أصدرت مؤسسة اتجاهات-ثقافة مستقلّة، بالتعاون مع دار نشر ibidem في شتوتغارت (ألمانيا)، كتاباً باللغة الإنكليزية بعنوان مقاربات مختلفة في الواقع السوري (بحث في حقول متنوعّة في الثقافة السوريّة)، 2018؛ ويضم أربعة أبحاث تتنوع في حقولها واختصاصاتها بين دراسة المكان الأنثروبولوجي؛ الخطاب السياسي؛ النقد الفني؛ والتربية والتعليم. الكتاب من تقديم د. حسان عباس، والأبحاث الأربعة التي يضمها الكتاب هي من نتاج برنامج «أبحاث لتعميق ثقافة المعرفة» السنوي لمؤسسة اتجاهات-ثقافة مستقلّة، وهو برنامج بناء قدرات وإتاحة فرص تفرّغ لعشرة باحثين وباحثات من السوريين والسوريين-الفلسطينيين، بإشراف مباشر من باحثين مختصين في المجال الثقافي يشكلون اللجنة العلمية للمشروع. يذكر أن الباحثين المشاركين في المشروع يتبعون دورة تدريبية تقيمها المؤسسة بهدف التدريب ورفع المهارات.

البيئة المعمارية للجوء السوري في لبنان- إيلينا عويشق

ينطلق البحث من أهمية «المكان»، إذ تكتب الباحثة عويشق:«البيئة المعمارية هي من أهم الطرق التي يصرح عبرها الأفراد والجماعات عن هويتهم، كما أنها أحد أشكال تجسد العدالة الإجتماعية بشكلها الملموس والمرئي، وتشكل عنصراً أساسياً في تشكيل الهوية الجامعة. وبالتالي فإن العلاقة بين الإنسان والمحيط لا تقتصر على عكسها لإحتياجاته المادية فقط، ولكن تمتد إلى ما تعكسه وتلبيه من احتياجات نفسية، ثقافية، واجتماعية».

يتناول البحث مخيم الجراحية في سهل البقاع في لبنان، الذي تشكّل عام 2011. ويشرح القسم الأول من البحث، وعنوانه «التوصيف الفيزيائي للمخيم» المقومات الفيزيائية والمرئية لأرض المخيم، كما يشرح الفعاليات التي يستفيد منها اللاجئون في حياتهم اليومية داخل أرض المخيم وفي محيطها، أي أن التوصيف الفيزيائي للمخيم يشمل المحيط؛ الموقع العام؛ والإدارة في المخيم.

من الجوانب الإجتماعية الهامة التي يتناولها البحث هو موضوعة «إدارة المخيم»، فمن المعتاد أن تتولى المنظمات الدولية رعاية وإدارة مخيمات اللجوء، لكن عدم توقيع الحكومة اللبنانية على اتفاقية حقوق اللاجئين يجعل الأمر أكثر صعوبة ويزيد العوائق على مهمة هذه المنظمات. تتعاون الكثير من المنظمات العاملة في مخيمات اللجوء مع ممثلين من المخيمات، يشكلون الوسيط ما بين المنظمات العاملة واللاجئين، ورغم أن وجود الوسطاء يسهل عمل المنظمات إلا أن الباحثة ترى فيه العديد من السلبيات، ومنها فساد الوسطاء واستغلالهم لمركزهم من أجل مصالحهم الشخصية ، أو تفضيلهم مساعدة أقربائهم ومعارفهم بدلاً من التوزيع العادل.

وهنا نتعرف على «نظام الشاويشية»، الذين غالباً ما يتم اختيارهم ليكونوا وسطاء في المخيمات، ويحصل الشاويشية على مراكزهم بطرق عديدة، منهم من يصبح شاويشاً نتيجة سلطته المالية؛ أو نتيجة صلته مع صاحب الأرض بشكل مباشر؛ أو من كونه زعيم عائلة كبيرة لها مركزها وسلطتها في المخيم. إضافة إلى وجود «الشاويشية» يتساعد الأهالي في تنظيم أمورهم، إذ يتولى فرد مختار من كل مجموعة من الخيام مسؤولية التواصل مع الشاويش وتزويده بالوثائق والمعلومات اللازمة حول الخيام التي يعرفها.

وتحت عنوان «بيئة المخيم العمرانية والحياة فيها» يتناول القسم الثاني البنية العامة، ومن ثم الخيمة، وهي الوحدة الأصغر في المخيم. تتألف أغلب الخيام الموجودة من غرفة معيشة واحدة تستخدم لفعاليات النهار جميعها، حيث تتحول من غرفة جلوس إلى غرفة طعام واستقبال، ثم إلى غرفة نوم في نهاية اليوم. تقلّ الخيام المكونة من غرفتين، ولم يتم ملاحظة أي خيمة فيها ثلاث غرف خلال فترة التواجد في المخيم.

