«إلهي! هل تماديتُ في التجربة؟!»
بَعثرَت يدا «بئر» المرتجفتين قصاصات الورق الملونة على الطاولة، ربما لو كان في وضع آخر لاحتار في جواب السماوات عليه، لكنه يدرك أن أظافر غريزته قد ثقبت جورب الاختبار منذ زمنٍ بعيد، وإلا لما وصل به الحال إلى ما هو عليه الآن.
سمعَ صوت ضحكة مألوفة، التفتَ حوله جَفلِاً باحثاً عن غريمٍ خائن، إلا أنه لم يضبط سوى وجهه في انعكاس صورته على زجاج النافذة، وفمه مفتوحٌ على القهقهة.
«تباً يا بئر، إلهي إلهي!».
شعر بالخدر يسري في جسده منذ ساعات، لكنه لم يتصور أبداً أن يصل الانفصال بين إدراكه وأفعاله إلى هذا الحد.
«لا تحاول، حياتك أقصر من تجربة»، تردَّدَ صوتُ العجوز الذي… الذي… يحاول «بئر» جاهداً أن يتذكر الحدث، لكنه لا يجد سوى صورة لوجه متجعد ينطق بهذه الجملة المرعبة.
– «ماذا لو كان مجرد حلم؟!» سأله طبيبه النفسي هذا الصباح، «مثل الطفل الصغير الذي يطاردك دوماً في كوابيسك صارخاً بالجملة نفسها».
– «لكنني لم أواجه صعوبةً من قبل في التمييز بين الأحلام والواقع».
– «هل تعيد سرد لقائك به لو سمحت؟!».
بَلَعَ «بئر» ريقه الجاف: «في الميترو، لا أذكر أين تماماً، لكن صوت الميترو كان هادراً في خلفيه المشهد، قال لي…».
«قبل ذلك، أين كنت؟!»، قاطعه الطبيب بحزم.
سقطت دمعة من عيني «بئر»، وبالرغم من بساطة السؤال بقي صامتاً.
«إنها المرة الرابعة التي تسرد لي القصة من لحظة لقائك بالعجوز في الميترو، ثم توجّهكَ إليَّ عوضاً عن العمل. لم تخبرني شيئاً عن طريقك من المنزل إلى محطة الميترو، يكلفك هذا ساعة من الزمن وفق ما أذكر».
شرب «بئر» كأس الماء دفعة واحدة، وأحسّ بالماء يضغط كحجر عملاق على شرايين رقبته، تمالَكَ نفسه، لكن صوته غرق في بكاءٍ داخليٍ بعيد.
«ماذا لو أنكَ استيقظت لأول مرة في محطة الميترو؟!»، سألَ الطبيب.
شاهدَ الشابُ الثلاثيني عالمه ينهار فوق رأسه خلال ثوانٍ قليلة، حطّم كأس الماء فوق الطاولة كعقله الذي حطمّهُ استنتاجُ الطبيب، وصرخَ كمن فقد ولداً عزيز «يا ابن القحبة، هل تتسلى بتدميري؟!».
جفلَ الطبيب، تراجع نحو الحائط مبدياً لـ «بئر» أنه لا يخاف منه، إنما يمنحه مساحةً للحركة، معتذراً ونادماً لهذا الاستنتاج المتسرّع.
لم تنفع توسلات الطبيب لمريضه بألّا يغادر حالاً، وأن ينتظر ولو لبعض الوقت ريثما تهدأ أعصابه، لكن الشاب المنهار بادره بالترجي أيضاً، متوسلاً حاجته البقاء وحيداً والسير في الشوارع لاستنشاق الهواء.
«مستحيل» قال «بئر» لنفسه في غرفته مساءً، محاكماً استنتاج طبيبه للمرة المليون منذ خروجه من عيادته.
نظر إلى قصاصات الورق التي تغطي طاولته، وضع رأسه بين راحتيه، وبكى مثل طفل صغير، بكى حتى سرقه النوم على جلسته هذه.
في الحلم رأى الطفلَ الصغير ذاته، متمتماً بالنبوءة التي ما ملّ يوماً من تكرارها منذ وقتٍ يبدو له الآن، حتى خلال نومه واختلال معايير الواقع من حوله، وكأنه أبدٌ كامل.
