حين شاهد الجمهور الإسباني مراسم دفن الجنرال فرانكو في «وادي الشهداء» في الثالث والعشرين من تشرين الثاني عام 1975، لفتَ حجم البلاطة التي أُغلق بها قبر الديكتاتور أنظار كثيرين. لم تكن بلاطة فخمة، إذ كانت عبارة عن مستطيل من الحجر الأبيض، يتجاوز سمكه العشرين سنتمتراً، وقد كُتب عليه فقط اسم فرانثيسكو فرانكو، لكن البلاطة بدت ضخمة وثقيلة وهي مسجاة على اسطوانات معدنية ضخمة تسهّل تحريكها لتغطية حفرة قبر فرانكو، وقد عُرف لاحقاً أن وزن هذه البلاطة يتجاوز الطن والنصف، ما أثار عدداً كبيراً من النكت والسخرية في أوساط معارضة فرانكو، التي استحسنت ثِقل البلاطة الجاثمة فوق جثمانه، لتمنعه من رفع رأسه في حال غيّر رأيه وقرر العودة إلى الحياة.
اليوم، بعد ثلاثة وأربعين عاماً على وفاة الديكتاتور الذي حكم إسبانيا ستة وثلاثين سنة، تلت انتصاره في الحرب الأهلية الإسبانية، يبدو أن البلاطة الشهيرة على وشك أن تتحرّك لنقل ما تبقى من رفات الديكتاتور من قبره الحالي، الواقع أمام المذبح المركزي لكنيسة دير البندكتيين في «وادي الشهداء»، إلى مكانٍ آخر لم يُحدّد بعد، وسط عاصفة سياسية وإعلامية بدأت منذ أن أعلن بيدرو سانشيث، رئيس الوزراء، عن نيّته إخراج رفات الديكتاتور من ضريحه المهيب الحالي بعد أيام قليلة من تولّيه منصبه قبل شهرين إثر حجب الثقة عن حكومة سلفه ماريانو راخوي.
يقع «وادي الشهداء» في وادي كويلغاموروس، وسط سلاسل جبال غواداراما، شمال العاصمة الإسبانية مدريد، وهو عبارة عن مجمّع ضخم، محفور داخل الصخور الجبلية الضخمة، يحوي ديراً للرهبان البندكتيين، ومبانٍ خدمية وإدارية، ومجموعة من الصالات والمذابح الدينية، تتوسّطها كنيسة ضخمة تقع داخل التجويف الاصطناعي في تلّة صخرية عالية، يزيّن قمّتها صليبٌ ضخم طوله أكثر من 150 متراً. وقد تقرّر بناء المُجمّع هذا عام 1940، أي بعد عامٍ واحد من انتصار القوميين الكاثوليكيين بزعامة فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، واستغرق بناؤه أكثر من 18عاماً، استُخدم خلالها الآلاف من أسرى الحرب والمعتقلين السياسيين لحفر الأنفاق والتجويفات داخل الجبال، كما دُفن في محيط المجمع، وداخل التجاويف الصخرية نفسها، عشرات الألوف من قتلى الحرب الأهلية من الطرفين (تشير الوثائق الرسمية في دير البندكتيين الواقع داخل المجمّع إلى 34000 قتيل مدفون في المجمع ومحيطه، في حين تذهب مصادر مختلفة إلى أرقام تصل لـ 60000 ألف قتيل). ووسط الكنيسة المركزية للدير، حيث دُفن فرانكو نفسه لاحقاً، دُفن خوسي أنطونيو بريمو دي ريفيرا، مؤسس حزب الكتائب الإسبانية، الذي أعدمته السلطات الجمهورية بعد شهور قليلة من اندلاع الحرب الأهلية عام 1936.
