«هذه المرة لم نحزم حقائبنا، إلى أين سنهرب؟» يقول أبو حسين وهو يضم صغاره، «ربما ستكون هذه المرة مقبرة الأسد»، في الوقت الذي يتناقل موالون لنظام الأسد فرحهم بالمعركة القادمة لإبادة الملايين من «الإرهابيين»، بينما يكتفي أبو محمد (نازح من حمص) بالحوقلة «هذه المرة لن أغادر معرة النعمان» حيث حط به الرحال. «تعبنا من كل شي، تعبنا من الموت والقصف، لكن التهجير كان التعب الأكبر والأشد قسوة»، تضم أم محمد أحفادها التي نجت بهم من حلب بعد استشهاد ولديها لتخبرنا «هدول الأطفال بلا ذاكرة، كل ما جينا على مكان بيهجرونا منو، ما عاد فيه حلب، وما بعرف إذا رح يضل فيه إدلب، وين بدنا نروح؟».
ليست جديدة علينا تلك المشاعر المتناقضة، ولم يفارقنا القلق خلال الثورة السورية منذ بدايتها وحتى اليوم، ذلك القلق الذي رافقنا قبل الدخول في كل معركة، وعند انتظارنا لكل مؤتمر دولي يُعقد حول قضيتنا السورية، ونكون نحن الغائبين الوحيدين عن مجرياته، تُميّع قضايانا وتغيب المحاسبة عن أذهان المجتمع الدولي ليقتصر حديثهم عن إيجاد ممرات آمنة للمدنيين، إن سمحت لهم قوات الأسد وحلفاؤها، واستجابة طارئة لا تتعدى خيمة، إن وجدت أيضاً، وبعض السلال الإغاثية.
هذه المرة، ومع تصاعد الحديث حول معركة سيخوضها نظام الأسد وميليشياته في إدلب وعلى مراحل، يتكرر السيناريو الدولي بل يكاد يتطابق من حيث ردود الأفعال بما حدث منذ أشهر قليلة في درعا وقبلها في الغوطة الشرقية وحلب، ليطل علينا ديمستورا ثانيةً وهو يعرض خدماته بمرافقة المدنيين عبر الممرات الآمنة التي سيجري الاتفاق عليها مع حكومة الأسد، وبمباركة تركية روسية، وليرسل لنا من خلال مؤتمر صحفي رسائل تفيد أن «جبهة النصرة سابقاً»، هي من حالت دون وجوده مع قوافل المهجّرين قسراً من حلب آنذاك. الفارق الوحيد هنا، هو نسيان تحديد وجهة هذه الممرات!
أثناء الحملة الهمجية من قبل قوات النظام على مناطق حلب الشرقية نهاية عام 2013، والتي سُميت «حملة البراميل»، حزم كثر من أهالي هذه المناطق ما تيسر لهم من أمتعتهم وتوجهوا إلى محافظة إدلب، ليجدوا ملاذاً شبه آمن في بلداتها وقراها، وبعض قرى الريف الغربي من حلب، ومع اختلاف وجهات النظر للنازحين حول الحياة في إدلب، بين الشكر والسباب نظراً للغلاء واستغلال بعض أصحاب المنازل لحاجة النازحين الجدد، إلّا أن الجميع وجد في هذه البقعة الجغرافية ملاذاً آمناً لعوائلهم يقيهم شر البراميل المتفجرة، ويمنع عنهم التفكير في العودة إلى «حضن الوطن» كخيار وحيد وُجد فيما بعد، واختاره الكثير من أبناء الثورة السورية في مناطق مختلفة، على مضض، فـ «العودة إلى حضن الوطن تعني اللجوء إلى القاتل» وما حدث بعدها من اعتقالات قام بها عناصر الأمن والشبيحة للعائدين، أو قتلهم أو الزج بفئة الشباب منهم في معارك جديدة يخوضها النظام ضد شركاء الأمس في الثورة والحرية، ليكونوا وقود هذه المعارك وصفوفها الأولى.
