الأخت وبنت الأخت وبنت الخالة

يشيع في العالم الإسلامي أن تُزار القبور صباح أول أيام عيدي الفطر والأضحى، وبغض النظر عن مجمل فتاوى المشايخ وتحذيراتهم من تكريس الزيارة كطقس خاص بالعيد، وسجالهم حول جواز أن تزور النساء المقابر أساساً، إلا أن هذا الطقس منتشرٌ على صعيد واسع في مجمل الجغرافيا العالمية التي ينتشر فيها المسلمون. وتُزار القبور عادةً بعد صلاة العيد، أو قبل صلاة الظهر من أول يوم في العيد، غالباً في طقسٍ عائلي. في بعض المناطق من سوريا، ومن بينها الرقة، تدرج عادة قديمة تقول إن زيارة القبور يجب أن تجري عند الفجر، والبعض يبالغ في تبكير هذه الزيارة إلى ما بعد منتصف الليل بقليل، وكأن هناك بركة ما في أن تطلع الشمس والأهل متحلّقون حول قبور ذويهم، بعضهم يقرأ سوراً من القرآن، وآخرون يتحادثون، وجزء أساسي من العائلة يتولى زجر شقاوة الأطفال وحماسهم لهذه الزيارة التي تكسر روتين يومياتهم، بغرابة زمانها وعجائبية مكانها. وبين الحين والآخر، تنادي امرأة على أطفال عائلاتها، وأطفال العائلات الزائرة للقبور المُجاورة، وتوزع عليهم السكاكر أو «الكليج» لقاء قراءة الفاتحة، أو، ببساطة، ترمي السكاكر في الهواء عالياً، «تطشّها»، ليتراكض الأطفال متنافسين على التقاطها بين القبور.

في صغري، كنتُ أحبّ زيارة القبور وقت الفجر مع أقربائي، أتحمّس للزيارة قبل يوم أو يومين، ولا حاجة لإيقاظي أبداً، فأنا على أهبّة الاستعداد، وكان والدي يُجاري هذه الرغبة ويأخذني في هذه الرحلة، ويزور قبور العائلة. كان في زيارة القبور وقت الفجر اقترابٌ، خارج عن اليومي المألوف، من مجهولَين يثيران فضولي: الفجر، الوقت الذي لا أعتاد على مشاهدته في الأيام العادية؛ والقبر، الموت، الذي يشكّل لغزاً محيّراً. احتككت بالموت للمرة الأولى في شباط عام 1991، وكان عمري خمس سنوات ونصف، حين توفي جدّي، المرحوم الحاج ياسين الحسين السويحة. لم أفهم حينها إلا أن «جدو» قد رحل إلى غير عودة، وأن هذا الأمر حزين بشكل مربك لأنني أرى بكاءً في عيون رجال العائلة، أي من يُفترض أن يكون البكاء بعيداً عنهم سنوات ضوئية، بعدها، قيل لي إن جدّي تحت كومة من تراب، صارت لاحقاً قبراً من الرخام ذي اللون الشاحب. كان الفضول يأكلني: كم عُمق هذا القبر؟ كيف هو القبر من «الداخل»؟ كم يبقى القبر قبراً؟ ماذا يحصل للإنسان عندما يموت؟ ماذا يحصل لجسده؟ هل يسمع؟ هل يرى؟ هل يعرف؟ هل «يعود»؟

كانت زيارة القبور، في وقت الفجر «الغريب»، مناسبة ممتازة لإشباع الفضول.

