يبدأ تريلر فيلم القربان لإياد الجرّود بمشهد بات مألوفاً منذ بدأت الثورة السورية، مشهد جثامين الشهداء المحمولة على الأكتاف، الذي يُحيلنا مباشرة إلى عنوان الفيلم. ويعلنُ الجرّود في الفيديو الذي يمتد لدقيقتين وثلاث وعشرين ثانية عن فيلمه الجديد، عبر مشاهد متتابعة يظهر فيها متظاهرون ومقاتلون وسُكّان، وتظهر فيها صراعاتٌ تأخذنا إلى زمن يبدو بعيداً اليوم، إلى السنوات الأولى من الثورة السورية.

youtube://v/XSid41_6fag

في الفيديو تظهر وجوهٌ يعرفها معظم أبناء سراقب في ريف إدلب، ومن بينها وجه الشهيد محمد حاف، أحد رموز الثورة السلمية ثم المسلحة في المدينة. وفي العبارة المرافقة للفيديو، يعلن الجرّود عن هدف الفيلم بوضوح: «كي لا نترك لسياسة مسيطرة أو لقاتل منتصر أن يروي قصتنا ويكتب تاريخنا… كان هذا الفيلم».

هذا الفيلم هو الثاني لإياد، بعد فيلمه دفاتر العشّاق (حيطان سراقب)، الذي عُرِضَ للمرة الأولى في مهرجان روتردام السينمائي الدولي مطلع العام 2015، وعُرِضَ بعدها في عدة مهرجانات وفعاليات، بالإضافة إلى ثلاثة عروض تلفزيونية. وقد بدأ الجرّود الإعلان عن فيلمه الثاني عبر صفحة فيسبوك خاصة بالفيلم قبل أيام، وكانت أولى العبارات التي استخدمها: «اليوم أُسقِطُ عني عبْئاً آخراً كنتُ قد اخترتُ حمله وادَّعيتُ أمانتي به»، وعن هذه العبارة كان السؤال الأول الذي طرحته عليه في الحوار الذي أجريته معه:

ما هو العبء الذي تقول إنك أسقطته عن كاهلك بإنجاز هذا الفيلم؟

العبء هو الذاكرة والتفاصيل والوجوه والأصوات التي وثّقتُها خلال سنوات. الآن أُسقِطُ عني عبء الخوف من ضياعها، وعبء الخوف من فقدان الرسائل التي تحملها.

المسألة ليست شخصيةً هنا، لأنه بعيداً عن الملكية الشخصية للمواد بمعناها المجرد، وعند التفكير في محتوى هذه المواد، فإن المشاهد والقصص الكثيرة التي صورّتُها خلال سنوات الثورة هي توثيقٌ لأحداث عامة يتشاركها عدد كبير من الناس، وهذا يجعل منها وثيقة عامة. هي مرتبطة بأصوات وحياة أشخاص آخرين، وأنا لا أملك الحق في إخفائها، بل تقع عليَّ مسؤولية إيصالها بأفضل صورة أستطيعها. هي ذاكرة جمعية، بالإضافة إلى كونها وفي الوقت نفسه جزءاً من ذاكرتي الشخصية.

في التريلر، نرى مشاهد لمظاهرات ومعارك يبدو أن بعضها كان في أواخر 2011 أو أوائل 2012، أو هذا على الأقلّ ما قدّرتُهُ أنا من خلال لقطات للشهيد محمد حاف، الذي أعرفُ أنه استشهد ربيع 2012. ثمة سؤالان هنا: هل جميع المشاهد الفيلم من تصويرك؟ ولماذا ظلّت هذه المشاهد بما تتضمنه من وقائع وأحداث حبيسةً لديك كل هذا الوقت؟

مشاهد الفيلم بمعظمها من تصويري، مع مساهمات أرشيفية من بعض الأصدقاء، استعنتُ بها لاستكمال ما وجدتُ فيه نقصاً. أما السؤال الثاني، فهو يحمل في طيّاته صيغة تأنيبية، وهو التأنيب نفسه الذي أرهقتُ نفسي به دائماً، ودفعني أيضاً للقول «أُسقط عني عبئاً آخر».

