل مقدار الذنب حين يُدرك الحقيقة، ويعاقب نفسه بأن يفقأ عينيه.
ماكبث لدى شكسبير يرضح لتحريضات زوجته، فيقتل دوق دنكن ويجلس على عرش اسكتلندة، لكن هلوساته ومخاوفه من فعلته تقوده إلى الجنون. إنه عقاب ذاتي، النموذج الأمثل له شخصية راسكالينكوف، في رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، حيث كل المبررات العقلية والمنطقية تدفع راسكالينكوف لارتكاب جريمة قتل في الكتاب الأول من الرواية، وفي الكتاب الثاني تبلغ به هلوساته، وقلقه، وشعوره بالذنب، إلى تسليم نفسه للعدالة.
الاعتراف كفعل خلاص، كفعل روي
في فيلم الذنب (الدنمارك، 2018، غوستاف مولر)، آشغر هو ضابط شرطة مسؤول عن استقبال مكالمات الإنذارات العاجلة، النجدة، في القسم. قبل انتهاء يوم عمله، حيث عليه أن يحضر جلسة محاكمة قضائية في الغد، يستقبل اتصالاً من امرأة، ينخرط بكليته في إنقاذها، يعمل خارج سلطاته كموظف، وخارج سلطات مدرائه في قسم الشرطة، لمجرد إنقاذ إيبين، الأم التي يعتقدها ضحية.
في الثلث الأخير من الفيلم، يظهر أنه مخدوع، وأن المرأة ليست إلا مريضة عقلية يقودها زوجها إلى مشفى الأمراض العقلية. تعي إيبين اختلالها، وتقرر الانتحار من على الجسر، بينما هي مع آشغر على السماعة. فجأة، يروي آشغر حكاية ذنبه، لقد ارتكب جريمة مرةً عن عمد، وقتل فتى في التاسعة عشرة من عمره كان يزعجُه. بينما آشغر يروي حكايته لإيبين، تصل الشرطة وتتمكن من إنقاذها. هنا نجد قصة ملموسة تشرح كيف أن اعترافاً قد يكون سبباً لإنقاذ حياة.
الضحية واعتراف أو إنكار المجرم
في مسرحية الموت والعذراء (1991، أربيل دورفمان)، تلتقي باولينا، الشخصيةُ الرئيسية، بمن تعتقد أنه جلادها، د. ميراندا. خمسة عشرة عاماً مرت وباولينا لا تزال تحمل في ذاكرتها تداعيات التعذيب والاغتصاب في السجن حين اختطفها البوليس السري، عندما كانت طالبة في كلية الطب. يجعل اعتراف أو نكران د. ميراندا الجمهورَ يشكك بما تدعيه باولينا، وتبدأ رحلة البحث عن البراهين. بإنكاره المستمر، يقود د. ميراندا باولينا إلى استخدام العنف والتهديد باستعمال المسدس. هنا يجعل إنكار المجرم من الضحية هستيرية موهومة، أو عنيفة تسعى إلى الانتقام.
يروي لنا الأديب بورخيس ما حدث لأمهات الأرجنتينين المخطوفين قسراً، غير معروفي المصير، جرّاء الحكم العسكري الذي عرفته البلاد في 1975. استمرّت الأمهات بالتجمّع في ساحة مايو، مطالبات بالكشف عن مصير أبنائهنّ. كان على نظام الحكم البيروني الاعتراف، إلا أنه رفض، وقام بتوجيه خطاب للشعب مفاده أن هؤلاء الأمهات لم يكنَّ يملكن أولاد مسبقاً، وأنهنّ أمّهات واهمات، حتى أنه أطلق عليهنَّ تسمية الأمهات الواهمات، أو الأمهات المجنونات. هنا نرى كيف أن رفض المجرم للاعتراف، يَسِمُ الضحية بالوهم، بالمبالغة، بالكذب، وبالجنون، إن لم تحصل على حقها بالاعتذار.
في الفيلم اللبناني ليال بلا نوم (2012، إليان الراهب)، يبحث مسؤول المخابرات السابق في القوات اللبنانية، أسعد الشفتري، عن سبيل التطهّر ونيل الغفران على الماضي الدموي الذي انخرط فيه إبّان الحرب الأهليّة الطويلة. أمّا مريم السعيدي، فهي المرأة التي لا تتعب من الأمل الواهن في البحث عن ابنها الفتى الذي كان مقاتلاً في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، واختفى أثره في العام 1982. كلٌّ منهما يبحث عن خلاصه، هي من الألم وهو من الندم. ثمة عقدة أخيرة ومهمة في الحكاية، وهي أن مريم متأكدة أن أسعد يملك معلومات عن اختفاء ابنها، لأنه شارك في توقيفه أثناء الحرب، إلا أن أسعد وبعد عشرين عاماً، أصبح مستعداً للحديث عن كل ممارساته الوحشية، لكنه عاجزٌ عن أن يجيب مريم عن مكان أو حال ابنها. هذا مثالٌ آخر على أن الضحية قادرة على الروي بسهولة أكبر من المعتدي أو المجرم.