رغم الطابع الكئيب عامةً للمقبرة والقبور، لكن زيارة القبور فجر العيد طقس احتفالي ومَرِح إلى حدّ بعيد، إلا في حال كانت الوفاة قد جرت قبل هذه الزيارة بوقتٍ أقل من المطلوب لإتمام الحداد واستيعاب المتغيّر الجديد. أيضاً، تبدو هذه الزيارة وكأنها طقس نساء إلى حدّ كبير، فالرجال، حتى لو أحبّوا الطقس وداوموا على حضوره، فإن دورهم فيه ثانوي، يكاد ينحصر في تأمين النقل، ثم قراءة الفاتحة بوقار، وربما بعض الآيات القرآنية، ثم الوقوف وتحية رجالٍ آخرين وتبادل الأحاديث معهم، أحاديث يشيع أن تحوي تبرّماً -فيه الكثير من غنج الرجل الذي يدّعي أنه مغلوب على أمره- من إصرار «العائلة» على هذه الزيارة، التي لا يستمتعون بها كثيراً، أو هكذا يريدون الإيحاء.

تبدو زيارة القبور فجر العيد وكأنها الجانب النسائي من ترتيب علاقة الناس -والأطفال خصوصاً- مع الموت والموتى، من جدّات وأجداد خصوصاً، وذاكرتهم و«الواجب» تجاههم. للذكور جانبهم من العلاقة مع الموت، وهو الجنازة والدفن، حيث لا تحضر النساء إلا نادراً، إذ يحصل أن «يتسللن» إلى أطراف جنازاتٍ فيها قدرٌ مٌضافٌ من الفجائعية، كأن يكون الموت خاطِفاً، أو يكون الميت شاباً. ويثير وجود النساء في المقبرة (على مسافة من طقوس الصلاة والتلقين) سخط الرجال، وعتباً على رجال عائلة الميت لقلة حزمهم في ترك النساء في البيت، يؤدّين دورهنّ في البكاء على الميت أو الميتة، وهو دورٌ ليس بقليل، بل جزء أساسي من المعاملة الاجتماعية مع الموت. البكاء، أو «البجا»، هو مزيج من النواح المبالغ في ارتفاعه، وطقوس إيذاء النفس بالصفع أو شدّ الشعر أو شق الثياب، والعبارات الجاهزة والأهازيج الجنائزية النسائية، لا تشارك فيه نساء عائلة الميت فحسب، بل كل النساء الموجودات، حتى لو لم يعرفن الميّت شخصياً. وثمة سجال بين «بجا» النساء وتبرّم الرجال من علوّه يبدو وكأنه طقسٌ من طقوس الجنازة بحدّ ذاته، فالرجال يأنفون من علو الصوت أو المبالغة في مظاهر الحزن وشق الأثواب أو شد الشعر في الشارع، خصوصاً أمام رجال آخرين، لكن «البجا» أيضاً دليل مكانة المتوفّية أو المتوفي، ومكانة عائلته أمام الآخرين، في القرية والحيّ والمدينة، وبالتالي هم متصالحون فعلياً مع حصوله، بل أن غيابه أو خفوته يحزنهم.

أن يُقال في الرقة عن أحد إنه «ما إله بجّايات»، أي لا نساء يبكين عليه بانفعال ومبالغة، فهذا صنو القول إنه مقطوعٌ من شجرة ووحيد، أو دون سند.

وقد كان السجال حول جواز «البجا»، ثم الاختلاط في الأعراس، ثم زيارة القبور، أول خطوط التماس بين التديّن الشعبي ونمط من التديّن السلفي بدأ بالظهور أواسط التسعينات، بفعل الهجرة إلى الخليج، ثم مع شيوع دروس الدّين بعد حرب العراق. لم يتحوّل التديّن السلفي إلى ظاهرة عامة في الرقة، بل أمكن القول أنه محدود في انتشاره، ولا يخلو من نخبوية، لكنه استطاع فرض نقاشات كثيرة، منها الأمثلة أعلاه.

