تحمل الصور العائلية للأسد وزوجته رسائل تفيد بأنهما بشر كغيرهم، لا شيء يمنعهم من مشاركة الآخرين بما يلم بهم من أفراح وأزمات أيضاً.
مشاركة صور«السيدة الأولى» في مرضها وعلاجها، توحي بأن هذه العائلة المتورطة بأكبر جرائم العصر تعتقد أن ما قد ينتاب أفرادها من حزن وقلق وتمنٍ للشفاء يمكن أن يلقى تعاطفاً وتفهماً عند فئة ما من السوريين أو غيرهم. فهل هم يعتقدون بذلك حقاً أم يريدون أن نعتقد نحن أنهم يفعلون؟
حتى في أوساط المؤيدين، الذين هم إما شركاء مباشرون في الجريمة أو انتهازيون أو جبناء خوّافون أو حمقى، من المستغرب أن ينتظر آل الأسد مشاعر تضامن إنساني حقيقية، إلا إذا كانوا يعوّلون على الفئة الأخيرة فحسب، أعني فئة الحمقى، أو إذا كانوا يصدقون فعلاً أن من يخافونهم وشركاؤهم في جرائمهم والانتهازيين من مواليهم يحبونهم حقاً، فيفرحون لأفراحهم ويتأثرون لمصابهم. أم أنهم يريدوننا أن نقتنع أنهم يصدقون بذلك؟ أو أن يقنعوا بذلك أنفسهم؟!
إلى أي مدى يستطيع الإنسان أن يكذب ويبقى محتفظاً بمسافة من كذبته ومما يدعيه من أهداف سامية لجرائمه؟ بمعنى آخر، إلام يكذب ويرتكب الإنسان بوعي؟ أفلا تنطلي على مجرمين من شاكلة الأسد وزوجته أكاذيبهم وادعاءاتهم البطولية الوطنية والإنسانية أيضاً مع الزمن، وإن جزئياً؟ هنا يبدو التساؤل مشروعاً: هل من وزن لوجود أولئك المجرمين خارج جرائمهم وأكاذيبهم؟
أن يدعي الأسد أن ما ينسب إلى نظامه من القتل والجرائم والتعذيب واستخدام الأسلحة الكيماوية ورمي المواطنين العزل بالبراميل المتفجرة إنما هو محض افتراء، أمر يمكن تفسيره من جهة بلامبالاته بوقع كلامه على مستمعيه من الضحايا وأهليهم وجيرانهم كونه يعتبرهم من معارضيه و«الحاضنة الشعبية» لمعارضيه، ويمكن تفسيره من الجهة الثانية بلا مبالاته بوقع الكلام على مستمعيه الموالين من المجرمين والانتهازيين والخوافين والحمقى، كونهم متواطئين معه في الكذبة. لكن أن يخرج بعد ذلك إلى العلن بصور زوجه تتلقى العلاج في مشفى عسكري، أو في صورة توحي بالإنخراط بتفاصيل الحياة اليومية تبدو فيها „العائلة المقدسة” في أحد مطاعم دمشق القديمة، و«السيدة الأولى» بغطاء رأس، ما يشير إلى أنها تتلقى علاجاً كيماوياً أدى لتساقط شعرها، فهنا، إن كان «السيد الرئيس» وآله لا يبالون برأي المعارضين، فهل ينتظرون حقاً التعاطف من الموالين، عدا عن فئة الحمقى؟ أم باتوا يرون الجميع حمقى؟ أم صدقوا كذبهم الشخصي وادعاءاتهم حقاً وفعلاً ويتوقعون لذلك تعاطفاً حقيقياً؟ أم يريدوننا أن نظن ذلك؟
ما أعتقده: كل ذلك معاً!
ليس لدى أولئك القوم تصور عن الحقيقة، ولا إيمان بوجودها، ولا حتى بغيابها! الحقيقة الوحيدة، والمطلقة، التي يهتمون لأمرها، والتي تشكل محدداً كونياً مرجعياً لهم، هي القبض على الحكم في يد العائلة. كل ما عدا ذلك لا مانع من التعامل معه ببراغماتية، بل بليبرالية وديمقراطية، ولم لا؟ بمحبة وإنسانية أحياناً!
