خمس سنوات! ستون شهراً! 260 أسبوعاً! 1826 يوماً!
أظن أني فكرت ألف مرة بماذا سأفعل لو وقع بين يدي من خطفوك وغيبوك، يا سمور. سأخطف أرواحهم، هذا جوابي بكلمتين. الأرواح الميتة التي تعيش من خراب الحياة، ولا ترتاح دون نثر الموت حولها. هل تعرفين ما يقوله المتنبي عن أرواح مثل هؤلاء: ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم/ إلا وفي يده من نتنها عود! يلزم عود طويل جداً لإبعاد هذه النفوس النتنة التي يشمئز منها الموت ذاته.
لكن حتى لو وقعوا في يدي وكان لديَّ هذا العود الطويل، هل خطف أرواح مثل هؤلاء هو العقاب العادل لجريمة الخطف والتغييب والإنكار، وطوال سنوات؟ يهتدي منقسم النفس أحياناً إلى شيء أبسط، أقل عنفاً ولعله أبقى أثراً: أن يبقوا تحت عينيه، مجردين من القوة والأتباع والمال، ينظر في وجوههم عن قرب. أريدهم للفرجة، أن يكونوا في متناول العين، عيني وعين أهالي مُغيّبيهم. أفكر ألا يجري إيذاءهم، أن يُطعموا ويُسقوا ويُكسوا، أن يحفظوا كتحف حية للجريمة.
لكن هل هذا أيضاً عقاب عادل؟ هل نستحق أن ننشغل إلى هذا الحد بحفظ مجرمين تافهين وعرضهم للناظرين، بدل إعدامهم أو حبسهم كما يعدم أو يحبس مجرمون آخرون مثلهم، قتلة أو مغتصبون؟ أو ربما خطفهم وتغييبهم؟ لكني أستبعد هذا الأخير لأنه يلوع أهاليهم (لهم أهالٍ، هؤلاء المكلوبون، وأطفال!)، ولأنه ينتج خاطفين ومغيبين، مما يجب ألا يحدث، ألا يجرب، ألا يوجد.
مخيلتي متواضعة في هذا الشأن يا سمور، ولست أدري إن كان هذا أمراً طيباً. في شهور سجننا الباكرة فكّرنا في ماذا نفعل بحافظ الأسد لو وقع في أيدينا. ولم يبق في ذاكرتي غير أظرف اقتراح من أحد الرفاق: أن يوضع واقفاً في حفرة بطوله، مغمورا حتى ذقنه بالمخلفات البشرية، وأن ينقض عليه بشكل متكرر شخص يحمل سيفاً، وهو يصرخ به: راسك! راسك! راسك! فيضطر حافظ إلى أن يغطس مرة تلو الأخرى بالبراز كي يحمي رأسه. كان هذا انتقاماً خيالياً من طرف معتقلين عزل من جلادهم الحقود، الذي أعتقد أنه لم يكن ارتكب أسوأ جرائمه في ذلك الوقت، مذبحة حماه.
ترى ماذا يمكن أن يكون العقاب الأعدل لبشار اليوم، ولمنتجي القتل وإدارييه في نظامه؟ ربما لا شيء، ليس هناك عقاب عادل لمثله، مثلما ليس هناك عقاب عادل لكعكة وديراني وشاذلي وبويضاني، ممن خطفوك وغيبوك مع رزان ووائل وناظم. أن يوضع بشار تحت أعين السوريين الذي قتلهم وهجرهم وعذبهم ونكل بهم ونكد عيشهم وكسر قلوب ما لا يُحصى منهم، أن يُعرض لهم، أن يروي الضحايا على مسمعه جرائمه بحقهم، وأن يُعاقب بالبقاء تحت أنظارهم، هذا قد يكون أقرب إلى العدالة من غيره.
السؤال في مثل هذه الحالة قد يكون: لأي أمد يُعرض المجرمون؟ هل يعاقبون بعيون الضحايا تنظر إليهم مدى حياتهم؟ لا نستحق نحن ذلك وإن استحقوا هم. عيوننا تستحق شيئا أفضل، ونفوسنا أيضاً.