أيضاً، يتناقل رقاويون مقولة أن البكاء الصادق على أحدهم إنما يأتي دوماً من «الأخت وبنت الأخت وبنت الخالة». ونرى ذكورية واضحة في مركزية الذكر هنا، كما نرى أن الزوجة غير محسوبة، لأنها -حسب تفسيرٍ دارج للمقولة- تبكي نفسها أيضاً لأنها ترمّلت، وليس فقط زوجها، ولأن لديها فرصة أن تتزوج مجدداً بعد الحِداد والعدّة (ولا تُذكر الأم والخالة هنا لأن المُعتاد هو أن يمُتنَ قبل المرء)، لكن الأخت وبنت الأخت وبنت الخالة يبقين قريبات، ويبقين وفيّات لذاكرة الراحل. الملفت في هذه المقولة هو الإقرار بأن البُعد العاطفي، الشخصي، الوشائجي، للقرابة إنما يتكرّس مع النساء وبفضلهنّ. الأخت وبنت الأخت وبنت الخالة هنّ «ذات» الرقاوي الحميمة، اللواتي يسمح لنفسه أن يشكي لهنّ ويساررهنّ، ويطلب منهنّ معونة في شؤون شخصية لا يمكن، بأي شكلٍ من الأشكال، أن يطلبها من «ابن العم»، بل وقد يسمح لنفسه أن يظهر ضعيفاً أمامهنّ. بنوّة العمومة هي نواة القرابة كمؤسسة عامّة، السطوة والعزّة والحماية والدعم، بينما «قرابة النساء» عاطفة وحنان وذاكرة، وهي شأن خاص، شخصي.

في العلاقة مع الموت، تكون الجنازة والدفن من حصّة الرجال، «أولاد العم» المتجهّمون الغاضبون، المشغولون بأن يكون كل شيء «على الأصول»؛ فيما يمكن اعتبار زيارة القبور فجر العيد ساحة «الأخت وبنت الأخت وبنت الخالة»، العاطفة والذاكرة والدفء، والحنان غير المشروط ولا المحدود.

 

ممنوع الدفن

تقع قبور الفرع الرقاوي من آل سويحة في مقبرة تل البيعة، شمال شرقي مدينة الرقة. لم تكن دوماً هناك، بل كانت قبلاً في المقبرة الأقدم في المدينة، الواقعة في المساحة بين باب بغداد، جنوب شرق المدينة، وقرية المشلب (التي أصبحت لاحقاً حيّاً ملحقاً بالمدينة). لتلك المقبرة القديمة تاريخٌ طويل، إذ كان فيها عدد من القباب المبنية على قبور تخلّد ذاكرة مشايخ وأولياء، واعتُقِدَ دوماً أنها مقبرة شهداء معركة صفّين، وفيها قبور الصحابة عمار بن ياسر وأويس القرني وأُبي بن قيس النخعي. وقد قرر النظام أوائل الثمانينات نقل المقبرة إلى تل البيعة، وهو مجموعة تلال أثرية كانت تشغل مقبرة صغيرة للقرى المجاورة جزءاً منها، وتسليم أرض مقبرة صفّين لمشروع مشترك مع الملحقية الثقافية الإيرانية لبناء مزارٍ شيعي، بطراز عمراني فارسي متنافر بالكامل مع العمران التاريخي للرقة وآثارها. مزارٌ استغرق بناؤه حوالي عقدين، ولم يُفتتح حتى أواسط العقد الماضي. ضُرب عرض الحائط بتاريخية المكان، إذ كانت فيه قبب عمرها مئات السنين، كما لم يُكترث كثيراً لمصير قبور أهل الرقة الأحدث، الذين مُنحوا مهلة لنقل ما يريدون نقله، قبل أن تُسوّى المقبرة بالأرض.

وتل البيعة مجموعة من أربع تلال صغيرة، تتوزع عليها القبور، وأيضاً هناك قبور في المنحدر السهلي باتجاه الشرق، تليه «مقبرة الشهداء»، حيث دُفن -بشكل أساسي- مجندون قضوا خلال حرب لبنان، ويبرز فيها نصبٌ للجندي المجهول و«قبر» حميدة الطاهر بينهم، ويحوي بقايا من شعرها وثيابها، وكتب وصور لها، دُفنت بمثابة جثة رمزية لها بعد تنفيذها عملية انتحارية في جنوب لبنان عام 1985.

