لم ألتقط الفكرة الأساسية في نقد الأستاذ أيمن أبو هاشم لمقالتي عن نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية. أُقدِّر أنه يسجل اعتراضاً تحفزه دوافع كفاحية وسياسية على القضية التي تناولتها مقالتي، نهاية النموذج الوطني الديمقراطي في التفكير السياسي. سأوضح هذه القضية قليلاً قبل أن أعلق على ما بدت لي النقاط الأبرز في نقد أبو هاشم.
رأيتُ في المقالة المنقودة أن نموذجاً للتفكير في السياسة في سورية وفي نطاق عربي أوسع لم يعد يسعف في فهم أوضاعنا السياسية، وأنه تنفلت منه وقائع متكاثرة، منها الدولة المخصخصة وظهور المسألة الاجتماعية الجديدة وصعود الإسلامية الجهادية وأشكال من الاحتلال الأجنبي ما بعد استعمارية، ولعله كان يجب أن أضيف أزمة عالمية للديمقراطية وتراجع الثقة بالسياسة ذاتها عالمياً، وذلك بفعل تضافر العمليات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والمعلوماتية للعولمة. وعطفت ذلك على انطواء نموذج أسبق للتفكير السياسي هو النموذج القومي الاشتراكي الذي كان مهيمناً في تفكير المثقفين وتشكلت حوله منظمات وأحزاب سياسية، وامتاز عن النموذج الوطني الديمقراطي بأنه كان سائداً سياسياً في العديد من البلدان العربية، منها سورية بالذات حتى حل محله حافظ الأسد كمشروع وطني في مسار عقد السبعينات من القرن الماضي. استخدمت مفهوم النموذج المرشد بالمعنى الذي بلوره مؤرخ العلوم توماس كوهن في كتابه بنية الثورات العلمية، ولم أفصل في المفهوم لأني سبق أن فعلت في مادة سابقة: الباراديغم السلفي الجهادي. النموذج المرشد أو الباراديغم هو نسق من المفاهيم والممارسات الناظمة لمجال علمي في زمن بعينه، نستند إليه لفهم ظواهر هذا المجال، قبل أن تتواتر ظواهر تتحدى طاقة النموذج التفسيرية فيدخل في أزمة، وقد يتولد نموذج مرشد جديد من محاولة استيعاب الظواهر الجديدة والبحث عن مخارج من الأزمة. المفهوم ظهر أساساً في سياق دراسة تاريخ العلوم المضبوطة، لكنه مثل مفاهيم كثيرة غيره ترحّل إلى مجالات أخرى يستخدم فيها بقدر متفاوت من الملاءمة.
أردت من الكلام على نموذج مرشد، وطني ديمقراطي، الإحالة إلى وقائع الطغيان التي أخذت منذ سبعينات القرن الماضي تنفلت من قدرة النموذج القومي الاشتراكي على الرؤية، وإلى التفكير في الدولة ونمط ممارسة الحكم، وإلى النضال من أجل الديمقراطية كهدف، وإلى التحليلات والأفكار التي تطورت منذ ثمانينات القرن العشرين حول الاستبداد والقمع والسجون وأوضاع الاستثناء، وقضايا الحريات العامة. هذا النموذج دخل في أزمة تفجرت مع الثورات العربية، وبخاصة في سورية، مع تدهور البنية الوطنية للدولة، وللمجتمع ذاته. فإذا ثابرنا على النموذج جازفنا بإغفال تطورات ناشئة، كالتي ذكرتها للتو، لا يبدو مؤهلاً للتعامل معها.
يتساءل أبو هاشم «كيف يمكن لنا كسر هذا الإغلاق، والتفكير بملء الفراغ الناجم عن نهاية النموذج الوطني الديمقراطي وفق هذه المقاربة للواقع، وهي تغلق تفكيرنا بدورها على معضلة النهايات القاطعة سيما وأن البديل عن الوطنية السورية، لم يأتِ عليه الكاتب». لا أعرف كيف يمكن «ملء الفراغ»، ولا يلزم أن يكون لدينا بديل واضح حتى نقر بأزمة تعصف بما بيدنا من أدوات للتفكير والفعل. اقترحت شيئاً ربما يساعدنا في استعادة زمام المبادرة: العمل على الإحاطة بالمسار الكلي لتغيرات تاريخنا السياسي والفكري والاجتماعي الحديث والمعاصر، وضرب من الاستعداد الفكري النفسي، الجذري والمستميت، سمّيته الحس المأساوي. أفهم أن لا يرضي ذلك مزاج النضال المستبشر، ولست «مُناقصاً» بحال، لكن ليس المسلك الأسلم في تصوري هو تحكيم اعتبارات نضالية يحكمها هي ذاتها الخوف من الفراغ في ضرورات تعريف وضعنا وموقعنا اليوم. خاصة وأننا خسرنا جولة الثورة خسارة حاسمة.
