يُرجّح أن يخْلد يوم السبت، السابع والعشرين من تشرين الأول 2018، طويلاً كيوم أميركي مظلم وحزين.

صباح ذلك اليوم، تسلل روبرت باورز إلى كنيس «شجرة الحياة» في إحدى الضواحي الهادئة في مدينة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا، ليصرخ «الموت لليهود»، ومن ثم يفتح النار بسلاحه الآلي على عشرات العزل أمامه، والذين كانوا بمعظمهم من عجائز الحي المترددين على المعبد دورياً. أردى باورز أحد عشر منهم قتلى على الحال، متوسط أعمارهم 74 عاماً، قبل أن تتدخل الشرطة المحلية وتعتقله.

جاءت هذه الفاجعة بعد أيام قليلة من اكتشاف اثني عشر طرداً بريدياً متفجراً كان  قد تم إرسالها إلى عناوين مجموعة من أهم الخصوم السياسيين للرئيس الأمريكي ترامب، بمن فيهم رئيسان ديمقراطيان أسبقان، أوباما وكلينتون؛ ومسؤولون ونواب حاليون أو سابقون؛ إضافة إلى رجل الأعمال الهنغاري-الأميركي اليهودي ومؤسس إحدى أكبر شبكات منظمات المجتمع المدني في العالمOpen Society Foundations، جورج سوروس، الذي طالما اعتبرته التيارات اليمينية الغربية رمزاً ناجعاً للبروباغندا المعادية للعولمة والسامية معاً.

واقعياً، لا يمكن الفصل بين هاتين الجريمتين وبين المناخ السياسي العام السائد في الولايات المتحدة، على أعتاب انتخابات نصفية حاسمة قد تضع مجلس النواب تحت السيطرة الديموقراطية وتسمح لحزب المعارضة أخيراً بفتح تحقيقات برلمانية في تجاوزات ترامب المختلفة. تشكل هذه الانتخابات، كذلك، الاختبار الأول لقدرة ترامب على مواجهة خسارة انتخابية، ومن ثم الاعتراف بنزاهة الانتخابات وقبول نتائجها بصفته المزدوجة كرئيس وكممثل لليمين الأمريكي عموماً، مقابل تشكيكه بصحتها في سابقة بالغة الخطورة قد تهدد النظام الأميركي السياسي والاجتماعي.

لا يمكن لترامب، الذي وصل إلى الرئاسة، عكس جميع التوقعات، ممتطيا موجة من الخطاب الشعبوي العنصري الفج أحيانا والمبطن أحيانا أخرى، لا يمكن له إلا أن ينكس مراراً باتجاه استخدام أدوات مماثلة لتحقيق انتصارات انتخابية قادمة. هكذا أمضى الرئيس الأميركي الأسابيع الماضية في تأجيج مخاوف قاعدته الانتخابية الشتى، مع التركيز على قوافل من مهاجري أميركا الوسطى التي تستعد «للانقضاض»(onslaught)على الولايات المتحدة، حسب تعبيره الغريب والمستفز.

على هذه الخلفية، وجدت أميركا نفسها في أسبوع واحد أمام الجريمتين الاستثنائيتين السابقتين، والفاعل في كليهما رجل مسيحي أبيض متوسط العمر ومحدود الدخل والتعليم؛ العينة الأكثر تمثيلًا لمريدي ترامب. وفيما كان من الواضح أن مرتكب أولى الجريمتين (مرسل القنابل) مؤيد شديد الولاء لترامب لدرجة شيطنة أعدائه السياسيين، يبدو أن الثاني، روبرت باورز، مطلق النار في كنيس بيتسبرغ، معارض لترامب من على يمينه إذا صح التعبير. يدّعي باورز أنه لم يصوت لترامب وأن ترامب ليس «قومياً» أي nationalist، وهو مصطلح قليل الشيوع في الخطاب الأميركي نسبة لغيره، ويحمل معانٍ تلتبس مع دعوات تفوق العرق الأبيض، أو القومية البيضاء. تسعى هذه الترجمة كذلك للتباين مع تعبير الوطنية patriotism الأشيع أمريكيا والأقل إقصائية، على الأقل بين الأمريكيين أنفسهم.حقيقيا وإنما «عالمي»أو مؤيد للعولمة، globalist، محاط باليهود الذين، طالما وُجدوا جواره، أو في البلاد عموما، سيعملون على إيقاف تحقيق أجندته في «جعل أميركا عظيمة مجدداً» ما يختصر بـ MAGA. ربط باورز جريمته بشكل مباشر بغضبه من اجتياح المهاجرين القادم من الجنوب، واستعداده لفعل ما يتوجب فعله لحماية قومه من الذبح (slaughter)، فيما يبدو تحويرا مريضا لتغريدة ترامب قبل أيام.