«طريق الكاستيلو باتجاه كفر حمره للوصول إلى الريف الغربي من حلب وقرى إدلب كان متاحاً، واتخاذ القرار بالخروج من الأحياء الشرقية في حلب لم يكن يحتاج إلّا للحظات وبعض الثياب التي كانت دائماً محزومة بحقائب جاهزة، كنا نجلس على حقائبنا» يقول أبو حسين الذي خرج بعائلته إلى بلدة الدانا وقتها، وخيار العودة أيضاً كان متاحاً، فـ «كلما ساد بعض الهدوء في مناطقنا، شاهدت النازحين يعودون إلى مدينتهم وبيوتهم»، كانت قرى إدلب «المحطة التي نهرب إليها حينما يشتد بنا الخوف»، وعلى الرغم من استهدافها الدائم «كانت آمنة بشكل غريب، ربما للمساحات الترابية الكبيرة التي تمتلكها وغياب الأبنية الطابقية، ولكن الأكيد أن الإنسان يحتاج إلى مكان آخر، أي مكان، كي يتخلص من عقدة الذنب تجاه أطفاله، يهرب بهم من الجحيم ويسلم أمره لله».
استهدفت براميل الأسد دوار الحيدرية في حلب، الدوار الذي تحول في هذه الفترة لما يشبه «كراج الانطلاق» يضم حافلات وسيارات تقلّ النازحين إلى خارج المدينة. الحصيلة كانت عشرات الشهداء، إلّا أنهم «قتلوا وهم مبتسمون» يحكي أبو حسين، بعد أن بات خيار الخروج من المدينة يشبه إلى حد ما الوصول إلى الجنة.
الممر الآمن الوحيد كان من صناعتنا، فالمناطق الممتدة على طول الطريق كانت محررة، أعلام الثورة كانت تقف على الحواجز، ليس مهماً من كان يقف على تلك الحواجز، ما هي انتماءاتهم أو خلفياتهم الفكرية والدينية، كنا نكتفي بذلك الشعور الآمن الذي يمنحنا إياه ذلك العلم، فالممر آمن والطريق صحيح والوجهة كانت إدلب المحررة.
في نهاية شهر آذار من عام 2015، أصبحت إدلب ثاني المحافظات السورية المحررة بشكل كامل من قوات الأسد، بعد الرقة، إلّا أن التحرير هذه المرة كان بطعم مختلف، فلتحرير إدلب أهمية استراتيجية كونها تمثل الامتداد الجغرافي الوسطي بين مدينة حلب وحماة واللاذقية، يضاف إلى ذلك اتحاد معظم الفصائل المسلحة فيها تحت مسمى «جيش الفتح»، الذي شكل حلقة أمان ودعم في نفوس المدنيين والمقاتلين، على حد سواء، وبات الحديث عن تحرير سوريا انطلاقاً من إدلب يعلو في الأوساط الثورية لتشكل إدلب وقتها القاعدة العسكرية الأكبر. يقول أحمد سليمان «مع تشكيل جيش الفتح وتحرير إدلب، كان الحلم بالنصر أقرب ما يكون، في متناول اليد، رأينا فيه مشروعاً سورياً يختلف عن تنظيم الدولة ببنيته المختلفة عن مبادئ الثورة، وعلى الرغم من وجود فصائل إسلامية (متشددة) في تكوين جيش الفتح، إلّا أن الرهان كان مشروعاً على التماهي ضمن مشروع وطني، وجيش وطني، يقود دفة الثورة السورية».
لم يكن أهالي حلب وحدهم من وجدوا في إدلب ذلك الملاذ الآمن، بل ضمت المحافظة عدداً ليس بقليل من ثوار مدينة حماه، والهاربين من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة (ريف حلب الشرقي –الرقة –دير الزور)، إضافة إلى النازحين القادمين من مختلف المناطق التي تسيطر عليها قوات الأسد.
الممر الثاني
طُرحت مدينة إدلب ومنذ عام 2016، ومع حصار قوات الأسد للكثير من مناطق المعارضة كورقة حل وملجأ للثوار وعائلاتهم، وكل من لا يريد إبرام مصالحة مع قوات الأسد أو البقاء تحت حكمها، وتحوّل النزوح إلى إدلب إلى خيار إجباري تفرضه القوى المسيطرة على الملف السوري (روسيا –إيران –تركيا) بمباركة من المجتمع الدولي والأمم المتحدة وعرّابها ديمستورا، ولتغدو إدلب مكاناً لتجمع الثوار والمقاتلين وعائلاتهم، وبنداً دائماً في اتفاقيات المصالحات والتهجير القسري بينما عدّها موالون لنظام الأسد «مكاناً لتجميع الإرهابيين، ريثما يتم لقواتهم السيطرة على باقي المناطق، ومن ثم التفرغ لإحراقها بمن فيها».