من ضمن التلال الأربعة، تقع قبور آل سويحة أعلى التل الجنوبي، تطل على أراضٍ زراعية تصل المقبرة بأطراف المشلب جنوباً، ويُرى منها معمل السكّر وسكة الحديد شمالاً. والأقرباء جيران في الأحياء الأقدم من المدينة، حيث تعيش العائلة منذ نهايات القرن التاسع عشر، تتجاور قبور جدّي وأشقاؤه وأبناء وبنات عمّه، وأبناء عم والدي بطريقة مشابهة لتجاوُر بيوتهم في الحارات المتفرّعة من شارع المنصور. وحتى زيارتي الأخيرة لتل البيعة أواسط العقد الماضي، كانت هناك حفرة كبيرة تتوسّط قبور آل سويحة، حفرها أحد أولاد عمّ والدي منذ أوائل التسعينات سعياً منه لـ «حجز مكان» أراده بجانب والده. وكان ذلك الفعل مثار تندّر ومزاح معه، إذ لم يكن مألوفاً على الإطلاق وسط ثقافة تتطيّر من التجهيز للموت، أو استباق الأمور بشكل مبالغ به. وكان له ما أراد ودُفن فيها حين توفي قبل بضعة سنوات. وعدا مُجاورة الأقارب لبعضهم، تُجاور قبور آل سويحة قبور عائلات أخرى هم جيراننا في الحارات المجاورة.

وكأن المقبرة إسقاطٌ فني لخريطة المسكن في المدينة على مجموعة تلال.

رغم أن تل البيعة هي المقبرة الأكبر في المدينة اليوم، والأفضل تنظيماً، إلا أن العراقة بمفهومها الرقاوي هي لمقبرة حطين، الواقعة خارج السور الأثري باتجاه الشمال. في مقبرة حطّين يُدفن أموات القسم الأكبر من العائلات الأقدم في المدينة، أي تلك العائلات التي شكّلت نواة عودة عمرانها أواسط ستينات القرن التاسع عشر بعد قرون من الخراب، وهي العائلات التي تولّت إدارة شؤون المدينة وبنت نسيجها الاجتماعي-الاقتصادي الأول، مثل العجيلي والكعكجي والحسّون وغيرهم. ولكن مقبرة حطين (وهذا الإسم حديث، نابع من مُجاورة المقبرة لمدرسة حطين) باتت محاطة بالبيوت والأبنية الحكومية منذ السبعينات، ولم يعد هناك مجالٌ لتوسيعها، ما جعل قبورها متراصّة، بالكاد هناك حيّز للمشي بينها، كما شاع أن يُدفن أكثر من شخص في القبر نفسه تباعاً في مقبرة حطين، وهو ما لم تكن هناك حاجة له في تل البيعة مترامي الأطراف. لكن ذوي أصحاب القبور في هذه المقبرة كانوا مصرّين -بطبيعة الحال- على أن يُدفنوا بجانب أحبّتهم، متحدّين بذلك منعاً للدفن هناك صدر عن محافظة الرقة في الثمانينات، منعٌ طُبِّق بشكل سريالي عن طريق زرع لوحات معدنية كبيرة في محيط المقبرة، كُتب عليها «ممنوع الدفن»، وإجراءات موسمية للتفتيش والمراقبة، تحايل عليها الأهالي بتسيير الجنازات قرب غياب الشمس، أو حتى بعده بقليل.

يُقابل القسم الجنوبي من مقبرة حطين سور الرقة الأثري، وفيه فتحة أصبحت اليوم شارعاً. تُعرف هذه الفتحة بـ «طاقة علي مظفّر»، وعلي مظفر السيد أحمد من رجالات الرقة وملاّكيها في صدر القرن العشرين، وقد حفر تلك الفتحة في السور بالآليات يوم توفيت زوجته واضطرت الجنازة للالتفاف حول كامل ما تبقى من السور للوصول إلى المقبرة، ما اعتبره مشكلة تحتاج الحلّ، وتصرّف على أساس ذلك.