هناك مستويان للإجابة على هذا السؤال؛ الأول أن الأحداث التي توثّقها مشاهد الفيلم ليست مخفيّة من الناحية الخبرية، بل تم نشرها سابقاً وكلٌّ في وقت حدوثه كخبر مكتوب أو مرئي. ما كان مخفيّاً هو الفاصل الزمني بين حدثين معلومين، وهذا الفاصل هو ما يمنحنا القدرة على صياغة القصة الكاملة، عبر تجميع تلك الفواصل الزمنية التي تخرج عن اهتمام وسائل الإعلام مع الأحداث المعلومة، وربطها معاً لتقديم مقطع من قصتنا وتاريخنا.

أما المستوى الثاني من الإجابة، فإنه يتعلق بما يبدو زمناً طويلاً تطلّبَه إنجاز الفيلم، وهذا في الواقع مرتبطٌ بمسائل كثيرة، من بينها الوقتُ الذي لزمني كي آخذ مسافةً عن أحداث شهدتُها بنفسي، وكنتُ جزءاً منها. ذلك بالإضافة إلى الزمن الذي تطلّبه تأمين المساحة والظروف الملائمة للمشاهدة والنبش في ساعات طويلة من التسجيلات المرئية، وهذا كان بمثابة استعادة للأحداث عبر آلة الزمن، أعدتُ من خلالها اختبار كلّ التفاصيل التي عشتُها بأملها وألمها، ولكن دون القدرة على تغيير مسار أيّ منها. ذلك فضلاً عن الصعوبة في تأمين الجانب المالي المتعلق بتكاليف إنتاج الفيلم، وتحديداً بسبب رغبتي في إنجاز المُنتج دون أي تدخلات من شأنها المساس بحريتي أو بمسار القصة، علماً أننا عملنا ضمن ميزانية منخفضة جداً، ولكن مع الحفاظ على جودة العمل بالشكل الأفضل.

قلتَ في إعلانك عن الفيلم على فيسبوك إنه «رسالة لمن أضلَّ السبيل»، من هم الذين ضلّوا السبيل؟ وعن أي سبيل نتحدث هنا؟

السبيل الذي أتحدثُ عنه هنا هو السبيل ذاته الذي دفَعَنا للقيام بالثورة، ودفع كثيراً من الشباب السوري للتضحية من أجله، هو سبيل الحرية والتغيير للوصول إلى بلد أفضل، يحترم كل من يعيشون فيه، ويستحق عيشهم فيه وانتماءهم له. هو السبيل المشترك العام الذي ادّعينا تشارُكَه، وصرخنا لأجله بإسقاط النظام كخطوة نحو الحرية، سيعقبها إطلاق عمليات التغيير الأعمق في المجتمع. ولكن منذ العام 2013، أرى أننا بدأنا الانتقال من زمن الثورة إلى ما أُسميه زمن العجز. أصبحت الغلبة للإسلاميين على الصعيد المسلح، تراجعت التظاهرات السلمية، وتراجعت فصائل الجيش الحر غير المؤدلجة، وخرج كثيرون عن السبيل المشترك العام، لخدمة إيديولوجياتهم الخاصة أو مصالحهم الشخصية.

الذين أخاطبهم قائلاً إنهم ضلّوا السبيل، هم جميع أولئك الذين كانوا يسيرون في السبيل العام، ثم غادروه إلى سُبُلهم الخاصة، الحزبية أو الفئوية أو الشخصية المصلحية.

هذا الفيلم يتحدث عن أولئك الذين قدّموا أرواحهم قرابين من أجل السبيل العام، سبيل الثورة والحرية.

عندما كنتَ تقوم بتصوير تلك المشاهد والأحداث، هل كان واضحاً في ذهنك ما الذي ستفعله بها؟ هل كنتَ تنوي أن تتجه إلى إخراج الأفلام الوثائقية؟

أنا مدرّسُ رياضيات في الأصل، ولم يكن تصوير الفيديو جزءً من حقل عملي قبل الثورة، طبعاً باستثناء اهتمامات شخصية بمتابعة السينما، لكن مع بداية الثورة كان هناك مسؤوليات ومجالات عديدة ينبغي النشاط فيها، ومن بينها المجال الإعلامي. وبسبب غياب الأشخاص ذوي التخصص، أو لنقُل قلّة عددهم، كنتُ واحداً من مئات السوريين والسوريات الذين انخرطوا في هذا المجال لتلبية حاجة طارئة.