تقضي النساء معظم فترات النهار في الخيمة، يقمن بأعمال التنظيف والترتيب. في حين يقضي الرجال معظم أيامهم خارج المنزل في العمل. ويتحول فراغ الخيمة إلى فراغ نسائي في معظم أوقات النهار، ويبقى فراغ الخيمة هي «مملكة المرأة»، حيث هي المسيطرة والمنفذة لجميع الأعمال، ويكون دور الشبان استهلاكياً. عند استقبال النساء لصديقاتهن من الخيام المجاورة أو من خارج المخيم. يضطر الزوج إلى مغادرة الخيمة لإعطاء النساء الخصوصية التي يحتجن إليها. يفرح الأطفال حين تصبح الخيمة فراغاً نسائياً، ولا يستطيع الرجل الدخول إليها مجدداً دون أذن.

إذاً، تسيطر النساء على الفراغات الداخلية في الخيام. نتيجة قضائهن الفترات الأطول من النهار في المنزل، في مسؤوليات التنظيف والترتيب. ويبقى الأطفال قبل عمر السابعة مرتبطين بمكان تواجد أمهاتهم، ويصبح الأطفال الصبية أكثر حرية في الحركة بعد اجتيازهم عمر الثامنة تقريباً، في حين تبدأ الطفلات مشاركة الأمهات في الأعمال المنزلية. يلاحظ البحث وجود صداقات بين نساء من ثقافات ومناطق مختلفة بشكل كبير ضمن أحد التجمعات. يساهم هذا الاختلاط في انفتاح النساء وتعلّمهن أموراً جديدة لم يكن بمقدورهنّ معرفتها مسبقاً، كما تشكلن قوة داعمة لبعضهن البعض.

 

الصورة النمطية السياسية أثناء الحراك السوري- هاني الطلفاح

يحاول البحث الثاني أن يناقش الآثار السلبية التي أحدثتها أربع صور نمطية سياسية ظهرت أثناء الحراك في سوريا، محاولاً تفكيك تلك الصور ومعرفة السياقات التي استُخدمت فيها ودراستها لغوياً وبالنهاية محاولة معرفة هل كانت تلك الصور النمطية سبباً أو مبرراً لممارسة العنف مع الآخر المختلف سياسياً.

ذكر مصطلح الصور النمطية لأول مرة في العلوم الاجتماعية في كتاب والتر ليبمان الرأي العام في عام 1922 والذي حاول أن يدرس فيه الرأي العام الأميركي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى. تطوّر  بعدها المفهوم ودخل إلى العديد من الحقول المعرفية، مثل علم النفس والنقد الأدبي والعلوم السياسية والإعلام ودراسات الجندر

بالعموم، استمد المصطلح باللغة الإنكليزية (Stereotype) تسميته من عالم الطباعة والقوالب المعدنية. ويمكن الاستفادة من هذا التعريف التكنولوجي في تحديد بعض سمات المفهوم، فالصورة النمطية متكرّرة ويتم تداولها ونقلها وتوزيعها بشكل واسع بين أفراد المجتمع ومجموعاته.

يكتب الباحث طلفاح في تعريف مفهوم الصورة النمطية: «بينت دراسات نفسية أهمية المفهوم، وعرفته بأنه تركيب إدراكي (بنية إدراكية – معرفية) يشمل توقعات عن سلوك جماعة معينة، وهذه التوقعات تؤثر على سلوك الإنسان نحو الجماعة التي يتم تصويرها نمطيّاً، كما تؤثر على تعامله مع المعلومات التي يحصل عليها عن هذه الجماعة. تالياً، يحررنا إدراكنا لهذه الصور النمطية منها، وينعكس على سلوكنا مع الآخرين».

الصورة الأولى التي يتناولها البحث بالدراسة هي «المُندس»، والتي ظهرت بشكل واضح في الرواية الرسمية للنظام السورية لوصف بعض الأفراد الذين شاركوا في الاحتجاجات، حيث استخدمت وسائل الإعلام الرسمية أو شبه الرسمية المصطلح من أجل الإيحاء بأن هناك مخربين مُندسين في المظاهرات. وقد ورد المصطلح في بيانات وزارة الداخلية السورية وفي الجرائد الرسمية.

الصورة الثانية هي «المنحبكجي»، وهي صورة نمطية استرجعت أثناء الحراك، وأطلقت على المؤيدين للنظام السوري. ويعود أصل التسمية إلى عنوان الحملة الانتخابية لبشار الأسد في عام 2007 حيث انتشرت كلمة «منحبّك» في اللافتات الطرقية والدعايات. المفارقة في هذه الصورة أنها تعبر وتختزل الفرد إلى رأيه السياسي، وبذات الوقت هي كلمة مشتقة من فعل الحب، الذي يبعد كل البعد عن السياسة.