نريد أن يُعاقَب المجرمون ويختفوا عن أنظارنا، لتبقى منهم في البال ذكرى جروح لا نريدها أن تتكرر.
لكن لم لا نفكر في القصاص، أن يذوقوا بالضبط ما أذاقوا غيرهم؟ أن يوضع بشار وماهر وجميل حسن وعلي مملوك وشركاء القتل الأخرين في زنازين ضيقة سيئة التهوية، يختنقون فيها، لا يستحمون أسابيع وشهوراً، يُشبحون بين وقت وآخر ويضربون، تكهرب أعضاءهم التناسلية، يخوزقون بعصي أو قنان زجاجية، ويجبرون على اغتصاب بعضهم مثلما أجبروا هم ضحاياهم في سجن صيدنايا؟ وفقط يمنعون من الموت لأطول وقت؟ وأن يوضع كعكة وديراني وبويضاني وشاذلي ويونس النسرين في أقفاص حديدية، ويجال بهم في عدرا العمالية؟ ولِمَ لا تفرض عليهم قراءة خطب بشار الأسد وأبيه وتقديم فحوص فيها، على غرار ما كانوا هم يعاقبون أسراهم بحفظ القرأن؟ وربما يُعلِّمون هم بشار وشركائه الصلاة، ويمتحنونهم في نواقض الإسلام العشرة، أو في كراس عبد السلطة المسعور، سمير الكعكة، عن «الولاء والبراء»، ويجلدونهم إن لم يعرفوا؟
هل هناك درب إلى العدالة، يا سمور، لا يمر بعقاب هؤلاء القتلة؟ لا أتصور ذلك. العقاب بالعين الناظرة لا يكفي. لا بد من شكل مادي أو جسدي للعقاب العادل، دون أن يكون نسخة من جريمة المجرم تمارس بحقه، أي دون أن تكون قصاصاً حرفياً. عدالة العين بالعين تترك الجميع عميان، كان يقول غاندي. لكن ما ينطوي عليه قصاص العين بالعين من استهداف لكيان المجرم يبقى ركيزة صلبة للعقاب العادل. ليس خطف من يخطف، ولا قتل من يقتل حتماً، ولا قطع يد من يقطع يداً، ولكن محاكاة القصاص بتجريد المجرمين من كل قدرة على الإيذاء، وحماية المجتمع منهم، واقتناعه بتحقق العدالة.
في كل حال، إن كان من مستقبل للعدالة في وطننا أو من مستقبل لوطننا، فلا يقف الأمر عند وجوب ألا يفلت الجناة من العقاب، بل يتعداه إلى أن يكون حدث العقاب هذا حدثاً وطنياً عاماً وكبيراً، تأسيسياً وسياسياً. أقصد أن يعلم به السوريون ويتابعونه ويطلعون على مبرراته وعلى تفاصيل الجرائم، وآليات تحقيق العدالة، وأن يجري ترتيبه بحيث يُحدِث قطيعة في تاريخ بلدنا، ويستهدف طياً مديداً لصفحة ما قبله.
هل هناك أمل، يا سمور؟ قد لا يتحقق ذلك، قد لا نراه في أي يوم، لكن ربما يمكن لتخيله والتفكير فيه والشغل عليه أن يساعد في كسب الأذهان والقلوب لتصور منصف له، وربما في تقريب تحققه.
لكن أليس العفو أولى من عدالة متعذرة، يُنذِر تعذرها بتأجيلها المستمر والاستمرار في العيش يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، في الأشكال الفادحة من اللاعدالة التي نعيش فيها منذ عقود؟ لا أعتقد ذلك، ليس لأننا لا نرضى بربع عدالة لا ننال منها شيئاً. فالواقع أنه سبق أن رضينا غالباً بربع عدالة، ولم يرض بنا الربع. تتذكرين مبادرة وقّع عليها معتقلون سابقون، في عام 2003 أو 2004، من أجل إلغاء الحرمان من الحقوق المدنية والتعويض عن سنوات السجن. هذه المبادرة كانت أقل من عُشر عدالة، وكانت بعلم أجهزة مخابرات وتنسيق معها، ولم تثمر عن شيء.