لا يمكن أن تنجح تجارب الفن في السلم الأهلي والتأهيل الإجتماعي، مع وجود رقابة. هذا النوع من الفن يشترط مساحة واسعة من الحرية، وتشتتاً كاملاً لحضور السلطة. في لبنان تُمنَعُ الأعمال الفنية التي تتناول الحرب في موضوعتها، لأن الحرب انتهت على مبدأ لا غالب ولا مغلوب. إذن، كيف يعالج المجتمع نفسه بالفن، والفنُّ معاق.
في فيلم شو صار (2011)، تأخذنا كاميرا المخرج ديغول عيد في رحلة عودة من فرنسا، إلى بيروت، إلى أحياء المجزرة. إلى منزل فقدان المخرج لعائلته، وإلى تلك الذكريات متداخلة العوالم. يتابع المتلقي مع المخرج رحلة العودة لإعادة روي ما حدث. في محاولاته لاستعادة سرد الماضي، يتعّرف المخرج – السارد على أحد المشاركين في الهجوم على منزله وقتل عائلته، ويحمل الكاميرا ليقابله. الفيلم مُنِعَ من العرض في الصالات اللبنانية، وخسرت التجربة اللبنانية فيلماً مميزاً في معالجة موضوعات الحرب، واستعادة السلام.
عن الاعتراف بالجرم
يتابع الفيلم الوثائقي بوباي القاتل (2017، بافيل بايديكوف)، حكاية جون فيلاسكيز بعد أن أمضى ثلاثة وعشرين سنة في السجن. كان فلاسكيز (بوباي) قاتلاً مأجوراً يعمل لصالح عملاق تجارة المخدارت في كولومبيا، إسكوبار، وقد اعترفَ أنه قتل أكثر من 250 شخصاً، وخطط لعمليات قتل أكثر من 2500 شخص من مجموع سجّل ضحايا مافيا كارتيل ميديلين، الذي يفوق 50000 ضحية.
بعد مغاردته السجن سنة 2015 بإطلاق سراح مشروط، أصبح بوباي مدوناً وناشطاً سياسياً، وصّرحَ أنه قد تاب عن أفعاله الإجرامية، وأنه يصرّ على أن يكون إنساناً سويّاً. استغلَّ الرجل شعبيته وشهرته ليترشح لمجلس الشيوخ في البرلمان الكولومبي، غير أن الدستور الكولومبي يمنع ذلك، ليقرر بعدها أن يكون ناشطاً سياسياً يبث فيديوهات عبر قناته على يوتيوب، التي يزيد متابعوها على 500 ألف شخص.
هو شخصية مشهورة الآن في أوساطه، وفي عموم البلاد، لكونه أشهر قاتل مأجور في تاريخ كولومبيا. المارّة يطلبون الصور بصحبته، النساء، الأطفال. لقد اعترفَ فلاسكيز، ثم قضى سجنه، وتابَ بعدها وتحوَّلَ إلى كائن قابل للتواصل، حتى أنه تصالح مع جرائمه لتصبح بالنسبة له رصيد شهرة.
يتابع الفيلم حياة بوباي الخاصة، ويسعى المُخرج لأن ينسق له لقاءات مع ضحاياه. الضحية الأولى أنثى بيدٍ صناعية جراء تفجير خطط لها فلاسكيز. لقد أصابها تشوّهٌ دائم بسببه، لكن في لقائهما الذي يجري التحضير له طويلاً، ويتمّ على مقعد في حديقة، يطلبُ مجرمُ الماضي السماح والصفح، ويحصل عليه بصدق في النهاية. الضحية الثانية فقدت أماً أو أباً بسبب عملية اغتيال نفذها فيلاسكيز، وهي ترفض فكرة لقاءه أمام كاميرا الوثائقي. الضحية الثالثة كاتبٌ صحفيٌ فقد والده في عملية تفجير طائرة كان القصد منها اغتيال أحد معارضي إسكوبار، لكنها أودت بحياة 107 ضحايا. كان هذا الصحفي لا يزال يشك بقدرة فلاسكيز على التوبة، ويكتب عن ضرورة إعادته للسجن. في اللقاء الأخير بين الصحفي وفلاسكيز، يعجز القاتل بوباي عن تمالك غضبه، يتحول عنيفاً، بل إنه كان راغباً بالمواجهة مع الضحية قبل أن يحاول التواصل للحصول على الصفح. ضحيةٌ واحدةٌ أخيرةٌ أوضحت عنف فلاسكيز الذي ما يزال كامناً في أسلوبه، وهكذا يساعدنا الوثائقي في رحلته على اختبار مقدار التوبة الحقيقة في أعماق فلاسكيز، الذي يعترف في نهاية الفيلم: «ما زال حمل السلاح خياراً مطروحاً في حياتي».