ثمة مقابر أصغر توزّعت في مختلف أرجاء المدينة أوائل القرن، حين كانت المدينة -فعلياً- عبارة عن مساكن عشائر أو وافدين شركس أو أرمن متوازعة بين بقايا أطلالها، لكنها اختفت مع توسّع العمران واتصال الأحياء ببعضها، لتبقى بعض القبور المتفرقة لشخصيات مهمة في تاريخ عائلة أو عشيرة، أو رجال دين، داخل حوش أو حديقة منزلية، أو ديوان عشيرة.

 

القبر البعيد

توسّعت الرقة بسرعة كبيرة جداً في الخمسينات والستينات والسبعينات، ووفدت إليها آلاف العائلات من مناطق أخرى من سوريا، خصوصاً دير الزور وريف حلب وأرياف حمص، ثم الساحل وحوران، ليتوظّف معيلوها في مؤسسات وإدارات الدولة، ثم في المشاريع الزراعية الكبيرة مثل استصلاح الأراضي وحوض الفرات، أو ليعملوا في التجارة. لكن الغالبية العظمى منهم بقيت على علاقة وثيقة بمنابتها، ليس فقط بالمعاملات الإدارية التي تمرّ عبر «الخانة» الثابتة في دائرة النفوس مهما توالت الأجيال، بل أيضاً في الشؤون الاجتماعية مثل الولادة والزواج والعزاء والدفن. لكن لجزء كبير من هذه العائلات مدافن في مقابر الرقة، خصوصاً في تل البيعة، وهو ليس مكاناً غريباً تماماً عليهم، فمن الشائع أن يكون هناك ثلاثة أو أربعة أجيال متلاحقة من عائلة ما زالت تُعتبر «ديرية» أو «تادفية» أو «حموية»، لكن الرقة تحوي عشرات الأفراد منها، ربما يفوق عددهم عدد من بقي منها في المنبت.

لعلّ البُعد الموحش للدفن في الرقة بدأ بعد الثورة بقليل، حين وَفد إليها آلاف النازحين، من دير الزور أساساً، ولكن أيضاً من أرياف حلب وحمص، ومن تدمر، ومن الأرياف الشمالية للاذقية. في ظرف النزوح، لم يكن دفن الموتى من النازحين يحتمل ترف الموازنة بين إعادتهم إلى مدنهم الأصلية أو دفنهم في الرقة، على ما كان يفعل «غربتليّة» العقود السابقة. وازداد الأمر وحشةً بعد خروج النظام من الرقة في آذار 2013 وبِدء حملات القصف عليها، ثم سيطرة داعش، إذ كرر قسم كبير من العائلات نزوحه، لتبقى القبور وحيدة، لا زوّار لها، وإن معلومة الصاحب، بشكل أو بآخر.

لكن هذه المعلومة ليست دوماً متوفّرة.

في أرشيف توثيق المنظمات الحقوقية التي غطّت حملات القصف على الرقة، توجد في قوائم شهداء القصف الصاروخي الذي أصاب المدينة أعداد كبيرة من «المجهولين». نازحون غير معروفين لأهل المدينة، أو عابرو سبيل، أو تجار متنقلون. على سبيل المثال، في الثامن عشر من آب 2018 قتل هجوم صاروخي على المدينة أكثر من عشرين شخصاً، ومن ضمن قوائم الشهداء نجد «مجهول الهوية- بائع جبس». لمجهول الهوية هذا قبرٌ لم يُكتب عليه «بائع جبس»، بل قبر برقم، لا نعرف إن كان قد نجى من داعش وما بعدها، ولا يُعرف إن كانت مجهولية هذه الهوية ستنجلي يوماً ما.

