ذكرياتي حول «اختلاف التواقيت» مشوشة، لا أذكر يوماً أنني استطعتُ حصرها، ولا أذكر أيضاً متى كانت آخر مرة ارتديتُ فيها «ساعة». لم أكن «أنيقاً» يوماً، وساعة «الكاسيو» الرقمية، القاسم المشترك بين أبناء الحي الشعبي الذي كنتُ أسكنه في حلب، كانت تطنّ في رأسي عند كل رأس ساعة، ما يجعلني أترك المكان، لذلك اخترتُ لنفسي «روزنامة وقتية» خاصة ترتبط بالمسلسلات التلفزيونية.
كنتُ أخرج إلى عملي مع بداية برنامج «صباح الخير» الذي كان يبدأ في الثامنة والنصف صباحاً، لم يكن مهماً في الحقيقة متى أصل، مسلسلات «إعادة السهرة» هي ما يحدد وقت بقائي، وعند نهاية أي مسلسل كنتُ أستبدله بواحد جديد على قناة أخرى، وهذا ما جعلني أحياناً أتابع أكثر من عرض للمسلسل في يوم واحد. كذلك كان الأمر بالنسبة لمواقيت الخروج من العمل ولقاء الأصدقاء.
استعرتُ مرّة فكرة من أحدهم، كان يحسب الوقت بعدد السجائر، كان يقول إن الطريق إلى البيت يستهلك سيجارتين، والحديث مع حبيبته كان يحتاج لسبعة سجائر وفنجان قهوة. حاولتُ جاهداً تطبيق فكرته إلّا أنني فشلت، فشغفي بالتدخين حال دون الالتزام بتلك الأرقام.
أشدُّ ما كان يقلقني لأيام، هو اقتراب موعد تغيير الساعة، تقديمها أو تأخيرها بحسب التوقيت الشتوي أو الصيفي، لتبدأ الساعة البيولوجية في عقلي بالتأرجح، فالفارق بين التقديم والتأخير هو المعضلة الأولى التي عليَّ حلُّها، كم أصبحت الساعة الآن؟ وهل يسمى هذا تقديماً أم تأخيراً؟ وعليَّ بعدها أن أضبط ساعة المسلسلات بناء على التوقيت الجديد، وأشتُمَ الساعةَ الرقمية التي تضعها بعض القنوات أسفل شاشتها، والتي تجبرك على التفكير من جديد.
كعادتنا نحن السوريون في الاستفادة من الخطأ وتجييره لمصلحتنا، كان الموظفون يتأخرون، عمداً، على وظائفهم في هذا اليوم. سمعتُ مرةً أحدهم يشتم لأن تأخير الساعة جاء في يوم عطلة، ما حرمه من ساعة فوضى يحبّ ممارستها كلَّ عام مرتين، بينما يجد التلاميذ حجة لتمضية ساعة خارج «التوقيت المدرسي». مفرحٌ أن تأتي بعد ساعة، وأن تغيب عن تحية العلم، وعن وجه المدير المكفهرّ.
النكات والطرائف المكرورة نفسها في كل عام، بات المشهد مملّاً، ولكني كنتُ أضحك، لا أعرف السبب الحقيقي وراء ذلك، سوى التمتع بساعة خارج الزمن، هي الفسحة التي تستطيع من خلالها العبث بالوقت، تمدّ يدك إلى عقاربها، ولمرتين سنوياً تستطيع تحريك تلك العقارب، بيدك، لا رغماً عنك.
لم يعد الوقت يعني لنا كثيراً في زمن الثورة. كثيرون من اتخذوا من مواقيت القذائف وإقلاع الطائرات لقصفنا، وقتاً جديداً تداخلَ في تكويننا النفسي، فالطائرات نادراً ما تقصف في الليل، الليل وقت «المدفعية والراجمات»، الصباح الباكر والظهيرة، توقيتٌ ملائمٌ «للموت بقصف الطائرات»، أما براميل المروحيات فقد أَنِسَت بالوقت الليلي، في الغالب، لتجنّب المضادات الأرضية.
16 ساعة فقط في زمن الثورة، أربكت الموت، هي تلك الساعات التي مددنا إليها أصابعنا كي نغير التوقيت، ساعات لم نعشها، هي الحد الفاصل بين زمنين ووقتين، كل ما تغير بعده، أن ساعات «القصف» قد تغيرت، لتصبح الرزنامة الجديدة أنَّ الموت بالطائرات يبدأ في السادسة بدلاً من السابعة، وبالبراميل في العاشرة ليلاً بداً من الحادية عشرة، ويحدث العكس في التوقيت الصيفي. قُتِلَ كثيرون ممن لم يكونوا يملكون «ساعات»، فأخطأوا في توقيت الخروج من بيوتهم أو العودة إليها، بعد أن أصبحت الأراضي الزراعية وبعض الملاجئ القليلة والمغاور، مكاناً يقضي فيه السوريون معظم أوقاتهم، باستثناء تلك التي اعتادوا معرفتها والتي خلت عادة من أشكال الموت المختلفة.