وقبل ذلك تذكرين دون شك أن منّا من تكلموا على المصالحة الوطنية، وعلى رد المظالم لقطع الطريق على الانتقام والانفجارات غير العقلانية. وأن منّا، المعتقلين السياسين السابقين، من تبنوا شعار مانديلا: نسامح ولا ننسى. وكنت واحداً منهم، لكن كان مضمراً في الشعار ما كان محققاً في حالة مانديلا: طي صفحة التمييز، وبدء زمن جديد. كنا نأمل أن تطوى الصفحة وتتحقق المصالحة، وندخل وقتها فعلاً زمن المسامحة. ليس فقط لم يحدث، ولكن كنا نحن من نوصف بأننا حاقدون!
لا يجب أن يوضع العفو أو المسامحة بمقابل العدالة. هذا صفقة مغشوشة، يتعفن لبنان اليوم بسبب مثلها. نريد العدالة كي نستطيع أن نسامح ونصفح.
حين تعودين سالمة، حين يقدم المجرمون لمحكمة عادلة، حين ينالون الجزاء المستحق، حينها يمكن أن نفكر معاً بالصفح والغفران.
أطلب أقل مما طلب هنريش هاينة، الشاعر الألماني من القرن التاسع عشر، الذي يقول بظرافة إنه «سلمي المزاج جداً»، وإن أمانيه هي بالكاد: «كوخ متواضع بسقف مقشش، لكن مع سرير جيد وطعام طيب، وحليب وزبدة طازجين، ومع زهور قبالة نافذتي وقليل من الأشجار الجميلة أمام بابي». ثم فقط هذا المطلب الإضافي المتواضع: «وإذا شاء الله أن تتم سعادتي فسيجود علي ببهجة أن أرى ستة أو سبعة من أعدائي يتدلون مشنوقين من هذه الأشجار. قبل موتهم، وبقلب مفعم بالتأثر، سأصفح عن كل ما ارتكبوه بحقي في حياتهم. فالحق أن على المرء أن يسامح أعداءه، لكن ليس قبل أن يشنقوا».
أنا أريد أن أرى أعدائي محرومين من السلطة والمال، إلهيهما المعبودين، أن لا يجوعوا، لكن أن يأكلوا فقط من «قروانة» مثل تلك التي أكل منها سجناءهم. ليس لدي اللؤم الظريف لهاينه، ولا أريد أن يتدلى أعدائي مشنوقين قبل أن أصفح عنهم بقلب رحيم، بل أن يعيشوا طويلاً كصيصان منتوفة الريش، مثلما هم في الحقيقة دون سلطة قاتلة ومال مسروق.
سمور، ليس في لغتنا، وربما في أي لغة كلمة لتسمية من غيِّب له حبيب، لا يعلم شيئاً عن مصيره طوال سنوات. ومن التجربة، أعتقد أن شركاء الحال لا يقر لهم قرار في شأن العقاب العادل للمغيِّبين. ومن جهتي لا أستطيع إنكار وجاهة المطالبة بإعدام من توعدوا ضحاياهم، في أقبية الموت الأسدية (أو أشباههم من أولياء التعذيب والقتل الإسلاميين)، بأنهم سيتمنون الموت ولا ينالونه. لكن ليس قبل تجريد القتلة من السلطة والنفوذ، وليس دون اتهام وتجريم، وليس دون أن تكون العدالة فعلاً اجتماعياً عاماً يؤسس لما بعده.
وأرى أن جريمة المعذِّبين والمغيِّبين ليست مثل غيرها، وعقابها لا يجب أن يكون مثل غيره. يجب أن يكون نهاية للتغييب والتعذيب، وليس لمغيّبين ومعذِّبين بعينهم. ولعله بعد ذلك يجب أن يُجدد العهد به ويحتفى به سنوياً ولا يسمح بسقوطه من الذاكرة. أن يكون عيداً مضاداً الشر، نستعيده كل سنة كيلا نعيده.