الصورة الثالثة هي «الشبيح»، ويعود أصل التسمية إلى الجماعة أو العصابة التي ظهرت في الساحل السوري، والتي تقوم بعمليات التهريب والسطو، وأطلقت هذه التسمية في بداية الحراك على العناصر المؤيدة للنظام، والذي استخدمت العنف في قمع المظاهرات، ليتوسع بعدها استخدام المصطلح، وخصوصاً في المظاهرات المناهضة للنظام (بهتاف «شبيحة، شبيحة!»)  والمسيرات المؤيدة (شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد). استُخدم هذا المصطلح إذاً في خطاب المعارضة والموالاة في ذات الوقت.

أما الصورة الرابعة والأخيرة فهي «الرمادي» بالنسبة لما يمثله اللون الرمادي من رمزية للحياد، وأطلق المصطلح للدلالة على الأفراد الذين لم يتبنوا آراءً مؤيدة أو معارضة للنظام، ووصِفوا بالرماديين لعدم تبنيهم أحد اللونين الأبيض والأسود الذين يرمزان للشر والخير في الصراع. وتعرض الأفراد الذين لم يتبنوا موقف سياسي إلى الانتقاد والحكم الأخلاقي من كلا الطرفين، سواء المعارض أو المؤيد، وفي نتائج الاستبيان تم وصف «الرماديين» على أنهم يحملون صفات الخوف والجبن و اللامبالاة.

 

صورة الجسد في الفنّ التشكيلي السوري المعاصر- محمد عمران

يبيّن هذا البحث قدرة النقد التشكيلي على دراسة الواقع الإجتماعي والسياسي في سورية من خلال الإضاءة على الشرط التاريخي للعمل الفني، كما أن متابعة تطور تجارب الفنانين التشكيليين الفاعلين يساعد في قياس المتغيّرات الحاصلة في المجتمع السوري، بمعنى أننا نستطيع أن نعرف، بواسطة الفن، حجم الموت الذي يجتاح تفاصيل حياة السوريين.

القسم الأول من البحث مخصص لموضوعة الجسد في الأعمال التشكيلية السورية منذ الستينات حتى العام 2011. أما القسم الثاني من البحث فقد خُصّص للأعمال التشكيلية السورية التي أنتجت منذ العام 2011 وحتى اليوم. وفي هذه الجولة على الأعمال التشكيلية التي تتناول فنون النحت؛ اللوحة؛ التصوير الضوئي؛ فن التجهيز؛ وفن الفيديو، يستخلص الباحث عمران أربعة محاور أساسية يمكن من خلالها تقسيم موضوعة الجسد في الفن التشكيلي وهي : الجسد المريض، الجسد المتشظي، الجسد الوحشي، والجسد الميت.

يخلص الباحث إلى مجموعة من النتائج الهامة، منها أن الفن التشكيلي من العام 2011 حتى الآن قد أفرز العديد من الأعمال الفنية التي تتناول موضوعة الموت، وخصوصاً «الشهادة» رغم أنها موضوعات كان قد تم تناولها في سنوات الفن التشكيلي قبل ذلك، إلا أن الصور التي تقدم الجسد الميت بعد الثورة أعنف بشكل واضح مما كانت عليه قبل ذلك. أمام ذلك، يرى الباحث أن التجارب السابقة على الثورة كانت رمزية بشكل عام، بمقابل المباشرة والفجاجة في الأعمال الراهنة. لقد حرصت معظم الأعمال التشكيلية التي أنتجت خلال الثورة، على تحقيق صدمة تماثل تلك التي يخلفها العنف اليومي المعاش في الواقع.

وفي السياق ذاته يكتب الباحث عمران : «بعد هذا الاستعراض الموجز لبعض أعمال الفنانين السوريين التي تتناول موضوعة الجسد، يمكننا القول إن معظم التجارب الفنية تتواصل وتتراكم دون أن تُحدث قطيعة مع تجربتها الماضية. وبالرغم من التنوع الواسع في تمثيل العنف، يبقى الجسد الميت الأكثر حضوراً في معظم هذه التجارب خلال السنوات الماضية».

الطفولة في ظلّ تنظيم الدولة الإسلامية- وسيم السلطي

تنقسم الورقة البحثية الرابعة والأخيرة إلى ثلاثة أقسام، يعالج القسم الأول نشأة وتوسع تنظيم داعش، ويقدم لمحة عن وضع الطفولة في ظل إدارة هذا التنظيم، ويحاول توصيف أساليب عمل عناصر داعش في التعامل مع الطفولة في كل مرحلة من مراحل توسع وتطوّر التنظيم. يعتمد هذا القسم على دراسة المقاربة التاريخية في الكتب والمقالات التي تناولت هذا الموضوع.