بهندسته وتوزيعه، وبرود مبانيه وقسوة ملامحها، إضافة للكم الهائل من التماثيل والرموز والتروس المنقوشة على الجدران، والصليب الحجري الضخم الذي يترأس أعلى الجبل، يبدو مجمع «وادي الشهداء» وكأنه ثقب أسود يجمع كل «الكيتش» العسكريتاري القومي-الكاثوليكي الممكن في هكتاراته الـ 1400. وفي حين شُيّد مبدئياً لتخليد ذكرى «الانتصار الملحمي» في «الحملة الصليبية الكبرى لإنقاذ إسبانيا من الشيوعيين»، إلا أن محاولات تخفيف رمزيته القومية- الكاثوليكية، فاشستية المعالم بوضوح، بدأت منذ نهاية خمسينات القرن العشرين، بالتزامن مع سياسات الانفتاح التي حاول نظام فرانكو انتهاجها، والتي اقتضت التخلي عن خِطاب الحرب الأهلية الإبادي، ومحاولة خطف مفهوم «المصالحة الوطنية» وإيجاد صيغة فرانكوية منه مُناقضة لاستخدام المعارضة، وعلى رأسها الحزب الشيوعي بزعامة سانتياغو كاريجو، تجمع المنتصرين والمهزومين ضمن رمزية القومية- الكاثوليكية العسكريتارية المخففة. حينها، بدأ الحديث عن «وادي الشهداء» بصفته موقعاً لروحيّة المصالحة، يُصلّي فيه الرهبان البندكتيون من أجل أرواح الذين سقطوا دفاعاً عن إسبانيا.
بأي حال، لم يبنِ فرانكو «وادي الشهداء» كي يكون ضريحاً له، ولم يترك أيّ وصيّة حول مكان دفنه، ربما لأنه لم يتوقّع أنه يمكن أن يموت، على ما تقوله نكتٌ كثيرة حوله. ولم يتقرر دفن فرانكو في «وادي الشهداء» إلا بعد أن توفي الديكتاتور في العشرين من تشرين الثاني 1975، إثر سجالات بين مؤسسات النظام المختلفة وعائلته، حسمها خلفُه، ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس الأول، الذي بادر مُراسلاً كبير الرهبان البندكتيين في دير «وادي الشهداء» لكي يُفسح المجال لدفن الديكتاتور في الكنيسة المركزية، بجانب بريمو دي ريفيرا.
عدا السنوات الأولى بعد وفاة الديكتاتور، حين كان نوستالجيوه يجتمعون كل عام في ذكرى وفاته بالآلاف، وقع «وادي الشهداء» في النسيان عموماً –أسوةً بكل ما يتعلّق بالذاكرة التاريخية والرمزية الكثيفة للمنتصرين في الحرب الأهلية وغياب أي سياسة للدفاع عن حقوق ضحايا الحرب الأهلية وديكتاتورية فرانكو- خلال عقدي الثمانينات والتسعينات وجزء كبير من عقد الألفينات، إذ كان مجموع زوّار المجمّع السنويين لا يتجاوز المئتي ألف في أحسن الأحوال، أغلبيتهم الساحقة فضوليون أو سياح عابرون من مناطق الاصطياف الجبلي المحيطة بالوادي. ولكن إقرار البرلمان الإسباني قانون الذاكرة التاريخية بمبادرة من حكومة ثاباتيرو عام 2007 أعاد «وادي الشهداء» إلى قلب النقاش الحاد حول ضرورة مسح الأضرحة والنصب التذكارية والرموز العائدة لزمن فرانكو، وإحقاق حقوق ضحايا الحرب الأهلية والديكتاتورية، لا سيما عائلات عشرات الألوف من مفقودي تلك الحقب، والذين تقبع جثامينهم في آلاف المقابر الجماعية في سائر الجغرافيا الإسبانية، ما يجعل إسبانيا، إلى اليوم، ثانية التصنيف العالمي من حيث عدد المفقودين في مقابر جماعية، تتقدّمها كمبوديا وحدها. لكنّ المقاومة العنيفة التي أبداها الحزب الشعبي اليميني لقانون الذاكرة التاريخية، وقصورات عديدة في صياغة القانون والقوانين المرافقة، لا سيما في ما يتعلّق بإنشاء هياكل إدارية لتمويل وإدارة تنفيذه، جعلته يولد أعرجاً، ثم سقط مشلولاً بفعل الأزمة الاقتصادية التي عصفت باسبانيا اعتباراً من 2008.