نحو الساعة الرابعة والنصف استيقظ «بئر» على صوت أذان الفجر، راجع كل ما حصل معه، ولم ينسَ منه شيئاً، لكن ذاكرته ترفض التعرف قطعاً على اللغة الغريبة المكتوبة بخط يده على قصاصات الورق، أو حتى سبب كتابتها.
«أنا مكرُ ما أخاف منه»، قرأ «بئر» بصوتٍ عالٍ العبارة المزخرفة فوق طاولته، وابتسم بقلق لهذا المعنى الـ… «شيطاني»، قال متقززاً بعد بحث قصير عن معنى يليق به.
لا يذكر «بئر» هذه العبارة أيضاً، لكنه يقرأها بلغة عربية سليمة، إلا أن أكثر ما يقلقه فيها ليس نسيانها، إنما تعريفها له كإنسان يبحث عن نفسه ويتجنبها في ذات الوقت، كونها مجبولة من أشياء تخيفه، لذلك «تمكر» هذه النفس للإيقاع به.
وضعَ حكمته المزخرفة على غوغل، النتائج الأولية تقول إن عملية البحث هذه جرت في وقت سابق، ثمّ، لا وجود لها على شبكة الانترنت، ما يعني أنها «حكمته» التي ابتدعها عقله، والأخطر أنها ليست المرة الأولى التي ينساها فيها ويحاول البحث عنها.
منهاراً مرة أخرى، يحاول «المسكين» (كما وصف نفسه خلال هذيانه) أن يثبّت بعض الاستنتاجات البديلة لردم الثقوب في ذاكرته، أهمها أن قصاصات الورق هذه هي محاولة منه لصياغة «حمض نووي» لخوفه/أناه.
«أمثالك يأتيهم يومٌ يخشون فيه أسماءهم وجلود وجوههم»، هذا الجزء الثاني والأخير من حديث العجوز مع «بئر» هذا الصباح، والذي لا يقلّ رعباً عن الجزء الأول، المتطابق مع عبارة طفل كوابيسه.
كيف يمكن أن يحدث ذلك في العالم الواقعي؟! الفكرة بحد ذاتها كفيلة بتشييب شعر «بئر».
قرّرَ أنه ابتكر لغة خاصة لكتابة القصاصات، ما يعني أنه يخشى وصول أحد إليها، لكنه يقف الآن أمامها كـ «آخر»، طلسماً أمام مرايا لغته.
تحاصره وحوش السؤال التي روضها بالريبة، باحثةً في انهياره عن جواب يسهل طحنه بأسنان البراعة المحكمة التي نسي ألاعيبها: «من أكون؟!».
تقول أوراق «بئر» الثبوتية إنه لاجئ سوري في ولاية إسطنبول، تقول شهاداته الجامعية إنه مُبرمج بتقدير جيد جداً، يقول حسابه على فيسبوك أنه مجالدٌ متوحشٌ بحربة السخرية، باسمه البديل بين قوسين «أبجد هوّز»، والذي تحمل علنيته جزءً كبيراً من حياته السرية.
ينظر بضيق إلى قصاصاته، يتفحّصها مرة أخرى بإلحاح، جميعها بلا معنى، إلا أن خيطاً واحداً يربط بينها، «أحرف النفي».
«ما الذي كنت تحاول إنكاره يا أبجد هوّز؟!»، خاطب «بئر» نفسه في المرآة، قالباً صفيحتها المصقولة نحو الحائط.
ما إن مشى خطوتين حتى وقع أرضاً شبه مشلول، «أمثالك يأتيهم يومٌ يخشون فيه أسماءهم وجلود وجوههم»، يا لرعب النبوءة!
«هل تعاطيت أي نوع مخدر مؤخراً؟!» سأله طبيبه النفسي عبر الهاتف، وقبل أن يسمع الجواب طلب منه التأكد من غرفته أولاً، ثم التوجه إلى العيادة مباشرةً.