البداية كانت من حلب، إذ وثقت وحدة التنسيق والدعم خروج 37500 نسمة إلى إدلب وريف حلب الغربي في كانون الأول 2016، إلّا أن عدد المهجرين من حلب يفوق 400 ألف نسمة، توزعوا على قرى وبلدات ومخيمات محافظة إدلب.
تلا ذلك خروج 2500 نسمة في أيلول 2016 من معضمية الشام نحو إدلب؛ و1400 نسمة من قدسيا والهامة (شمال غرب دمشق) في تشرين الأول 2016؛ و8000 نسمة بينهم 700 مقاتلاً من داريا بموجب اتفاق آب 2016 والذي استمر حتى بداية 2017.
في عام 2017 استقبلت إدلب 26000 نسمة من حي الوعر بحمص (آذار 2017)؛ و158 مقاتلاً من الزبداني (شمال غرب دمشق) في نيسان من العام نفسه؛ و3350 نسمة من مضايا بمحافظة ريف دمشق (ضمن اتفاقية المدن الأربعة) بينهم 400 مقاتلاً و1000 نسمة من مخيم اليرموك بدمشق.
كما هُجّر باتجاه إدلب 1022 نسمة من حي برزة في دمشق بينهم 568 مقاتلاً في أيار 2017؛ و 1500 نسمة من حي القابون الدمشقي في الشهر نفسه؛ و2100 نسمة من وادي بردى (شمال غرب دمشق) في كانون لثاني 2017.
ودخلت إدلب في 15 أيلول 2017 ضمن مناطق خفض التصعيد بعد توصّل الدول الضامنة لمسار أستانة (روسيا –تركيا –إيران) إلى اتفاق على إنشاء منطقة خفض توتر في المحافظة، ونشر مراقبين فيها لضمان احترام وقف إطلاق النار بين المعارضة وقوات النظام، وعملت تركيا (الضامن لقوى المعارضة) منذ بداية الاتفاق على نشر نقاط مراقبة (12 نقطة متوزعة في إدلب وريف حلب الجنوبي وريف حماه الشمالي)، إلّا أن هذه النقاط لم تستطع إيقاف الضربات الجوية التي استهدفت قرى وبلدات المحافظة دون أي رد.
الممر الأخير
مع بداية 2018، شهدت مناطق المعارضة السورية انحساراً كبيراً، فسيطرت قوات الأسد على غوطة دمشق، وتم تهجير أبنائها بموجب اتفاق مصالحة قضى بخروج من لا يريد البقاء تحت حكم الأسد إلى الشمال السوري، كما سيطرت تلك القوات على ريف حمص الشمالي والجنوب السوري الثائر (درعا –القنيطرة) لتشهد إدلب موجة نزوح جديدة: 48633 من جنوب دمشق؛ و32257 من ريف حمص الشمالي و10516 من الجنوب السوري. إضافة إلى سيطرة قوات الأسد بداية عام 2018 على مناطق واسعة في ريفي إدلب وحلب الجنوبيان أدت إلى نزوح مئات الآلاف من أبناء هذه القرى إلى إدلب وريفها الشمالي وقرى جبل الزاوية.
وبلغ عدد سكان المحافظة بحسب منسقي الاستجابة في الشمال السوري 3867633 نسمة بينهم 829437 نازحاً حديثاً خلال عام 2018 و600 ألف نازح في المخيمات و53 ألف نازح (عراقي وفلسطيني) و550 ألف نازح قديم.
يسرّب نظام الأسد في كل يوم مقاطع فيديو حول الحشود والتجهيزات العسكرية على أطراف مدينة إدلب، ويكرس المجتمع الدولي هذه المخاوف من خلال إطلاق يد روسيا في التعامل مع الملف السوري، بينما لا تقنع التطمينات التركية المدنيين في إدلب، الذين يعيشون حالة من الخوف والترقب أدت إلى شلل شبه كامل في الحياة العامة لأبناء المدينة ومهجريها، وتستعد الفصائل العسكرية لخوض معركة وجود هذه المرة، فلا ممرات آمنة ولا إدلب جديدة يستطيع المجتمع الدولي نقل ما يقارب 4 ملايين نسمة إليها.