أستمع لأغنيتك المفضلة: يا فجر لما تطل، بصوت نهاوند، وأفكر بك.
«صحّي عيون الناس/ محبوبي قبل الكل!»
لا أستطيع منع نفسي من تساؤل المؤمنين: لماذا وقع لنا ما وقع؟ أما كان يمكن ألّا يقع؟ كان يمكن يا سمور، ولا أستطيع إقناع نفسي بأن هناك “مكتوب ما منه مهروب” قضى بأن تغيبي سنوات، تصلُ اليوم إلى أربعة، تقارب الأربعة التي سبق أن قضَيتِها في سجن النظام السوري. لماذا كان يجب أن تغيبي؟ ليتنا تجنبنا هذه الكأس.
أما وقد غبت، فقد صار غيابك قضيتي. أعيش معه وأشتبك معه طوال الوقت، ولا أعرف ماذا سيخرج من هذا الاشتباك، لكني أعرف أن لي ثأراً لن يموت.
«بالحي لما تزور/ بيدك مشاعل نور!»
في غيابك، أعرفُ يا سمور أنَّه ليس هناك حلٌ غير مواصلة العمل. أعرف أنَّ هذا هو الصحيح، لكني لا أجد راحةً في هذا الصحيح. الصحيح هو أنه ليس هناك حل لغيابك، وليس هناك عمل ممكن يملأ فراغ الغياب. الصحيح الصحيح هو أن تعودي، البارحة قبل اليوم.
يخطر ببالي يا سمور أن الاشتباك مع الغائب، مع الغياب، مع الغيب، هو ما ولّد الأديان، وأنّ الانشغال بالحضور، بالعالم المشهود، ترك الغياب بيد الدين. لكني لست معنياً بالدين وأهله، أنا معنيٌّ بالغائبة، بالمختفية، بالخسارة، بالفقد، بالضياع والنسيان، وليس بما يتكّون حولها من مذاهب ومعتقدات تنقلب دوماً إلى حضور خانق، شرير. بل إنِّي معني جداً بهدم هذا الحضور الخانق، المفترس والخسيس، الذي غيّبك. لا أعرف كيف أعيش غيابك، لكنه ملكي، شيء شخصي جداً، أصارعه وأفاوضه وأعيش معه، لا أنساه ولا أغفل عنه ولا أريد له أن يتخفف. وهو على كل حال، مثل صديق مخلص، لا يتركني، ولا يتخفف.
ليس غيابُك ملكي لأني أنكر أنه شأنٌ عام ولا يخصني وحدي، ولكن لأنّ العام بحاجة إلى تشكيل جديد مختلف جذرياً، يمر عبر قصصنا وسيرنا ومِحن حياتنا. أريد عامَّاً عزيزاً يصنعه الأحياء بأسمائهم وملامحهم وصورهم، سجونهم ومنافيهم، وليس عامَّاً رخيصاً يطوف كشبح فوق الحياة والأحياء. العام الذي يقول لي (وهذا يحصل للأسف): وهل سميرة هي الوحيدة التي غابت؟ وهل أنت الوحيد الذي خسر؟ هذا العام لا أريده. أريد عامّاً يرى بعيون كثيرة، نقيم فيه ونتعرف فيه على أنفسنا، وليس عامّاً أعمى، نعيش فيه غرباء، ولا يكون بخير إلا إذا كنا مطموسي الملامح والحواس والأسماء.
«منزل حبيبي زور!»
لكن بينما تنقضي أربع سنوات على غيابِك أفكر في أربع كلمات تساعد في مواجهته، وفي امتلاكه، كلمات تخصني وتعنيني بقدر ما هي- مثل كل الكلمات- عامة.
أولاها الألم. وهذا شخصي جداً، لا يهدأ ولا ينحل، ولا يُنقل، ولا يتقاسم. لي، ولك، أصدقاء كثيرون، وأعرف كم يشاركون في قصتنا، وأعرف كم يخفون عني ما يشعرون، لأنهم يرون فداحة القصة وثقلها المتزايد، ويريدون حمايتي منها. أنا أيضاً أريد حمايتهم بقدر ما أستطيع. ولا أستطيع دوماً. نتفاهم دون أن نقول كلمة لبعضنا: أن لا يخافوا هم علي، وألّا أخاف أنا. لكن بعد ذلك وقبله، هناك شيء لا ينتقل ولا يتقاسم، لا يقال، ولا يكتب. لا الكاتب الذي وثق بالكلمات ولا غيره يستطيعون نقل وجع الغياب، تمثيل حرفه الجارح، حصره في مكان أو في وقت. يضيع منه في النقل والتمثيل الكثير، كل شيء تقريباً. ينقلب إلى فكرة، إلى دعوة إلى المشاركة والمواساة. لعل هذا هو الممكن، وحوله يجتمع الناس ويتشكل منه مجتمع. المجتمع يواسي، يتشكّل حول المواساة. المجتمع علاج للألم. ربما يكون مجتمعنا يتداعى يا سمور لأنه عانى هو ذاته آلاماً رهيبة، مديدة، تتجاوز قدرة أفراده ومجموعاته على التعبير وعلى المواساة. ينعزلون عن بعضهم، حاجبين آلامهم وأنفسهم الجريحة في نطاقاتهم الخاصة الضيقة. لا يبقى ثمة مجتمع.