الساعة السادسة صباحاً. «بئر» يُقدّر تماماً تجاوب الطبيب معه، لكنه يشعر بألم ما في صميمه كونه لمس في سؤال الطبيب عدم ثقة بإدراكه، لم يعد «بئر» الذي حصّنَ ذاته بأبجدية كاملة، مصدر ثقة لحماية نفسه حتى.
تحسّسَ كيس الحشيش الصغير في جيبه، الذي كان قد عثر عليه في أحد دروجه، شعر بالقلق وهو يعبر من أمام الشرطة في محطة مجيدية كوي
«لا أذكر أنني حصلت على شيء كهذا من قبل»، قال واضعاً الكيس أمام طبيبه.
«هل تعلم ما يكون هذا؟!»، استفسر الطبيب.
«نعم، حشيش، دخنته مع أصدقاء لي بضع مرات ليس أكثر» أجاب «بئر» بصوت مخنوق.
«أصدقاء لك؟! لم تخبرني من قبل سوى أنك وحيد في «مطب الحرية» هذا، كما اعتدت أن تصف اسطنبول».
لا يشعر «بئر» بالراحة تجاه طبيبه.
«هل يمكنني التواصل معهم، قد نضطر للتوجه إلى المستشفى الاختصاصي في بكركوي
أخرجَ «بئر» هاتفه، حاول البحث في ذاكرة الهاتف، لكن أعصاب يده لم تساعده، فأعطى الهاتف للطبيب وطلب منه الاتصال ببعض الأسماء.
أمعن الطبيب نظره في شاشة الهاتف، وبنظرة غائمة سأل «متى آخر مرة التقيتهم؟!».
«أمس»، بدى «بئر» غير واثق من إجابته، فتابع قائلاً «على ما آمله طبعاً، أرجو ألا تكون ذاكرتي قد خانتني أيضاً».
– «التقيتهم جميعاً؟!».
– «لا، لا يعرفون بعضهم، التقيتهم فرادى على مدار اليوم».
قرأ الطبيب رقماً، وانتظر جواباً من «بئر».
«هذا رقمي في سوريا»، أجابه.
«يبدو أن أصدقائك جميعهم يحملون هذا الرقم»، قال الطبيب بصوت يائس.
لا يعلم «بئر» كم مرّ من الزمن قبل أن يجد نفسه ممدداً على السرير، والطبيب فوق رأسه، أطاحت جملة الطبيب الأخيرة بوعيه.
«أنا مستغرب، كيس الحشيش مغلق، أنت لم تدخن من هذه المادة، وبكل الأحوال تدخينها لا يفعل بك ما يحدث الآن، لا بد وأن تكون مدخناً متمرساً لفترة طويلة من الزمن حتى تبدأ بالتأثير على ذاكرتك»، أوضح الطبيب.
أنكر «بئر» بهزّ رأسه.
وضع الطبيب علبة كرتون مربعة فوق طاولته، وقلبها بحركة واحدة ملقياً ما فيها. غطت أكياس الحشيش ربع الطاولة تقريباً.
«هل لديك فكرة عمّا يكون هذا؟!»، سأل الطبيب
«حشيش» أجاب «بئر».
ضحك الطبيب «لقد جلبتها لي يومياً على مدار عام كامل، لم تدخن أي منها، حتى هذه المرحلة من العلاج، أنت شخص يدرك تراتبية المراحل، وبارع بتصميمها بشكل مرعب، تقوم بِحَبك قصتك بمنتهى الأناقة، انهياراتك، بكاءك، بحثك المضني، حتى اللمسة الأخيرة بإعطاء حالتك خلفية إدمانية».
«هل تشعر بالخوف مني؟!»، سأل «بئر» بصوت وقور.
«إنه لا يفارقني»، أجابه الطبيب.
ولو كان أحدٌ في العالم حاضراً على قصّة الرجلين، لشعر أن الكون ارتدى قميصه بالمقلوب، حتى تبادل البطلان أدوارهما بهذه السرعة والسلاسة.
تناول الطبيب قصاصة ورق ملونة من مشبك الورق، كتب بعض الكلمات المبهمة الخالية من المعنى، وطلب من «بئر» الاحتفاظ بها في منزله، ثم أعطاه ورقة أخرى طالباً منه عدم قراءتها إلا إذا شعر بأنه يعيش في واقعه حلماً سبق أن رآه.