لم تعد المسلسلات ما يحدد خيارتي شخصياً، بعد انقطاع الكهرباء، صار صوت المرصد عبر «القبضة اللاسلكية» هو من يقوم بالمهمة، فحربيُّ «الشعيرات» له مواعيد تختلف عن «الحربي الروسي من حميميم»، وكذلك الأمر «مروحيُّ حماة» وراجمات «الزهراء». سرعان ما يتكيف الإنسان مع «وقته»، كنتُ أقول لنفسي دائماً، حين أختارُ وقت عودتي من العمل، الذي أحتاج فيه إلى «سيجارتيّ حمراء طويلة» للوصول، بين تنفيذ «الحربي، وعودته».
عرفتُ أن اعتماد التوقيت الشتوي والصيفي بدأته ألمانيا إبّان الحرب العالمية الأولى عام 1916، لتتبعها بريطانيا في التزام المواعيد الجديدة. الحجّة التاريخية التي بررت هذا الأمر كانت «توفير الطاقة والاستفادة من الضوء»، خاصة وأن الكلمة الإنجليزية المعتمدة للتعبير عن تغيرات الساعة هي «Daylight saving» التي تعني «توفير ضوء النهار». لكن ربما اختارت الحروب تلك الفسحة القليلة «لترتاح من توثيق الموت»، هذه حجة «أكثر منطقية»، بالنسبة ليّ على الأقل.
منذ أيام، صدر القرار بتأخير الساعة ساعة واحدة، إعلاناً لبدء التوقيت الشتوي في سوريا. هذه المرة بدا الانقسام أكبر، وكأن تلك الساعة «بعدميتها الوقتية التي تساوي اللاشيء»، حدّدت ملامح سوريا القادمة، فحكومة النظام التزمت بتأخير الساعة، والقرار الصادر هو قرار سيادي يأتي من أعلى سلطة هرمية في البلاد. تلك الساعة لم تضف أي جريمة لرأس النظام، هي ساعة لن يندم فيها على أي فعل، ولن تضيف ورقة بحثية أو توثيقاً لجريمة. ربما سينام «الطاغية» قرير العين في هذه الليلة، سيعيش الساعة الثانية عشرة مرتين، وسيحتمل هذا الوقت تكرار ما فعل، لتخطئة التاريخ، وكأننا سنبدأ من جديد. أضحكُ للفكرة، وأنا أرى توافقاً للحكومة المؤقتة مع هذا القرار، لا أستغرب، فطرفا الحرب العالمية الأقوى يوم اعتُمِدَ تغيير التوقيت، اتخذا قراراً مشابهاً، إلّا أن الفرق هنا في القرارات السيادية، إذ انحصرت تلك القرارات بتأخير الساعة، في حين غابت كل القرارات السيادية الأخرى، وأُهمِلَ رأي الجانبين في كل الاستحقاقات التي تخصّ سوريا، التي كان آخرها ما جرى في قمة إسطنبول، وما صدر من قرارات علينا أن نُطيعها، ونمارس دورنا في إثبات هرمية السلطة من خلال قرار «فارق التوقيت».
المجالس المحلية في مناطق «درع الفرات»، هي الأخرى، رأت أن عليها أن تكون في رأس هرم السلطة، حين اتخذت ثلاثة منها قرارات مغايرة، بإبقاء الوقت على حاله، تقرّباً من تركيا الداعم الفعلي لوجودها، وهو ما عبّرت عنه صراحة في بيانها، فتركيا لا تأبه بتغيير الوقت مرتين. أما مناطق «قسد»، فلا أعرف إن كانت اتخذت قراراها بناء على التوقيت الأمريكي الداعم لوجودها، أم أن الوقت قد حان للسير في ركب «حضن الوطن».
الغريب أن القضية في هذه المرة باتت مثار سخرية السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي، فتفتقت قريحتهم عن «كمّ هائل من الألم» في التعبير، من قبيل «أن الأسد يصدر قراراً بتأخير الساعة، في الوقت الذي أخّر وجودُهُ سوريا لمئات من الأعوام»، لـ «يكتفي بقراره السيادي» تاركاً ما يحدث في سوريا لأصحاب القرار الفعلي. أو تلك التي تحدثت عن السخرية من وجود «توقيتين في سوريا، بين مارع وإعزاز، اللتين لا تبعدان عن بعضهما سوى 17 كم»، ليصبح بإمكانك «المرور مرتين بمكان واحد وفي توقيت واحد»، وهو ما اعتبره بعض السوريين «إعجازاً علمياً» يوجب «الحمد والتسبيح». وحلّاً للخلاف، يقترحُ بعض السوريين العمل بالتوقيت الشتوي لثلاثة أيام، وبالصيفي لثلاثة أيام أخرى، ليُترك ليوم الجمعة حرّية الاختيار، فيما تصبح جامعة إدلب المكانَ الوحيد في العالم الذي يعيش بعد المدينة التي تحتضنه «بساعة واحدة»، ويدهشك فيسبوك بأنك قمت الآن بكتابة «بوست»، منذ 59 دقيقة.
انتهى الآن مسلسل «أرابيسك»، وحان وقت العشاء، بحسب مسلسل «ليس سراباً»، لأترك أمر الاختلاف على «التوقيت» لأعلى «السلطات في البلاد».