تثير الفيديوهات القادمة مؤخراً من مخيم الركبان الفزع في النفس، إذ تظهر في بعضها أمطار غزيرة مخلوطة بالوحل تغمر ممرات ترابية بين خيام مهترئة ومساكن طينية، أو رياح عاصفة غبارية صفراء مُحمرة تعبث بأسمال الخيم البالية وترمي أحجار الجدران المبنية كيف ما اتفق، كما يظهر في بعضها الآخر أشخاص بملابس متسخة بالطين والرمل، يحاولون إصلاح ما يمكن إصلاحه، ويناشدون العالم مساعدتهم أو إخراجهم من ذاك المكان المخيف الذي علقوا فيه.
ليس وجود مخيم كهذا في ظروف كهذه عصياً على الاستيعاب بالنسبة لعموم السوريين، الذين اعتادوا أهوالاً ما كان يمكن لهم أن يصدقوا احتمال وقوعها قبل سنوات قليلة، كما لا يبدو أن أحداً في العالم يشعر بالذهول أو الصدمة، بعد سيل الموت والألم المتدفق عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بلا انقطاع منذ سنوات، لكن بضع دقائق من التأمل الهادئ في مأساة مخيم الركبان على وجه الخصوص، ينبغي أن تقود أي شخص إلى الذهول.
ليس هذا المخيم في منطقة لا يمكن الوصول إليها لأسباب جغرافية أو مناخية، ولا هو معسكر اعتقال أو عقاب جماعي خاضع لسيطرة جهة مدججة بالسلاح، ولا هو في عمق الأراضي السورية بحيث تطوّقه جهة تناصب قاطنيه العداء، فتضرب عليه حصاراً لا يمكن كسره إلا بعمل عسكري.
مخيم الركبان على الحدود السورية الأردنية موجود في منطقة مدوّلة تماماً، تسرح وتمرح فيها وفي محيطها كل دول العالم تقريباً، ويستطيع الأردن ومن خلفه دول شبه جزيرة العرب إيصال المساعدات والدعم إليها دون عوائق. وهو في منطقة محمية من قبل تحالف دولي عريض يضم عشرات الدول، من بينها ثلاث دول عظمى دائمة العضوية في مجلس الأمن، وعلى بعد 25 كم منه تقع قاعدة التنف العسكرية، التي تتمركز فيها قوات التحالف الدولي ومقاتلون من فصائل سورية معارضة.
يقطع نظام الأسد وحلفاؤه الطرقات التي تعبر البادية نحو المخيم، فيصبح سكانه على حافة الكارثة خلال أسابيع قليلة، ويموت بعض أطفالهم جرّاء نقص الرعاية الطبية، ثم يتعرضون للعواصف دون أن يمد لهم أحدٌ يد العون، وكأن دول العالم الأخرى كلّها عاجزة عن تأمين الأغذية والأدوية والمساعدات الإنسانية إلى المنطقة، دون أن تكون عاجزة عن نقل العتاد والضباط والمقاتلين وإمدادهم بالذخيرة والغذاء في المنطقة نفسها.
يتبادل الأمريكيون والروس الاتهامات بالمسؤولية عن الأوضاع الإنسانية الكارثية، التي يستطيع كلّ منهما تخفيفها بكل بساطة. يتابع مجلس الأمن عمله واجتماعاته ونقاشاته، وتتابع الدول العظمى والإقليمية جدالاتها حول اللجنة الدستورية، التي يعيق الخلاف حولها إنهاء مآسي السوريين ومن بينها مأساة الركبان، وكأن تأمين غذاء ودواء ومياه وخيام الجديدة وغرف مسبقة الصنع يحتاج إعلاناً دستورياً، وليس بعض الأموال والسيارات والموظفين. ليس هناك شكّ أن كلفة تحسين أوضاع القاطنين في مخيم الركبان، أقل من كلفة جولة واحدة من جولات جنيف أو أستانا أو سوتشي.
يطرح النظام السوري وحلفاؤه طريقاً واحداً لإنهاء مأساة المخيم، وهو استعادتهم السيطرة على منطقة وجود المخيم، وعودة القاطنين فيه إلى بلداتهم ومدنهم وقراهم عبر اتفاقيات «مصالحة»، أي اتفاقيات استسلام تضع القاطنين فيه ومصيرهم تحت رحمة النظام وأجهزته الأمنية، ومن أجل هذا الهدف ينتهج أسلوب الحصار والعقوبات الجماعية في وضح النهار، عبر منع وصول الشاحنات والإمدادت من مناطق سيطرته، فيما يدعي مندوبه في مجلس الأمن بشار الجعفري أن واشنطن هي التي تعرقل وصول قوافل الأمم المتحدة إلى هناك من خلال عدم تأمين الطريق إليه.
من جهتها، لا تفعل واشنطن ومن خلفها التحالف الدولي الذي تقوده شيئاً لتأمين بديل عن المساعدات التي لا تصل، ولا يسمح الأردن بمرور القوافل عبر أراضيه بذريعة التهديدات التي يسببها المخيم للأمن الأردني، ويعيد مسؤولوه التذكير دائماً بالهجوم الذي أودى بحياة ستة من عناصر حرس الحدود الأردني قرب المخيم عام 2016، وكأنهم يعاقبون سكان المخيم على ذاك الهجوم، متجاهلين أن داعش هاجم المخيم نفسه عدة مرات، وأنه يعتبر القاطنين فيه عملاء للتحالف الدولي.
الصورة باختصار أن روسيا والنظام وإيران يستخدمون المخيم ورقة للضغط بهدف إنهاء ملف منطقة التنف ومحيطها نهائياً، وأن التحالف الدولي ليس مهتماً كثيراً بورقة الركبان، بل لعلّه يفضل التخفّف من عبئها، وأن الأردن يريد أن تعود حدوده مع سوريا كلها إلى قبضة النظام كي يصبح التنسيق الأمني والاستخبارتي أكثر سهولة، حتى لو كلّف الأمر تدمير حيوات عشرات آلاف السوريين، وأن داعش لا يزال يستفيد من التناقضات كلها كي يحافظ على وجوده في مساحات من البادية، وأن الأمم المتحدة لا تستطيع أن تنقذ طفلاً واحداً من الموت ما لم توافق الدول صاحبة «السيادة» على إنقاذه.
القضية معقدة إذن، وهذا التعقيد هو ما يقود المدنيين في الركبان إلى مصيرهم الحالي، وهو التعقيد نفسه الذي أدى إلى تدمير سوريا وتمزيق حياة أهلها، التعقيد الناشئ عن احتقار حياة البشر لصالح احترام سيادة الدول، وسيادة الدول هي المبدأ الأساس الذي قام عليه ميثاق الأمم المتحدة، والذي تصلح المشاهد القادمة من مخيم الركبان لتكون دلالة على وحشيته وانحطاط القائمين على حراسته.