بعد المقاربة التاريخية، ننتقل إلى القسم الثاني من الورقة، وهو آليات التربية والتعليم التي تمهد لانخراط الأطفال في الأعمال الخاصة بالتنظيم.

في القسم الثالث، نجد المناهج والتقنيات التي اتبعت في عمليات تنظيم الأطفال وتوكيلهم بالمهمات.

يعتمد القسمان الثاني والثالث في البحث على الدراسات والمقالات والمطبوعات التي صدرت عن تنظيم داعش نفسه كمصادر، وكذلك على عدد من مقاطع الفيديو. بمقاربة تحليلية، يحاول القسمان الإضاءة على كيفيّة تمكّن هذه المناهج التربوية والتدريبية من التأثير على حياة الأطفال، ومستقبلهم بشكل خاص.

الأسئلة الأساسية التي يحاول البحث الإجابة عنها هي: كيف تمكن تنظيم داعش، بنجاح، من استدراج جيل الطفولة لتبني إيديولوجيته والثقافة التي يدعو إليها؟ ما هي المخاطر التي تحيط بهؤلاء الأطفال الذين خضعوا للتدريب على المدى الطويل؟ هل ستصبح الأساليب التي اتبعها تنظيم داعش مناهجاً متبعة ومطبقة في كل نزاع مسلح يتم استغلال الأطفال فيه ؟

يواجه الباحث صعوبات جمّة أمام هذا النوع من الأسئلة البحثية وهذه الموضوعة، أبرزها استحالة الدراسة الميدانية للموضوع؛ قلة المعلومات والدراسات المتعلقة بالموضوع المبحوث في ظل تركيز الإعلام على الصورة العامة دون إعطاء المعلومات الوافية عن الأطفال في ظل تنظيم داعش، وكذلك في ظل عدم موضوعية المنظمات العاملة في هذا الحقل.

أسس تنظيم داعش مخيماً يدعى «طيور الجنة» على ضفة نهر ديالى في العراق للأطفال بين عمر 9 – 15 عاماً، يتم فيه تدريب الأطفال على كيفية القتال وتنفيذ التفجيرات. لكن المخيم الفعلي الأول لتدريب للأطفال الذي يخضع بالكامل لقيادة داعش كان في سورية، وقد أطلق عليهم لقب «أشبال الزرقاوي»، تيمّناً بملهم التيار الجهادي الذي أسس داعش.وقد كانت الغاية من هذا المخيم تنشئة أجيال من الأطفال تحفظ للتنظيم قوته، وتساعده على التمدد والاستمرارية.

يستعرض البحث كيف بدأ تنظيم داعش، منذ إعلان الخلافة في سورية والعراق في حزيران 2014، بالاهتمام بنظام التعليم، مُنشأً ما سُمّي «ديوان التعليم» وموكلاً إليه مهام التربية والتعليم في المناطق التي سيطر التنظيم عليها. هذا القسم الإداري طور سياسات تعليمية يخضع لها الأطفال بين سن 9 إلى 15 عاماً. قسّم «ديوان التعليم» نظام التعليم إلى ثلاث مراحل (الإبتدائية، الوسطى، والتحضيرية) موزعة على تسع سنوات.

لم يقتصر تأثير تنظيم داعش على الأطفال الموجودين في المناطق الخاضعة لسيطرته، بل امتدّ خارج حدود الخلافة، وذلك من خلال ألعاب الفيديو التي عمل على تصميمها مبرمجون تابعون للتنظيم، وذلك من خلال تحوير ألعاب الفيديو الأكثر شعبية على مستوى العالم لكي تصبح في خدمة رؤى التنظيم وإيديولوجيته.

أخيراً، تبين الورقة البحثية كيف قام تنظيم داعش برسم صورة الطفل المجاهد، ومدها بالمميزات، حيث كان الطفل المجاهد يعامل بطريقة مميزة عن أقرانه، وذلك بطريقة اللباس، ومقدار المعرفة الدينية، وتقديمهم كأطفال ذوي موهبة في الكلام والخطابة ومهارات استعمال السلاح. ولكي يصل الأطفال إلى هذه الصورة التي تميزهم عن أقرانهم كانوا يخضعون لتدريبات مكثفة من قبل قادة تنظيم داعش.

يمكن تتبّع صورة الطفل المجاهد في تسجيلات الفيديو التي نشرها التنظيم عن أطفال تم تصويرهم كنجوم، وكذلك يمكن تتبعها في نوع الفيديوهات التي تُظهر الأطفال في معسكرات التدريب بأداءات جماعية. هذا التباهي الذي خلقته هذه الإستراتيجية الإعلامية في رسم صورة الطفل المجاهد كانت عاملاً مؤثراً لجذب وتطويع المزيد من أجيال الأطفال.