في العام 1965، أطاح الجيش بالحكومة الإندونيسية، واعتبرت الدكتاتورية العسكرية الجديدة أي معارض لها شيوعياً، وبالتالي يجب قتله. وخلال سنة، تمت تصفية وقتل ما يفوق المليون إندونيسي بتهمة الشيوعية. استعان الجيش حينها بالعديد من المجرمين كي يرتكبوا أعمال القتل.
بعد أربعين عاماً على المجازر، في فيلم فعل القتل (2012) يعود المخرج جوشوا أوبنهايمر ليقنع أنور كونغو، أحد قادة عصابات المرتزقة منفذي الإعدامات، بأنه يصنع فيلماً عنه، وبأنه سيوكل إليه مهمة إخراج الفيلم. أول مكان يختارّ أنور للتصوير هو المعتقل حيث كان يتم تعذيب السجناء. الآن، أمام الكاميرا يروي في باحة المعتقل أفعاله «البطولية» في التعذيب، وخلال 120 دقيقة يحاول أنور أن يُخرِجَ «بطولاته» تلك، وأن يروي سيرة حياته وهو قائد كتيبة مسلحة من المرتزقة. وبينما هو يروي بفخر، نكتشف مقدار الوحشية والقمع الذي تنطوي عليه شخصيته. كلما صور أنور القليل من فيلمه، كان يعيد مشاهدة اللقطات، ولقد استغرب أن أحداً لا يريد أن يلعب دور المُعذَّب، الضحية، المُعتقل. وكي يُعيدَ تجسيدَ حدث من الماضي، يطلب من أهالي إحدى القرى أن يهرعوا ويتحركوا كما لو أنهم كانوا فزعين. يبدو واضحاً أن أنور ليس واعياً نهائياً بمقدار الأذى الذي أحدثه في تاريخ أندونيسيا، وتاريخه.
في مقال بعنوان شبيحة أندونيسيا يتحدثون، يكتب المسرحي زياد عدوان عن فيلم فعل القتل: «لأن أنور وأصدقاءَه مولعون بالسينما الأميركية العنيفة؛ يقرّرون تمثيل أفعال القتل التي ارتكبوها بطريقة سينمائية، علماً أن أنور يملك قصصاً تفوق أفلام العنف ساديةً ودمويةً؛ قصصاً حقيقية، غير نابعة من الخيال. في تمثيلهم لمشاهد جرائمهم الرهيبة، يستخدم القتلة في البداية بعض الأدوات البسيطة. لكن بما أن طموحهم السينمائي كبير، يستحضرون الأزياء المناسبة والمكياج والكومبارس، كما يمثلون أدوار الضحايا وأهلهم، ومن ثم يعمدون إلى تقييم الأداء بعد كل مشهد».
القيمة الإستثنائية لفيلم فعل القتل، هي ما نراه من تأثير للفيلم نفسه على أحد شخصياته الرئيسية. بسبب صناعة الفيلم، يعي أنور مقدار الوحشية والإجرام الذي مارسه في ماضيه. كان الفيلم هو سبب هذا الاكتشاف. لكن ما هو الدليل على أن أنور بات يعي جرائمه؟
في المشهد الأخير نعود إلى المكان الأول الذي اختاره، معتقل التعذيب الذي دخلناه مع أنور بداية الفيلم، وكان يؤدي فيه بفخر عمليات تعذيبه. في نهاية الفيلم، حالما يخطو في باحة السجن، يخونه جسده، ويتقيأ. يشمئزّ من المكان ذاته الذي كان فخراً له. ها هو الفيلم يشكل وعياً لشخصيته التي يعالجها، ليس وعياً لاحقاً على الفيلم، وإنما وعياً مُبرهناً عليه في داخل أحداثه نفسها. حقّقَ المخرج أوبنهايمر عبر هذا الفيلم عملاً يجمع بين الفن كعلاج، والفن وحقوق الإنسان، وحقق إضافة مهمة لتاريخ السرد عبر الفيلم الوثائقي.
هذه نماذج فنية تتعامل مع موضوعات الجريمة، الذنب، الاعتراف، الروي. والهدف منها هو تشجيع المذنببن على الروي والاعتراف، لأن استمرارية شعور الذنب هي عقابٌ مستمر، ولأن المجتمع والضحايا يحتاجون هذا الاعتذار ليستوي في فكرهم المنطق. مهما بلغت جرائمكم، وأفعالكم من الوحشية والقسوة غير القابلة للتخيّل، فإن عدم مشاركتها هو فعل أكثر حمقاً من ارتكابها، لأن الجميع يحتاج أن يروي كي يستطيع الاستمرار.