يتواصل حديث وسائل الإعلام التابعة للنظام السوري عن معركة مرتقبة في محافظة إدلب، والحشود العسكرية التابعة للنظام والتي بدأت بالتجمع في محيط المنطقة تؤكد وجود هذه النوايا. إلا أن مصير المنطقة التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية شمال غرب سوريا لن يكون رهن هذه الحشود، التي لا تمتلك على أرض الواقع القدرة على بدء مواجهة واسعة مع أكثر من سبعين ألف مقاتل -هو الحجم التقديري للقوات الفاعلة التابعة للفصائل في إدلب-. وحده التفاهم بين موسكو وأنقرة يمتلك مفاتيح المعادلة ومصيرها هنا، دون أن تغيب الولايات المتحدة عن مجريات الأحداث بشكل كامل.

توحي الزيارات المتكررة لوزير الدفاع التركي خلوصي أكار -بمرافقة رئيس جهاز المخابرات حقان فيدان- إلى موسكو خلال الأسبوع الفائت، واللقاءات التي عقدها وزيرا خارجية روسيا وتركيا في ذات التوقيت، بعملية تفاوضية معقدة بين البلدين لحسم مصير إدلب، في وقت لا تمتلك فيه أنقرة قدرة كبيرة على ممانعة الرغبات الروسية، ما قد يؤدي إلى تراجع تركيا عن حمايتها للمحافظة التي تأوي اليوم أكثر من ثلاثة ملايين سوري بين مواطنيها والنازحين إليها. وعلى الرغم من تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يوم الجمعة الفائت، وتحذيره من كارثة إنسانية، لا يقتصر خطرها على إدلب، بل يؤثر مصير سوريا ككل في حال اندلعت معارك واسعة في المحافظة، إلا أن الرغبات الروسية المعلنة والضغط الذي تمارسه موسكو سيؤدي بالنهاية إلى تراجع تركيا عن موقفها، أو على الأقل تجاهلها للعمليات العسكرية الروسية في بعض مناطق إدلب. لكن تأثير ذلك سيكون أوسع من مجرد سيطرة النظام على المساحات التي تهدد من خلالها قوات المعارضة قاعدة حميميم بصواريخ الغراد أو طائرات الدرون، فدخول قوات النظام دون مقاومة كبيرة إلى بعض المناطق في إدلب قد يقود إلى سيناريو «أحجار الدومينو» الذي حصل في درعا، حين أدّت سيطرة النظام السريعة على الريف الشرقي إلى تسارع بسط سيطرته على درعا البلد والريف الغربي، مستغلاً الانقسامات الحاصلة بين قوات المعارضة سابقاً هناك.

يحمل الواقع الميداني في المحافظة  تأثيراته أيضاً على المحادثات بين تركيا وروسيا حول إدلب، فالاستعصاء الذي يخلقه وجود هيئة تحرير الشام، والتي لا يبدو أنها مستعدة للدخول في أي عملية تفضي إلى حلها أو اندماجها في الجبهة الوطنية للتحرير، يقابله عجز الأخيرة عن التحرك عسكرياً ضد الهيئة، لعدّة أسبابٍ يتصدّرها أن الجبهة الوطنية للتحرير لم تُظهر حتى اللحظة تماسكاً كافياً يظهر اندماجاً للقطاعات العسكرية التي تتبع للفصائل المنضوية تحت راية الجبهة، مثل حركة نور الدين الزنكي أو حركة أحرار الشام أو فيلق الشام، كما لا يبدو أن حجم القوة الفاعلة لدى هذه الفصائل قد استطاع حسم أي معركة مع الهيئة خلال الفترة الماضية، مما يجعل فرصه بحسم معركة مقبلة مع الهيئة أمراً مستبعداً. مثل هذا الوضع سيشجع موسكو على الضغط أكثر على أنقرة للقبول بدخول قوات النظام على خط المعركة مع الهيئة، ما سيؤدي إلى انقسامات واسعة في قوات المعارضة شمال غرب سوريا نتيجة مثل هذا المشهد.

ثمة عامل ميداني آخر نجده في قدرات قوات المعارضة التي تقع خارج هذا التقسيم بين الجبهة الوطنية للتحرير وهيئة تحرير الشام، كما في حالة جيش العزة، الذي يسيطر على مناطق في ريف حماة الشمالي، فبوجود هذه الانقسامات واستمرارها لن يستطيع جيش العزة الصمود لوحده على جبهات ريف حماة الاستراتيجية في مواجهة ضغط كبير من قوات النظام والطيران الروسي.

وتُظهر التعزيزات التي تستقدمها قوات النظام إلى محيط محافظة إدلب والأرياف المتصلة بها، أن المعركة لن تشمل فقط جسر الشغور وريف اللاذقية، فالنظام يحشد أيضاً في ريف حماة عند بلدة أبو دالي وفي ريف إدلب الجنوبي الشرقي عند مطار أبو ظهور، ما يعني أن أي معركة مقبلة ستشمل كل تلك الجبهات. ومن المتوقع أن يقوم النظام بتنفيذ ذات الخطة التي اتبعها في درعا والغوطة، وهي التركيز على الجبهات الأكثر ضعفاً وخلق ممرات تقسّم مناطق المعارضة وتحاول عزل ريف حلب الغربي، الذي يضم كتلة وازنة تتبع للجبهة الوطنية للتحرير، عن باقي إدلب، ليُسيطر أولاً على ريف إدلب الجنوبي شرق أوتوستراد حلب-حماه الدولي خلال المرحلة الأولى،  ويحقق تأثيراً مشابهاً لما حدث بعد سيطرته على ريف درعا الشرقي.

بالمحصلة، فإن مثل هذا السيناريو يبدو الآن الأكثر ترجيحاً إذا لم يُبنَ ضغط دولي واسع تقوده واشنطن لوقف العمليات في المنطقة، فتركيا لوحدها لن تكون قادرة، وربما لن تريد، أن تقف بوجه نوايا روسيا بإنهاء ملف قوات المعارضة المسلحة بشكل نهائي في سوريا، إلا أن نتائج مثل هذا السيناريو أكبر من التي حملتها انتصارات النظام الميدانية بدعم من أوصيائه في طهران وموسكو خلال السنتين الماضيتين، إذ يحمل هذا السيناريو نتائج مديدة على الوضع في سوريا. ستكون الأوضاع الناشئة عن سيطرة النظام عن إدلب الرصاصة الأخيرة التي توجه إلى المسار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة، لصالح تخريجة روسية مشابهة لما جرى في مؤتمر سوتشي -لن تكون موسكو مضطرة لتجميلها أكثر من ذلك- وستؤدي إلى فرض أمر واقع في سوريا. قد يغيب الاعتراف الغربي بهذا الأمر الواقع في البداية، لكن موسكو تراهن على أن أوروبا ستعترف بهذا الأمر الواقع لاحقاً تحت ضغط مسألة اللاجئين، ولا يبدو أن منع أموال إعادة الإعمار من قبل الولايات المتحدة سيشكل ضغطاً كبيراً على نظام حوّل سوريا إلى أنقاض، ولا على حلفائه الذين يبحثون عن نصر سياسي وعسكري لا عن إعادة إعمار أو خلق استقرار في المنطقة، والوضع في العراق، أحد أكبر الدول النفطية في العالم، مثالٌ ساطع على الخراب الذي تعتاش عليه الميليشيات الموالية لطهران.