بدورهم، نزح عدد كبير من أهالي الرقة باتجاه محافظات دمشق وحماة واللاذقية داخلياً، وباتجاه تركيا -مدينة أورفة خصوصاً- خارجياً. وخلال هذه السنوات أصبحت لنازحي الرقة قبورٌ في مناطق نزوحهم، قبورٌ يتحسّرون على أنها ليست بين قبور عائلاتهم في الرقة، التي لم تسلم بدورها لا من جولات القصف التي طاولتها، ولا من جرف داعش للشواهد والقبور الرخامية أو الحجرية أو الاسمنتية بحجّة تحريم البناء على القبور ورفعها، ولم يعد ممكناً أن تستقبل الزيارات العائلية.

صارت المقابر حكراً على «أبناء العم»، يمرّون عليها سريعاً لدفن متوفٍ؛ وممنوعة على «الأخوات وبنات الأخت وبنات الخالة».

 

قبور مؤلمة

مع اشتداد الطوق خلال الحملة العسكرية على الرقة، واشتداد قصف التحالف وقوات قسد على المدينة أواخر ربيع عام 2017، بات الوصول إلى المقابر متعذراً. لذلك، بدأ الناس بدفن ذويهم، أكانوا شهداء سقطوا جراء القصف -الذي أثبت مبكّراً جداً أن لا قيمة لحياة المدنيين في تخطيط أهدافه-، أم نتيجة المرض أو نقص الدواء أو تقدّم السن أو تدهور أوضاع المدينة. بدأت حدائق المدينة، مثل بستان البلدية وحديقة السابع من نيسان وحديقة الأطفال والبانوراما، وملعب ثانوية الرشيد، بالتحوّل إلى مقابر دون تجهيز، بقبور عديمة الشخصية، تنتهي فيها جنازاتٌ متعجّلة بين جولة قصفٍ وأخرى.

ازداد الأمر سوءاً مع تسارع المعارك، ودخول قوات قسد إلى المدينة وتحوّل المعركة مع داعش إلى حرب شوارع. لم تعد حتى الحدائق متاحة في أغلب الأحيان، وباتت الأحواش الفارغة، وحدائق البيوت، ومنصّفات الشوارع العريضة، وحتى أكوام الركام، أماكنَ لدفن الموتى، أو بالأحرى إهالة التراب عليهم بعد صلاة جنازة على مجهول، إن أمكنت الصلاة. هذا عدا عن الذين قضوا تحت أنقاض بيوتهم، أو البيوت والعمارات التي التجؤوا بها، وبقيت جثامينهم تحت أطنان الركام. يروي كثيرٌ من الناجين كيف دفنوا أشخاصاً لا يعرفونهم، وجدوا جثثهم على قارعة الطريق بعد جولة قصف أو تبادل إطلاق نيران، أو بفعل القناصة والألغام المزروعة في مخارج المدينة، التي قصدها المدنيون بحثاً عن اللجوء إلى الريف، خصوصاً بعد اشتداد الحصار اعتباراً من بداية صيف عام 2017، أي في الشهور الثلاثة الأخيرة من المعركة.

خ. غ. حاول البقاء في منزله لحمايته من السرقة بعد أن أخرج عائلته باتجاه الريف، لكنه لحق عائلته إثر تدهور الأوضاع في الحيّ ليعود إلى المنزل -أو ما تبقّى منه- حالما توقّفت العملية العسكرية، حيث وجد عدّة جثث مدفونة على عجل في باحة منزله. نُقلت الجثث لاحقاً إلى قبر جماعي دون أن تُعرف هوية أصحابها حتى اليوم.