في حين يسهل العثور على تصريحات وتصرفات لترامب تُعادي المسلمين والنساء والمهاجرين والسود والأميركيين اللاتينيين، لا يمكن وصمه بمعاداة السامية بنفس السهولة أو المباشرة. نشأ ترامب في نيويورك ونسج علاقات طويلة وودية على المستوى الشخصي والمهني مع كثير من يهودها، واعتنقت ابنته الأقرب إليه، إيفانكا، اليهودية قبل زواجها جارد كوشنر.

بالمقابل، خلقت الحركة الترامبية ومغازلتها لأكثر أطياف اليمين الأميركي عنصرية ورجعية على مدى السنوات الثلاث الماضية، ظروفاً مناسبة لخروج المتطرفين المعادين لكل شيء -عدا مسيحيي أميركا البيض- من جحورهم، واقترابهم رويداً رويداً إلى التيار السياسي والإعلامي الأمريكي العام. برع ترامب وصحبه باللعب في المساحات الخطابية الرمادية والعزف على أوتار ثيمات عنصرية معينة، تحتمل تفسيرات ملتبسة متعددة، وتجذب هؤلاء الذي يصغون إليها بحذر دون غيرهم. هكذا، مثلاً، تم تداول شعار «أميركا أولاً» البريء ظاهرياً لغير العارف، والذي كان نفسه رمزاً للحركة الانعزالية الأميركية المحابية للنازية والمعارضة لأي تدخل عسكري ضدها في أوائل الأربعينات. مثله تعبير «العالمي»، الذي يُذكّر بالوصم الستاليني القديم المعادي للسامية، دُوَلي (كوسموبوليتان)، ويفترض معنىً مبطناً يتخيل اليهود طبقة منفصلة عن من سواهم، تمتلك روابط وأهداف عابرة للحدود تتفوق على الولاء لأي وطن يتواجدون على أرضه. يتحلى أبناء هذا التيار المتطرف بصفاء إيديولوجي أعلى من سواهم في اليمين الأمريكي، ويمتد عداؤهم الإثني-الثقافوي لليهودية ليشمل إسرائيل بعجرها وبجرها، ما رمى بهم تارةً تلو الأخرى على شواطئ الأنظمة الممانعة، لنصل إلى مشهد سريالي كخطاب لديفيد ديوك، زعيم الكو كلوكس كلان السابق، في ساحة المحافظةفي دمشق قبل أعوام.

إلى ما قبل جريمة يوم السبت، كان المثال الأفدح على صعود تيار أقصى-اليمين الأميركي هو مظاهرات شارلوتسفيل، فيرجينيا، في آب2017. حينها تقاطر آلاف النازيين الجدد وحلفاؤهم إلى المدينة الجامعية الصغيرة تحت غطاء الاحتجاج على إزالة تمثال روبرت لي، قائد جيش الولايات الكونفدرالية الجنوبي خلال الحرب الأهلية الأميركية، وهتفوا خلال تجمعهم هذا بالموت لليهود بصريح العبارة، مثلهم كمثل باورز مرتكب مجزرة الأمس. كان ارتباط هذه المظاهرات بالنقاش الشائك حول مصير التماثيل والأعلام التي كرّمت رموز الجنوب الأميركي دافعاً لتصريحات ترامب المذهلة، والتي ساوت بين الطرفين في المظاهرات وقتها، ودفعت كبير مستشاريه الاقتصاديين جاري كوين، ذي الخلفية اليهودية، إلى الاستقالة.

لم تكن ردة فعل ترامب الأولية والعفوية بعد مجزرة كنيس بيتسبرغ أفضل بكثير. تنصّل كعادته من أية مسؤولية عن تسميم الخطاب السياسي العام وكرر لوم الإعلام الليبرالي وشيطنته، قبل أن يتبع التكتيك الجمهوري المعتاد بعد حوادث إطلاق النار الجماعي، ويحمّل مسؤولية المجزرة للمشرفين على الكنيس، الذين لم يجهّزوه بالحراسة المسلحة الكافية؛ هذا علماً أن القاتل استطاع أن يصيب ثلاثة من الشرطة الذين وصلوا إلى ساحة الجريمة بجروح قبل اعتقاله.