في البداية كان الأمر يتعلق بنقل الأحداث وتصويرها وتوثيقها، وإعداد تقارير صحفية لتغطية الأحداث. تطورت خبرتي ومهارتي في التصوير بشكل تراكمي نتيجة العمل على أرض الواقع، وبدأتُ أهتمُّ بالتوثيق أكثر فأكثر إلى جانب العمل الإعلامي.

كنتُ مهتماً بحفظ كل التفاصيل، بما فيها التفاصيل الصغيرة كالشوارع والبيوت ووجوه الناس. كنتُ أرى أن كل شيء يحصل بطريقة جديدة، وفي ظروف لن تتكرر. ومع الوقت بدأت أرى كيف أن الأحداث لا تمتد على مدى قصير، بل هي ممتدة على فترات طويلة، بحيث أن التغطية الإعلامية اليومية الكثيفة، على أهميتها وضرورتها، ستجعل من استعادة القصة الكاملة لاحقاً أمراً معقداً. كان كل شيء حولي يتغير، الأشخاص يرحلون موتاً أو اعتقالاً أو هجرة، والأحداث تتعقد وتتداخل، وحتى معالم الأمكنة راحت تتغير جرّاء القصف. ذاكرتنا كانت تتبعثر، بما فيها الذاكرة البصرية، وبات علينا أن نفكر في وسائل لحفظها.

لا أذكر تحديداً الوقت الذي خطرت فيه على بالي فكرة إخراج أفلام وثائقية، ولكنني أذكر جيداً رغبتي في حفظ كل هذه التفاصيل، وتحديداً تلك التي تبتعد عنها الكاميرات الشغوفة بالخبر كحالة جزئية مؤقتة، دون اهتمام بما يدور في فضاء هذا الحدث، وبما يسبقه وما سينتُج عنه.

وعلى أي حال، أنا لا أسعى في ما أقوم به إلى أن يقترن اسمي بكلمة مخرج، فالسينما بالنسبة لي هي وسيلةٌ وحاملٌ لبعض من رسائلي، الخاصة منها أو العامة، والتي يمكنني صياغتها بلغة سينمائية، ولكن في مكان آخر قد أجد نفسي أصوغ تلك الرسائل بطرق أخرى مختلفة، كالكتابة أو الصورة أو أي وسيلة أخرى من شأنها أن تساعد في البوح.

غادرتُ سوريا للمرة الأولى في أيار 2013، مع صعود داعش، في بداية زمن العجز الذي تحدثتُ عنه، لكنني عدتُ إليها مؤقتاً في كلّ من العامين 2014 و2016، في اختبارين مؤلمين لسنا في صدد الحديث عنهما هنا.

غادرتُها خوفاً على صوتي وحريتي، وبحثاً عن مساحة أوسع للحرية والعمل على ما أؤمن به، مساحة تمكنني من صياغة تلك الوثائق لرواية جزء من الحكاية. نحن نعيش حرباً مع الذاكرة، تجعل حكايتنا مهددة بالضياع اليوم بسبب رحيل أبطالها، وبسبب تراكم الأحداث وتراكبها في الذاكرة، حتى بات صعباً الاحتفاظ بها بوصفها أحداثاً استثنائية، بل باتت تبدو أحداثاً اعتيادية مختلطة ببعضها بعضاً، بحيث تصعب استعادتها في سياقها التاريخي.
يضاف إلى ذلك كله شعورٌ بالهزيمة على المستوى الجمعي العام، يجعل من حكايتنا مهددة بالضياع بدوره أيضاً، رغم عدم اعترافي بالهزيمة على المستوى الفردي، على الأقلّ بالنسبة لكلّ من آمن بحريته حقاً.