بعد نحو عامٍ من نهاية المعركة، وخروج داعش مما تبقّى من الرقة، ما زال الوضع في المدينة بالغ السوء، ببنية تحتية محطّمة، ونسبة دمار عالية جداً في الأحياء السكنية، وسلطة أمر واقع مزهوّة بشعاراتها الرنّانة، التي تلقى تصفيقاً في عوالم موازية، مُغايرة لعالم الرقة ذي الأنقاض والأسمال والجثث. تنتشر في أرجاء المدينة المقابر الجماعية، و«قبور طوارئ» هي عبارة عن حُفر دُفن فيها مجهولو هوية أو معروفوها على عجلٍ في خضمّ المعركة والقصف، وفي حين تدفع درجة انتشار القبور والمقابر في المدينة، إضافةٍ لوضعها المزريّ بشكلٍ مميت، إلى الرغبة في تشبيه الرقة اليوم بمقبرة كبيرة، إلا أن هذا القول غير دقيق. المقبرة، في النهاية، هي محصلة جهدٍ إنساني وثقافي-ديني لبناء علاقة مع الموت قائمة على الحدود، على الفصل الواضح مكانياً بين ساحة الحياة، المدينة، وساحة الموت، المقبرة؛ وعلى فصل آخر، أكثر وضوحاً، في الزمان، مبنيّ على طقس الجنازة والعزاء والبكاء، وعيش الحِداد الكافي لكي تكون ساحة الموت، أحياناً، أحياناً فقط، مكاناً تتلمّس فيه الحياةُ أطرافها لتتأكد أن كلّ شيء في مكانه، كما في طقس زيارة المقابر يوم العيد. سبق لياسين الحاج صالح أن ناقش معنى أن يكون للمرء قبرٌ يخصّه، وأن يكون المرء كاملاً في قبره، لا يتوزّع في قبورٍ كثيرة (قبرٌ للمرء جميعه: تبدلات موت السوريين وتغيرات حياتهمالجمهورية، آذار 2015). في حالة الرقة، ثمة بُعد فجائعي مُضاف في اختلاط الاختلاطات السابق ذكره بين الحياة والموت وساحتيهما: يستحيل، خصوصاً بعد مرور كل هذه الأشهر وتفسّخ الجثث، التمييز عيانياً بين جثمان مدنيّ وجثة مقاتل داعشي مات خلال المعارك عند فتح قبر جماعي أو العثور على «قبور طارئة» أو جثث متحللة تحت الأنقاض في نواحي المدينة، وليست وطأة هذا البُعد بقليلة على ذوي المفقودين، أكانوا مفقودين على يد التنظيم الإجرامي خلال حُكمه للمدينة، أو مفقودين اختفى أثرهم خلال شهور المعركة الطويلة، حين يجولون بين أكياس الجثامين المُستخرجة ويعرفون أنها خليط من دواعش ومدنيين، عليهم أن يُحاولوا التعرّف على ما تبقى من ذويهم ضمنها.

تحت سلطة الأمر الواقع القسدي-الأميركي، يعمل فريقٌ محلي، فريق الاستجابة الأولية، على فتح المقابر الجماعية التي حُدّدت حتى الآن، وعددها تسعة، تحوي كلّ منها ما بين «عشرات» إلى «مئات» من الجثث، ونقل الجثامين إلى مقبرة «رسمية»، هي تل البيعة، بعد بعض إجراءات محاولة التحقق من الشخصية والتوثيق البدائي وشبه العقيم فعلياً، إجراءات أدانت هيومن رايتس ووتش قصورها وبدائيتها وخطرها على إمكانية تحديد الهويات في المستقبل في تقريرٍ صدر مطلع تموز المنصرم. مصدر متابع لعمليات نقل الجثامين من المقابر الجماعية و«قبور الطوارئ» المتناثرة على طول المدينة وعرضها توقّع أن عدد الجثامين المنقولة تجاوز الـ 1600 جثة حتى الآن، أغلبيتها الساحقة غير مُعرّفة، إذ يستحيل التعرّف -بالتقنيات شبه المعدومة المتاحة- إن لم تَسلَم وثيقة أو هوية في ثياب الجثمان، أو إن لم يتعرّف أحدٌ على معلم واضح في الأسمال أو في المقتنيات، إن وُجدت.