وخلافاً لما يوحي الأستاذ أيمن لم أقم علاقة «تماهٍ» بين «فشل القوى التي حاولت تجسيد المشروع الوطني الديمقراطي، والفراغ الناجم عن فشلها» وبين «التساؤل عن فرص بقاء الوطنية السورية». إن كان من تماه في هذا الشأن فهو بين مصير الوطنية السورية وبين فشل الثورة والطور المتقدم الحالي من خصخصة الدولة ونزع وطنيتها، ومع تقطع جغرافية البلد ووقوع مناطقه المختلفة تحت احتلالات مختلفة. لا نستطيع تجنب السؤال عن فرص الوطنية السورية في البقاء ونحن نرى الروس والإيرانيين وميليشيات متنوعة تابعة لهم تسيطر على «سورية المفيدة»، والأميركيون واتباعهم على مساحة واسعة من الجزيرة، وتركيا على بعض الشمال السوري، ومنظمة القاعدة على بعض إدلب، والمصير غير المشرف لتشكيلات المعارضة السورية التي أنحدر شخصياً من أوساطها. ولا أتفق مع الأستاذ أيمن في قوله بأن في التساؤل عن مصير الوطنية السورية «تشاؤمٌ لا يسمح به العقل السياسي». لست متشائماً شخصياً، بل وأجد التشاؤم موقفاً تافهاً، ولكن بالضبط لأنه أقل يأساً بكثير مما يلزم وأكثر أنانية. لا نستطيع الدفاع عن الأمل في تصوري دون أن نيأس كفاية ونستمر في الصراع دون ضمانة مسبقة بالفوز. وأعني يأس الاستماتة وليس القنوط والتسليم. هذا ما أعنيه بالحس المأساوي على كل حال، وهو يقع وراء التشاؤم والتفاؤل، في مزيج من تقبل المصير والأمل. «البديل» الذي يخشى أبو هاشم من فقدانه إن نظرنا بعين الجد إلى نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية أو تساءلنا عن مصير الوطنية السورية لا يبدو لي الحارس الأمثل للأمل. أخشى بالأحرى أنه يتوافق مع مخادعة النفس تجنباً لمواجهة مأساوية. «القدر الساحق» الذي تكلمت عليه في المقالة المنقودة لم يكن تعبيراً بلاغياً، إنه إشارة إلى الصفة التراجيدية الجوهرية لتاريخنا المعاصر.
أشارك الأستاذ أيمن التطلع إلى «مناخات جديدة للتفكير والنقاش العام حول أسس ومرتكزات إعادة صوغ الإجماع الوطني، وانطلاق ديناميات التفكير السياسي، بالبحث عن حوامل وطنية ديمقراطية تتجاوز صيغتها النخبوية». وأرى أن «أطروحة التحرر في الثورة السورية» هي بالفعل ذخرنا العظيم لصراع متجدد من أجل التغيير والأمل. لكني أميل اليوم إلى إعطاء خسارتنا حقها من الاحترام، وإعطاء أنفسنا فرصة للحداد إن استطعنا، وتفادي المسارعة إلى «مراجعات» فجة، كما إلى استئناف المعركة كأن شيئاً لم يحدث. لقد حدث شيء رهيب، لما نُحط به بعد، ولقد خسرنا كل شيء.
وللخسارة منطقها: يفقد قيمته العتاد الفكري والسياسي والتنظيمي الذي خرج من الصراع خاسراً، وهو في تقديري النموذج الوطني الديمقراطي للتفكير في السياسة والدولة والمجتمع.
وتتصل نقطة أخيرة من هذا التعليق على نقد أبو هاشم بإشكالية استيعاب الإسلاميين التي أعتقد أنها تنطوي مع انطواء النموذج الوطني الديمقراطي. ليس المقصود بالاستيعاب هو أن نستوعب نحن، الوطنيين الديمقراطيين، الإسلاميين، بل الدفاع عن تصور استيعابي للدولة والسياسة، أعني نظاماً سياسياً ديمقراطياً، يكون للإسلاميين فيه الحق في العمل العام إلى جانب غيرهم وعلى قدم المساواة مع غيرهم. في مواد منشورة تناولت هذه القضية على ضوء سنوات الثورة السورية (من أجل سياسة ديمقراطية جذرية في شأن المسألة الإسلامية ؛ وحروب السيادة والتسوية المؤسسة للسياسة ؛ وفي المسألة الإسلامية). وقد تراءى لي فيها أن إشكالية الاستيعاب قد انتهت بفعل تحوّلين أساسيين: إعادة هيكلة الحقل الإسلامي لمصلحة السلفية والجهادية، أي صعود السياديين وما يتراوح بين انحدار السياسيين وبين صعود الوجه السيادي لهم، ثم تغير مواقع الإسلاميين في سياق الثورة السورية من ضحايا إلى معتدين أو مستأثرين. انطواء إشكالية الاستيعاب هو أحد أوجه نهاية النموذج الوطني الديمقراطي. وقد نوهت في المقالة المنقودة إلى أني سأخصّ هذه القضية الخاصة بإشكالية الاستيعاب بتناول مستقل، عسى في الأسابيع القادمة.
لا يبهجني، لا كناشط ولا ككاتب، أن ينطوي نموذج الوطنية الديمقراطية دون تحقيق شيء من وعوده. أعتقد أن محتواه القيمي سيجد طريقه إلى البقاء حياً في ما قد تظهر من تيارات تفكير وعمل تحررية في السنوات المقبلة، لكن لغته ومنظماته وحساسيته ستصير جزءاً من التاريخ.
من حيث نحن اليوم، أعتقد أنه أمامنا على الأقل عشر سنوات لا تُطاق، وبعدها سنوات صعبة طويلة. لكن من مرّ بما مررنا به لا يمكن لشيء أن يوقفه.