وقد عاد السجال اليوم عن «وادي الشهداء» إثر إعلان رئيس الوزراء الجديد، بيدرو سانشيث، عن قراره نقل رفات الديكتاتور إلى مقبرة خاصة في أولى مقابلاته الصحفية إثر تسلّمه منصبه، ورغم أن الخطوة تبدو باحثة عن شدّ العصب اليساري حول الحزب الاشتراكي بعد سنوات عديدة من الخسارات المتتالية للقاعدة التاريخية للحزب لصالح قوى اليسار الجديد الصاعدة، مثل بوديموس والمنصات السياسية المحلية في المدن الكبرى، وهي كذلك فعلاً من وجهة نظر التحليل السياسي، إلا أن موضوع «وادي الشهداء» ليس مستجداً في خطاب بيدرو سانشيث، إذ تمسّك به منذ استلامه الأمانة العامة للحزب الاشتراكي، ونجح في أيار 2017 في انتزاع أغلبية برلمانية لمقترح غير مُلزم لنقل رفات فرانكو وإعادة تكوين «وادي الشهداء» بما يُنهي رمزيته الفاشوية ويحوّله فعلاً لنصب يُخلّد ذكرى كل ضحايا الحرب والديكتاتورية، وقد شملت تلك الأغلبية كافة الكُتل البرلمانية عدا كتلة الحزب الشعبي اليميني، الذي آثر الامتناع عن التصويت.
يُتوقَّع أن يتم نقل رفات فرانكو قبل نهاية الصيف، إذ تعمل الحكومة الآن على إيجاد مخرج قانوني لهذه الخطوة بعد أن رفضت عائلة الديكتاتور التعاون معها واستلام بقايا الجثة لدفنها في مقابر العائلة، ما يعني أن الحكومة ستكون مسؤولة عن إيجاد مآلٍ لها. إضافةً للعائلة، يرفض كبير الرهبان البندكتيين في دير «وادي الشهداء» -والذي يحتفظ بعلاقة طيبة جداً مع عائلة الديكتاتور- السماح للفرق التقنية بالدخول إلى الدير بشكل طوعي، ما يضع الحكومة في مأزق، لأن الدير، بوصفه معبداً دينياً، له حُرمة قانونية. أياً تكن مآلات المناورات القانونية للحكومة، وردود الأفعال المُصاحبة لها، تكفي الإشارة لحاجة حكومة شرعية، مدعومة بأغلبية برلمانية، للمناورة من أجل تنفيذ قرار مُدعّم قانونياً لتبيان الإطار القلق لموضوعة الذاكرة التاريخية في بلد مثل إسبانيا، لم يعش «قطيعة ديموقراطية» حقيقيّة مع الحقبة الديكتاتورية كما حصل في ألمانيا أو إيطاليا حين هُزمت النظم الفاشية والنازية في الحرب، أو في البرتغال أو في دول أوروبا الشرقية حيث حصلت ثورات أو انهارت النظم الديكتاتورية، بل عملية انتقالية توافقية، مبنيّة على مزيج من توازنات الضعف والذعر من احتمالات الانقلابات العسكرية، وسّعت قاعدة المشاركة السياسية لتشمل المعارضة التاريخية لنظام فرانكو، وعملت على تهميش القطاعات الأكثر راديكاليّة على يمينها ويسارها، بشكل مُموّه ودون الكثير من الضجيج، ما ترك عدداً هائلاً من الملفات غير المحسومة، بانتظار «نسيان جماعي» لم يأتِ رغم مرور العقود تلو العقود.
البلاطة نفسها التي أثارت سخرية معارضي فرانكو يوم وُضعت فوق جثمانه، تثير اليوم سجالاً عنيفاً بعد 43 عاماً مع نوايا تحريكها مجدداً، بين موافقين بحماس ومُطالبين بالمزيد من الخطوات من هذا النوع؛ ورافضين لتحريك الديكتاتور من ضريحه، وهؤلاء قِلّة وإن كان صوتهم عالياً الآن بسبب غضبهم الشديد؛ والذين يُعبّرون عن أن هذه الخطوة لا تهمّهم كثيراً أو لا يرون لها داعياً الآن. يدل هذا الاستقطاب الناشب عند كلّ محطة يُفتح فيها موضوع الماضي، بمنتصريه ومهزوميه وضحاياه وكوابيسه، على أن الذاكرة التاريخية ليست شأناً من الماضي، بل أنها أكثر حتى من الحاضر، إذ أن فيها أساسات عديدة لأيّ مستقبل ممكن.