سأعود إلى عبارات استخدمتَها في إعلانكَ عن الفيلم. قلتَ إنكَ ادّعيتَ الأمانة في حمل الرسالة، وتحدثتَ عن الحقيقة التي أنجزت الفيلم خدمة لها. لكن ثمة مشكلة في مفهوم الحقيقة نفسه كما تعرف؛ هل ترى فعلاً أن فيلمك يقول الحقيقة؟ أو أن ثمة حقيقة مجردة يمكن التعبير عنها؟

الإجابة تحضر في قلب سؤالك نفسه. أنا أدّعي أنني كنتُ أميناً للحقيقة قدر الإمكان، ولم أقل إنني قدمتُ عين الحقيقة. وواقع الحال أنني بذلتُ جهداً من أجل الإيفاء بهذه الأمانة، وهذا الجهد كان على صعيد كيفية اختيار المشاهد وترتيبها لصياغة القصة، وعلى صعيد الخيارات الفنية نفسها. هذا الفيلم أقرب إلى سينما الحقيقة، ليس فيه مشاهد متعمدة تم تصنيعها أو افتعالها من أجل الفيلم، وليس فيه تعليقٌ صوتي على الأحداث (فويس أوفر) من شأنه توجيه المُشاهد والتأثير في نظرته لما يجري، بل هو يعتمد على مشاهد وأحاديث عفوية كانت ابنة ظرفها ووقتها وواقعها، وحتى الخلفية الصوتية للفيلم تعتمد على أصوات الواقع، وعلى إيقاعات موسيقية تنتمي إلى البيئة نفسها بما فيها العتابا. الموسيقا التي نسمعها في التريلر على سبيل المثال تعتمد على الإيقاعات الرائجة التي يسمعها أبناء المنطقة التي تدور فيها أحداث الفيلم، وقسمٌ منها تمّ حفظه من الزمن الفعلي للفيلم. وهنا تجدر الإشارة إلى الفريق الذي عمل متطوعاً على موسيقى الفيلم، حارث المهيدي وبليغ سليمان.

لكن يبقى أن أقول إن الحياد خرافة، وإن الحقيقة مرتبطة بزاوية النظر إلى الحدث. لقد توخيتُ الأمانة والعدالة بكل ما أوتيتُ من قوة، لكنني في النهاية أنتمي للفيلم. الفيلم هو مقطعٌ من حياتي نفسها.

من هي الجهات التي موّلت إنتاج الفيلم؟ ومتى سيكون عرضه الأول؟

تم إنتاج الفيلم بمنحة مقدمة من مؤسسة بدايات للفنون السمعية البصرية، والمعهد الثقافي البريطاني، وشبّاك: نافذة على الثقافة العربية المعاصرة. ونحن الآن في مرحلة الإعلان عن الفيلم، وخلال الفترة القادمة ستكتمل الاستعدادات، ويتم الإعلان عن آليات وأماكن العرض.

سأعودُ في سؤالي الأخير إلى اسم الفيلم، القربان، وسيعتمدُ السؤال على مشاعر شخصية انتابتني أثناء مشاهدة الفيديو. كان وقعُ كلمة القربان قاسياً جداً بالنسبة لي وأنا أرى في الفيديو وجوهاً أعرفُ أن أصحابها قدّموا أنفسهم قرابين، ذلك لأنه في ظروف تراجع الثورة، وانتصار وتقدّم قوى الطغيان، تبدو كلّ هذه القرابين التي قدمها السوريون كما لو أنها كانت من أجل لا شيء. من أجل ماذا كان القربان الذي تتحدث عنه في فيلمك؟

لا أتفقُ مع القول إن هذه التضحيات كانت من أجل لا شيء. كانت التضحيات من أجل أن تتغير سوريا ويتغير السوريون، وقد تغيرت وتغيروا معها ولن يكون ممكناً الرجوع إلى الوراء، وهذا يعيدنا أيضاً إلى فكرة الهزيمة العامة والهزيمة الفردية.

ليس العالم جميلاً ومثالياً كما كنا نحلم، ولكن رغم ما وصلنا اليه من ألم يلاحقنا كأحياء، فإن كثيراً من السوريين عانقوا حريتهم، وسيكون عناقهم لها أبدياً، ككلّ الشهداء الذين قدموا حياتهم بإرادتهم قرباناً وهم في ذروة نشوة الحرية.

في الحالة السورية، التضحية فعلٌ يوميٌّ يمارسه كثيرٌ من السوريين، ليس فقط عبر تضحيتهم بأرواحهم أحياناً، أو عبر كونهم ضحايا في أحيان أخرى، وإنما تتسع هذه التضحية لتشمل كل تفاصيل حياتهم.

التضحية التي نقدّمها بكامل إرادتنا وحريتنا من أجل الآخرين، ومن أجل القيم التي نؤمن بها، هي ما نتقاطع معه في فيلم القربان.