رمى «بئر» بالقصاصة الجديدة فوق طاولته حين عاد إلى المنزل مساءً، وغرق في نومٍ طويل.
على هدير الميترو في خلفية المشهد صباح اليوم التالي، أخرج «بئر» ورقة الطوارئ التي كتبها طبيبه بعد أن قابل العجوز، وقرأ «إذا لم تتمكن من قراءة قصاصات الورق في غرفتك، فأنت في خطر».
«يا للمكر!» كان ليقولَ الفراغُ المملوءُ بِشِبَاك الخديعة بين «بئر» وطبيبه، لو أتاحت له الحياة أن ينطق لمرة واحدة فقط.
عاد «بئر» سريعاً إلى منزله، أخرج من كرتونة مُخبّأة تحت تخته كيس حشيش محكم الإغلاق، ووضعه في أحد دروجه، ثم انطلق سريعاً باتجاه طبيبه، لكن عوض الدخول إلى العيادة استمرّ بالصعود نحو الأعلى.
أمام النافذة في العيادة وقف الطبيب منتظراً مريضه، مفكراً بالسبب الذي يمنع «بئر» في كل مرة من إيقاف بحثه عن المعنى، معيداً حساب احتمالات إقدام «بئر» على قتله لكسر السلسة، ومتلذذاً بعض الشيء في هذا التواطؤ بينهما على تكرار ذلك يومياً.
وبينما كان يفكر بذلك، هوى جسدٌ بسرعة من أمام النافذة، سمع صوت ارتطامه المكتوم على الإسفلت، وولولة الناس بعدها.
ودون أي حاجة للتأكد، ركض نحو أحد دروجه بعطش دفين، حيث ترك له «بئر» ورقة صغيرة منذ أول مرة التقيا فيها معاً، وطلب منه عدم قراءتها حتى موته.
«تذكّر، أنك لم تنطق باسمي مرة واحدة خلال علاجي، ولم تسمع اسمك يخرج من فمي أبداً، أيّها اللاشيئ الذي يزداد حضوره فجاجةً، كلما حاولتُ نفيه».
«هل لعقلٍ بشريٍّ أن يتخيل انتقاماً مملوءاً بالحقد أكثر من هذا؟!»، تمتمَ الطبيب الذي بددته حقيقة فقدانه للأسماء، وكأنه بقايا حلمٍ من ليلة أمس.
العجوز المنتظرُ لقاءَه المقبل مع الشاب «المسكين» في محطة الميترو، انتابته رعدةٌ في مفاصله، ليست رعدة المرض، بل رعدة الخواء المفرط، حتى خال للحظة أنه سيبتلع العالم بأكمله، ولأول مرة خلال حياته المديدة كلها، صعد في الميترو الذي رآه ملايين المرات يمرّ من أمام عينيه، وانتحب على جميع المقاعد الفارغة وهو يقول «قبري! قبري! أريد قبري!»، وبقيت هذه الشهوة معه إلى الأبد.
أثناء انطفاء الحياة في عيني «بئر»، تذكّر، تذكّر بحسرة، عَلَكَ الندم حتى آخر ارتعاشة في عروقه، تذكّر خوفه وهو صغير من رجلٍ لا يعرفه، آتياً من الممر المفضي إلى الغرفة التي كان ينام فيها مع عائلته، موقناً تماماً أنه يحدق به برعبٍ شديد هو الآخر، رغم أن وجهه ظل مغموراً بالظلام دائماً.
في هذه اللحظة التي نشر فيها الظلام تعاويذه في عينيه، انحسرت الظلال عن وجه الرجل الغريب في ذاكرته، وما كان يظنه هلوسات كلامية، وتأتآت رعب تُفلتُ من فمه وهو يرى أهله غارقين بالنوم، غير عابئين بالدخيل، تماسكَ فجأة على متن صوته الطفولي الساذج، وسمع نفسه صارخاً من رماد ذاكرته التي سينفخها الموت بعد قليل:
«لا تحاول، حياتك أقصر من تجربة، أمثالك يأتيهم يوماً يخشون فيه أسمائهم وجلود وجوههم».