مع هذه الجريمة، وهي المقتلة الأكبر بحق يهود أميركيين، قُتلوا لأنهم يهود، في تاريخ الدولة الأميركية (ويبقى يوم الحادي عشر من أيلول الأكثر دموية عموما حيث قتل ما يقارب الـ 400 من اليهود الأميركيين يومها)، يبلغ الاستقطاب والتوتر السياسي في الولايات المتحدة أعلى حالاته، مع ترجيح تفاقمه على مدى السنتين المتبقيتين من رئاسة ترامب. خلال السنة الأولى من هذه الرئاسة، 2017، تصاعدت جرائم الكراهية (تخريب المعابد والمقابر أساسا) ضد اليهود بنسبة 57%، الزيادة الأعلى في سنة واحدة في التاريخ الأميركي، وهي بهذا تتفوق حتى على الجرائم ضد المسلمين، التي ارتفعت بشكل حاد هي الأخرى. يحدث هذا في الولايات المتحدة، إحدى أقل دول الغرب، والعالم، معاداة للسامية تاريخياً، حيث لم تكن نسبة هذه النزعة في 2015 تتجاوز الـ 9٪حسب أرقام رابطة مناهضة التشهير، التي لا يمكن اتهامها بالتخفيف من شأن المشكلة بحال.

بينما يبقى اليهود الأميركيون مجموعة غير متجانسة كغيرها من الأقليات في كل مكان، تنقسم في جميع الأمور بما فيها السياسة الأميركية الداخلية والخارجية، تميل هذه الفئة من الأميركيين بمعظمها لمعاداة خطاب ترامب وسياساته (يُستثنى ربما اليهود المهاجرون من جمهوريات الاتحاد السوفيتي، الأقرب عموماً لليمين الأميركي). بالمجموع، صوت 71٪ من اليهود الأميركيين لكلينتونمقابل 24٪ فقط لترامب، وهي نسبة أقل حتى من أقليات أخرى كالأميركيين اللاتينيين (28٪) الذين استهدفهم ترامب بشكل واضح ومتكرر طوال حملته الانتخابية، أو النساء (42٪ لترامب و54٪ لكلنتون). وربما يجدر هنا التوقف لتأمل هذه الأرقام لبرهة، والتفكر بتهافت المعتقدات البالية عن سيطرة غامضة وخبيثة لليهود على مجريات الأحداث وتقلباتها في العالم عموما وأميركا بخاصة، والتي نجح فيها المرشح الرئاسي رغم تصويت ثلاثة أرباعهم ضده.

في مجزرة كنيس (شجرة الحياة) في بيتسبرغ، تتسلل مأساة سوريا، كعادتها الدؤوبة في السنوات الأخيرة، إلى أحداث العالم الجسام. كان القاتل قد هاجم على الإنترنت قائمة من الكنائس التي تتعامل مع منظمة يهودية ساعدت قبل عقود في تهريب اليهود من بطش النازيين، وتساعد اليوم اللاجئين (السوريين وغيرهم) على الاستقرار في الولايات المتحدة، وهو ما اعتبره ذنباً لا يُغتفر، يستحق لأجله «جميع اليهود أن يموتوا»— ويبدو أن هذا، إضافة إلى موجة التخويف من خطر اللاجئين والمهاجرين قبيل الانتخابات النصفية، كان حافزه المباشر لاختيار هدف رصاصاته الزنيمة.

أميركا، إذن، تنضم إلى باقي العالم من الصين وحتى البرازيل، مروراً بأوروبا والشرق الأوسط، في انزلاقها نحو مستقبل مخيف، يشبه الماضي أكثر من اللازم، وتعلو فيه أصوات الشعبوية والشوفينية، بأشكالها القومية والعرقية والجندرية، على ما سواها. تترك آخر تجليات هذا الانزلاق شعوراً خاصاً ممضاً بالعبثية وفشل التجربة البشرية بالتعلم من أخطائها، مهما بلغت شهرة هذه الأخطاء أو فداحتها. أوهكذا فيما يبدو.