يروي بعض حاضري عمليات فتح المقابر ونقل الجثث أنهم يصلّون على الجثث قبل إعادة دفنها في بادرة، لا شك نبيلة، تشير إلى رغبتهم في التمييز بين دفن جثة -حتى لو مجهولة الهويّة- وإهالة التراب على بقايا لحمٍ متفسخ وعظام مكسّرة. لكنها جثث دون هوية، ودون «بجّايات»، ودون شاهد باسمٍ أو تاريخ، ودون زيارة شخصية مُتوقّعة، ودون قراءة فاتحة مخصوصة، ودون معرفة إن كانت هذه الجثث لمدنيين قضوا خلال معارك «تحرير» الرقة، أو هم مقاتلون في صفوف داعش، أو هم من مفقودي المدينة ومخطوفيها على يد التنظيم الإجرامي خلال سنوات حكمه للمنطقة.

هنا، تبدو الصلاة عليهم أشبه بإجراءات تصفية أصول شركة بعد إفلاسها، وليس وداعاً طقوسياً وشخصياً لمنتقل من الحياة إلى ما بعدها، بغضّ النظر عن الإيمان بما بعدها من عدمه.

 

أشياء تتطاير

خلال تحضير هذا النصّ، ظهرت الأنباء عن قيام قوات النظام بنبش قبور شهداء المجزرة الكيماوية في 21 آب 2013 ونقل ما تبقى من الجثامين، بحثاً عن طمس البقية الباقية من الأدلة على الهجوم. يأتي هذا السلوك الإجرامي الجديد في وقتٍ يستمر فيه سعي النظام لتفريغ ما أمكن تفريغه من الأحياء والبلدات الثائرة عليه من سكانها، واقتلاع من بقي منهم أحياء بعيداً عن بيوتهم، وعن مدافن موتاهم.

ما يجب أن يكون ثابتاً بشكل «أبدي»، أي منبتُ الإنسان، البيتُ الذي له أن يعيش فيه، أو يعودُ إليه وقتما شاء، والقبرُ الذي يُدفن فيه حين يموت، يبدو سائلاً بشكل مُهين للمعنى الإنساني -ضربٌ من السيولة مُشابهٌ لما وصفه زيغموند باومان- على يد الواقع الذي أفرزه النظام، والإجرام الذي نمى وترعرع تحت جناحيه. بالمقابل، ما لا يجب أن يكون «أبدياً»، أي السلطة والقهر، فُرِضَ «أبده» على الناس بشكل مميت، أكان على يد نظام الأبد الأسدي، أو الأبديين الدواعش وأمثالهم.

يبدو أن تثبيت أبدٍ ما يقتضي، حكماً، نفي أي أبدٍ آخر، حتى لو كان أبد مقبرة.

تحطيم معادلات الأبد المميتة هذه ليس فقط نضالاً قيمياً مُحقّاً ضد معتدين مجرمين، بل هو أيضاً نوع من الدفاع عن «المجتمع» وطقوسه وحياته وآلامه وأزمنته أمام اعتداءات «التاريخ» وحتمياته وضروراته، كما يقول سانتياغو آلبا.

وأول تحطيم هذه المعادلات المميتة أن يُعوَّضَ أطفالُ الرقة، وغيرهم من أطفال سوريا، عن أعيادٍ كثيرة فاتتهم خلال السنوات المنصرمة، وأن يمرّ زمان على انتهاء آلامهم يكفي لكي تصبح بعيدة بما يسمح لهم بالفرحة مجدداً لرؤية أشياء تتطاير من حولهم، تلك الأشياء يجب أن تكون سكاكر، لا قذائف ولا شظايا ولا أنقاض. وإن تساقطت تلك السكاكر حول قبور أجدادٍ يسمعون، حيثما كانوا، ضحك أحفادهم، فهذا، حتماً، سيكون عيداً.