لا يكفي ورود عبارة القدر الساحق في نص حتى يمكن نسبة كاتبها إلى «القدرية»، على ما فعل الصديق حسام الدين دوريش في مقالته في حديث النهايات: السياسة بين القدر الساحق والإرادة الفاعلة، التي تتفاعل مع النقاش بيني وبين الأستاذ أيمن أبو هاشم: في مشكلة المطابقة بين الوطنية السورية ونهاية نموذجها السياسي، التي تتفاعل بدورها مع مقالتي: نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية؟. وكذلك مع ردي على أبو هاشم: حق الخسارة.
يبدو لي أن في مقالة حسام مُسارعةً إلى التصنيف والقولبة، لا يسوغها ما بين يديه من مواد. كما لا يسوغ نسبة نزعة إرادوية لي اقتباسُ عبارة تقول إن من مرّوا بما مررنا به لا يمكن أن يوقفهم شيء. ولا يصبح الكلام على «نزعة إرادية، بل وإرادوية هائلة»، و«قادرة على فعل المستحيل» أكثر وجاهة بالإحالة إلى عبارة أخرى وردت في مقالي الأول، نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية، تقول إننا «مضطرون اليوم لأن ننظر بشجاعة وصبر في الشروط التي لا تكفّ عن جعل النظر مستحيلاً: شروط المذبحة».
تكلمتُ على القدر في مقالتي في اتصال مع ما بدا لي شرطا مأوساياً لوجودنا التاريخي المعاصر، يلعب فيه النظام المحلي والدولي دور القدر في التراجيديا الأغريقية. أسلّمُ بأن هذا اختزاليٌّ بعض الشيء، لكن يبقى أنه لا علاقة له بنزعة قدرية تسليمية.
وما بدا لي شيئاً نستحق النقد عليه هو أن شرطنا مأساوي أو تراجيدي، لكننا لم نطوِّر حسّاً تراجيدياً أو وعياً تراجيدياً. تفكيرنا في عمومه يرتاح إلى اليقين، يفتقر إلى الحسّ الإشكالي، يهرب من الصراع، لا يريد أن يعيش تجربة التناقض والتمزّق المأساوية، ويتجنب أن يُعارك نفسه. يأخذ اليقين شكلاً دينياً، بما في ذلك نزعة «جبرية» سابقة للصراع، أو تفاؤلية تاريخية ترى أن التاريخ سائر إلى الأمام في النهاية، وأن كل ما قبل النهاية من آلام له بالكاد قيمة نسبية، أو شكلَ لوم للغير وبحث عن أكباش فداء، أو شكلَ مظلومية وإرهاب، أو شكلَ نظرية مؤامرة، أو حتى شكلاً «علمياً» منحولاً. حسام على علم بلا شك بعبارات توبّخ من «أضاعوا البوصلة»، أو تندد بالأشرار الذين يحاولون إحلال بوصلة أخرى محل البوصلة التي تشير مثلاً إلى فلسطين، أو إلى الماركسية اللينينية. هذا دفاع يقيني عن اليقين، يطرد المأساوي من الوعي، فيجعله غير نافع لشيء. يطرد الحرية أيضاً لمصلحة معرفة مسبقة بالاتجاه الصحيح للعمل وللتاريخ. من ذلك مثلاً أن تجد من يعرف كيف يجب أن تسير الثورة طوال الوقت، واضعاً نفسه فوق الثورة (وهي تعريفاً حدث يمتنع تقديره مسبقاً) وفوق التاريخ. الثورة الصحيحة هي التي تشبه هؤلاء الصمديين الذين لا يكفّون عن مشابهة أنفسهم، قبل الحدث الرهيب وأثناءه وبعده.