وثانية الكلمات هي الأمل. تعرفين أني تطعمت ضد اليأس في السجن، لكن هذا لا يعني بالضرورة قوة الأمل، بل امتلاك حد أدنى منه، ما يكفي بالكاد لمقاومة اليأس والاستمرار في العمل. التطعيم ضد اليأس يعني تجرع القليل منه لمقاومة الكثير، يعني يأساً أقل لمقاومة يأس أكبر. ما لدي من أمل هو هذا اليأس القليل، الضروري للاستمرار. في مثل حالنا المستمرة منذ جيلين، أي طوال عمرينا، أنت وأنا، لا أرى اليأس اليوم نقيضاً للأمل، أراه استماتة، فرقاً بين يأسين. مصارعاً غيابك، أرى اليوم يا سمور أن الأمل قوة أشدُّ جذرية، أشد يأساً من اليأس ذاته، أنه ما لا يتخلى عنا حين يتخلى عنا كل شيء، ولا يستسلم إلا حين نستسلم. هذا الأمل الأساسي رديف للحياة. لكنه لا يلغي أملاً آخر، أكثر إيجابية، أمل نصنعه ونشارك غيرنا فيه حين ننتج ونبدع ونحب، ونغير أنفسنا ونسهم في تغير العالم. لدي الأملان معاً يا سمور. أمل هو القوة الجذرية للحياة، القوة اليائسة للاستمرار، وأملٌ هو فعل إنتاج واختيار وتغيير، وشراكة. غيابك غذّى عندي الأملين معاً: الأمل اليائس الذي هو تطعيم ضد اليأس، والأمل الآمل الذي يخلق الجديد، المبدع، الساعي أبداً من أجل التغيير؛ الأمل الجذري الذي لا يموت، والأمل الثوري الذي يفعم الحياة بالجديد والحرية والمعنى.
«قلبي معو موعود!»
وثالثة الكلمات هي العمل. تتذكرين كم كنت أحب أن أشتغل. لكن هذا العمل هو ترياقي اليوم في غيابك، يا سمور. وهو أدواتي لصنع الأمل. به أصارع غيابك، وبه أحاول تملك هذا الغياب. حصل أن فكرت أن صمتاً لا ينتهي بغير عودتك هو وحده ما كان يمكن أن أعاقب به نفسي على أسوأ خطأ في حياتي، تلك الرحلة إلى الرقة مساء 10 تموز 2013. أن أضحي بكلماتي كلها، وهي كل عملي، على باب غيابك. أن أتوقف عن الكتابة نهائياً. لكن ليس لأني لم أتجاسر على اتخاذ هذا القرار لم أتوقف، ولكن لأن التوقف عن الكتابة يبدو مثل تخلٍ عن السلاح في وسط المعركة. الكتابة لا تساعدني على الدفاع عنك فقط، أو على الاستمرار في الصراع، أو على الحياة نفسها، ولكنها ربما تساعد غيري في وضع مماثل على تحمل ما لا يحتمل.
كان يمكن أن يكون عوناً لي يا سمور لو وقع بين يدي كتب أو نصوص أو أفلام عن حال مثل حالنا، ولو عرفت أي صراعات خبر من ذاقوا ما ذقنا، وأي معالجات طوروا، وأي فشل فشلوه، وأي يأس يئسوه، وأي آمال أملوها، وأي انعتاق محتمل انعتقوه. هل هم كثيرون؟ أؤمن بأنهم ليسوا قليلين. وعلى كل حال علينا التفكير في أنهم كثر، لأنهم يمكن أن يُوجدوا إن لم يكونوا موجودين سلفاً، ولأنهم مرشحون لأن يوجدوا بعدد أكبر في عالم اليوم.
«خايف ما ليلو يعود/ وما يعود حبيبو يهل!»
الحب هو كلمتي الرابعة. وهو ما يوحدني بك وما يعطيني العزم لأن أكون سميرة في غيابها.
أمامي رسمة صغيرة لك ولي، رسمتها منيرة الصلح، وهي فنانة لبنانية، قبل عامين. وكتبت فوقها ضمن إطار خاص: الحب للحرية. وجدتْ في قصتنا إلهاماً يتصل بالحب والحرية. هناك ما هو موجع في القصة إلى أقصى حد، وما هو نادر وغريب، وما هو سري ومحجوب، وما هو غني بالرمزية، وما هو متعدد الأبعاد والطبقات، أعرف ذلك من أناس أصادفهم دون معرفة سابقة، سوريين وغير سوريين. لكن مزيج النادر والموجع والغريب والمخفي والرمزي والمتعدد، هو ما يجعلها قصة أمثولية وعامة، لا تستنفد.
وما يوجب علي المثابرة على سبر أغوراها والبحث عن طرق متجددة لروايتها.
تقول أغنيتك: «… مُحبّك غريب/ وإنت ما بين أهلك!» ليس مُحبكِ غريباً بقدرك أنت، أيتها الحبيبة الأسيرة الغائبة، لكنه غريب أيضاً، لا يعيش بين أهل. كنت كل أهله، يا سمور.
بوسات يا قلبي.
ياسين