فهم في لحظة يؤمنون حقاً باستثنائيتهم واستثنائية المهمة التي يتنكبونها، وأنهم إذ يحتملون ذنب القتل والتدمير فلأن على أحد ما أن يقوم بفرض الكفاية هذا ويكون قادراً على مواجهة عواقبه حتى الأخلاقي منها. فهم إنما يرتكبون قتلاً تحررياً وخلاصياً بالنيابة عن مواليهم، بل إنهم يفعلون ذلك بالنيابة عن الضحايا أيضا، لطالما الضحايا أيضاً مواطنون ضالّون، وهم عندما يقتلونهم دفاعاً عن الوطن الأسدي، فإنما يفعلون ذلك إعلاء لمجد الوطن الوحيد أيضاً، إذ لا وطن آخر فعلياً طالما الإرادة الأسدية ماثلة. في لحظة ثانية هم بشر عاديون، ليس القتل والتعذيب اللذان يشرفون على إجراءتهما إلا ضرورة مهنية، وهم يوجهون رسائل مستمرة بأنه ليس بالجزء الوظيفي المحبب لديهم، ولكانوا مستعدين للتخلي نهائياً عن القتل والتعذيب وما يتصل بذلك من ملاحقة وخطف واغتيال ودسائس وتدمير وإبادة لو كان الشعب مطيعاً بما يكفي! فبشيء من التفهّم وحسن الطوية يمكن القول بأنهم أناس طيبون، أو على الأقل كان يمكن لهم أن يكونوا كذلك، وهم بالتالي لا يكذبون كذباً خالصاً عندما ينفون عن أنفسهم ما ينسب إليهم من تهم. لكنهم في لحظة ثالثة، كما في تجليهم المتمثل بشخوص نالوا كامل رضاهم، من مثل سهيل الحسن وجميل حسن أو مما نستشفه من تصريحات غير مفلترة لمقربين من السلطة لا يتقنون فن التقية كمثال حيدرة بهجت سليمان، مجّرد «قتلة بالفطرة» لا يعرفون معنى الرحمة، هذا إن لم تكن الرحمة ذاتها أحبّ الفرائس إليهم، ساديون يتلذذون بالقتل، يغتالون حتى أقرب حلفائهم دون رفة جفن، ويقرّون بكامل الخبث باختيارهم الواعي للشر والتماهي الكامل به في وجه كل من يعارضهم، ودون أية حاجة للبحث عن مبرر فردي أو جماعي.
صور الذات المتعددة هذه لا ضرورة لأن تنسجم وتتلاءم أو يتماسك بعضها ببعض. بل تتواجد على تناقضاتها في اللحظة نفسها أيضاً. ذلك أن الحساسية تجاه التناقضات، الأخلاقي منها خصوصاً، لا تكون بغير اعتقاد بوجود حقيقة متجاوزة، تتنابذ في شرطها التناقضات الجوهرية بشدة. بينما في العالم الأسدي لا وجود لغير حقيقة عليا وحيدة هي شهوة الحكم.
ومع ذلك تشع صورهم بالأنوار الإنسانية في حضرة المرض، وهو الحقيقة المادية التي إن أمكن تحويل مساراتها بالتعاطي طبياً معها، فإنه يتعذر إرغامها وتطويعها بالعنف والغصب والقسر، السمات الأعرق لهذه العائلة. فهل يفتعلون الدفء العائلي ويتباسمون تكاذباً؟ أم يعيشون فحسب، في الجريمة كما في الأقدار البشرية، بوصفهم في النهاية أفراد العائلة الوحيدة التي تحيا فعلاً بحرية وتملك الإرادة في هذا البلد الخاص بها؟
يظهر الأسد و«السيدة عقيلته» في أنفاق حفرها «الإرهابيون» ليشهدا كيف يستخدم «الفنانون السوريون» مادة الدمار ليخلقوا منها فناً وجمالاً. ويرسل الزوجان بكرهما ليشارك في مسابقات لمادة الرياضيات يعود منها خاسراً كل مرة، في مفارقة لا تخلو من طرافة. مشاهد ما بعد حداثية، تجمع الدمار، بالفن الرديء، بالترف وسوء التربية واستعمال الأطفال، بالبروباغاندا الأفسد، على خلفية من مئات ألوف القتلى وخراب المدن والأرياف وتشظي الوطن وضياع كل قيمة وطنية أو إنسانية عامة.
لم يصدق كثيرون أن زوجة الأسد مصابة بالسرطان. وفي ضوء ما سبق لربما يمكننا أن نتساءل إن كان آل الاسد أيضاً يصدقون ذلك. ولربما يحق لنا التساؤل أيضاً إن كانوا يصدقون أي شيء أو يؤمنون بأي شيء عدا فوقيتهم المبرهنة لذاتها.