أتكلم على وعي مأساوي لأنه ليس لديَّ بوصلة، ولا أعتقد بوجود بوصلات، وأؤمن أنه في الصراع التحرري لا شيء يضمن الفوز مسبقاً، لكن لا شيء يمنع الإقدام. نحن أحرار لذلك بالذات، لأننا نقبل بالانخراط في الصراع دون ضمانة محققة بأن لا نخسر.
وأرى أننا خسرنا بالفعل، وأن ما يمنع من الاستمرار في الصراع هو إنكار الخسارة وليس الإقرار بها. بيد أننا نحتاج إلى مفصل، إلى الانفصال عما قبل من جولات كي نستطيع الاتصال بها. المفاصل في أجسامنا لا تصل إلا لأنها تفصل، والحركة الأرشق ممتنعة من دونها. ما نحتاجه من حركة نشطة، فكرية وسياسية، يقتضي انفصالاً عما يموت واتصالاً بما يبقى حياً. نحن أحياء، بعض أفكارنا تموت. نموت معها إذا عشنا بها وهي ميتة. ومن أَولى ما نقوم به رغم الخسارة في تصوري هو الاهتمام ببناء مساحات حرة أو «مناطق محررة» آمنة للنقاش والتفكير والعمل معاً. نحتاج إلى شبكات أمان تشعر أعدادٌ متزايدةٌ منّا فيها بالثقة وبإمكانية تبادل العون مع شركاء. وبالقدر نفسه نحتاج إلى ما هو طليعي أو رائد في التفكير والنقاش والحساسية، ما يقول جديداً وما يحوز طاقة على توليد الجديد.
غير القدرية، أتبيّنُ نقطة ثانية في نقد حسام لمقالتيّ، تتصل بعدم وضوحي والتباس صياغاتي في شأن ما إذا كان النموذج الوطني الديمقراطي للتفكير في السياسة نموذجاً تفسيرياً فحسب، أم أنه عملي كذلك. في بالي أنه نظري وعملي في آن. في النموذج شرحٌ للأوضاع الاستبدادية ونضالٌ من أجل الديمقراطية، مع افتراض مُضمر بصلاحية الإطار الوطني، وبقابلية الاستبداد للشرح بمدركات من نوع الدكتاتورية والتسلط، مما لم يَعُد ملائماً في رأيي. لا يتعلق الأمر بوطأة أثقل للاستبداد اليوم، بل بتحطم الإطار الوطني للصراع، وبنزع وطنية الدولة وبقدر كبير المجتمع. لذلك فإن التمسك بالنموذج على ما يدعو حسام قد لا يكون المسلك الأنسب. لم يعد ثمة تطابق بين النموذج وبين الأوضاع المستجدة.
يلاحظ حسام، أخيراً، أنه في مقالتي الأولى بدا أن نهاية النموذج الوطني الديمقراطي اقتراح، بشهادة علامة الاستفام في عنوانها، فيما صرت أجزم في ردي على أبو هاشم وأبني نتائج على النهاية. بالفعل، ولعل هذا متصلٌ بعملية التفكير. لا تتجاسر على تقرير شيء حين تتناوله أول مرة، وبخاصة في قضية تهمك، فكرياً وسياسياً ووجدانياً، كالتي يتناولها المقال الأول، ثم تتغلب على مقاوماتك وتستحضر مؤشرات إضافية على أفول عالم الوطنية الديمقراطية وعِلْمها، فيكفُّ الكلام على النهاية عن كونه مجرد اقتراح.
أردت في المقالة عن نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية اقتراح قراءة ممكنة لتاريخ التفكير السياسي «التقدمي» خلال نحو جيلين عاينتهما مباشرة. لهذا غرضٌ نظري، هو العمل على فتح أطار جديد للتراكم، أو وعيُ التغير الحادث ومحاولة صياغته في نموذج جديد. وغرضٌ عمليٌ هو حماية أهدافنا حين يكفُّ ما بيدنا من مناهج وأدوات عن المساعدة في التفكير والنضال، أو يفقد مطابقته للأهداف.