شهدت ميونخ، عاصمة بافاريا في ألمانيا، نزول عشرات ألوف المتظاهرين إلى الشوارع يوم الأحد 22 تموز 2018، منددين بسياسات الخوف والتحريض، ومطالبين بمزيد من الانفتاح والإنسانية في السياسة. وكانت مبادرة «معاً من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان» قد دعت إلى هذه المظاهرات تحت شعاري «لا للتحريض» و«ميونيخ ستبقى تعددية»، وذلك رفضاً لسياسات الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، صاحب الأغلبية البرلمانية في الإقليم، والذي يتزعمه وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر.

تأتي هذه المظاهرات في أعقاب الخلاف بين زيهوفر وميركل حول قضية اللاجئين، الذي كاد يطيح بالائتلاف الحاكم في ألمانيا، وانتهى بعد أن وافقت ميركل وحزبها بضغط من زيهوفر وحزبه على إنشاء «مراكز عبور» على المعابر الحدودية مع النمسا لوضع طالبي اللجوء المسجلين في دول أوروبية أخرى فيها، ومن ثم إعادتهم إلى هذه الدول وفق اتفاقات ثنائية، وهو ما بدا انتصاراً لأفكار اليمين المتطرف.
جاءت هذه المظاهرات رداً من قلب بافاريا نفسها على سياسات الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، إذ بدعم ما يقارب 130 منظمة من منظمات المجتمع المدني في ولاية بافاريا، من ضمنها نقابات عمالية وكنائس ومنظمات دعم للاجئين، فاقت أعداد المتظاهرين توقعات المنظمين أنفسهم، لتصل إلى نحو 50 ألفاً بحسب المسؤولين عن المظاهرة، وما يزيد على 25 ألفاً بحسب تصريحات الشرطة.

حمل المتظاهرون أعلام الاتحاد الأوروبي ولافتات تدعو للسلام وتنبذ الحرب والانغلاق والتحريض، وتدعو إلى إدماج اللاجئين بدل شيطنتهم وإلى الإنسانية بدل الشعبوية، كما لم تغب الحروف العربية عن اللافتات على غرار لافتة «من درعا إلى حلب ومن ميونيخ إلى برلين، من أجل الكرامة». لكن نصيب قادة الحزب المسيحي الاجتماعي من اللافتات كان الأكبر، إذ دعتهم بعضها إلى ممارسة سياسة أكثر حكمة، فيما اتهمتهم لافتات أخرى بالنفاق وطالبتهم بالتنحي. قالت إحدى اللافتات: «مرحباً زيهوفر: أعز أصدقائي هو لاجئ».

في ساحة كونيغ بلاتز التي امتلأت عن آخرها بعشرات الألوف من المحتجين، منهم الطلاب والفنانون المشهورون والجماعات الكنسية ونقابات العمال وفرق غنائية، تحدّث أحد المتظاهرين من على المنصة مخاطباً الحزبَ الاجتماعي المسيحي: «عودوا إلى قيمكم المسيحية، إلى ما يقوله القلب، إلى التسامح والانفتاح، أفسحوا الطريق للأحزاب الأخرى»، لتتعالى أصوات الصفير والتصفيق.

وفي لقاءات نشرتها جريدة زود دويتشلاند مع المتظاهرين عن سبب خروج الناس للتظاهر رغم المطر والرعود، أجابت امرأة ألمانية مسنة أن السبب هو أنها لا تحب كلاً من زيهوفر قائد الحزب وزودر رئيس وزراء بافاريا، وأن ما يغضبها هو أن ملايين الشباب سيدفعون غداً ثمن حماقات الساسة اليوم. فيما شاركَ رجلٌ آخر السيدة بغضها للرجلين وتطرفهما نحو اليمين، وطالب شاب ثلاثيني بسياسة أكثر انفتاحاً وإنسانية. كما قالت إحدى الراهبات المشاركات لموقع شبيغل أون لاين إن أوروبا ولخمسة آلاف سنة كانت تأخذ من إفريقيا كل ما تحتاجه، واليوم تغلق أبوابها أمام الأفارقة وتقول لهم: فلتذهبوا إلى بلادكم، ما الذي تريدونه من أرضنا؟ وتضيف أن على الحزب أن يتمسك بقيم المذهب المسيحي الذي ينتمي إليه.

وكان زودر القيادي في الحزب ورئيس وزراء بافاريا قد اشتهر بمصطلح «لجوء السياحة»، الذي كان يطلقه عند مباحثات أزمة اللاجئين، مما عرضه لحملة انتقادات كبيرة، كما أن زيهوفر قائد الحزب كان قد عبّرَ عن فرحه بتزامن ذكرى ميلاده التاسعة والستين مع ترحيل تسعة وستين لاجئاً، وهو ما أثار حملة انتقادات غاضبة، خصوصاً بعد أن نشرت الصحافة خبر وفاة أحد هؤلاء اللاجئين منتحراً. وقد أظهر آخر استطلاع للرأي أجرته انفراستيد ديماب، أن نسبة التأييد للحزب قد تراجعت ثلاث نقاط، لتصل إلى أقل نسبة في تاريخه، في حين ارتفعت نسبة التأييد لحزبي الخضر واليسار المدافعَين عن حقوق اللاجئين بمقدار ثلاث نقاط.

تأتي هذه المظاهرة وما رافقها من نقاشات في وقت تقترب فيه الانتخابات البرلمانية في بافاريا، وهي تشير إلى أنه في الوقت الذي كانت فيه قيادة الحزب الاجتماعي تسعى إلى عدم خسارة الناخبين ذوي التوجهات اليمنية المتطرفة، فإنها تفقد بالمقابل تأييد كثيرين في الوسط، وهم أولئك الذين يبدون غير مستعدين للسير معها في رحلتها نحو المزيد من الشعارات والسياسات اليمينية.

وقد حاول الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري أن يعيق خروج المظاهرة، مستبقاً إياها بحملة دعائية مضادة، وبتعليق عدد كبير من اللافتات مساء اليوم الذي سبقها، مكتوب عليها: «نعم للباقة السياسية، لا لحملة «لا للتحريض»، ميونيخ لن تتأثر بدعوات التحريض». كما نشر الحزب على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي أن «ميونخ لن تستمع للمحرضين، فالشعب في الولاية يعرف من لديه في الحزب». وكانت صحيفة زود دويتشلاند قد أشارت في هذا السياق إلى الخوف والقلق الواضح لدى قادة الحزب، متمثلاً في محاولتهم الوقوف في وجه التظاهرات، الأمر الذي لم يسبق لهم في تاريخ مسيرة حزبهم أن فعلوه، وأضافت: «لو أن تظاهرات مشابهة حدثت في أيام مجد الحزب وقوته لم يكن ليعرها بالاً، لكن تخبط الساسة وقلقهم يشير إلى خوفهم، وهذا بحد ذاته نجاح للمتظاهرين».

على أي حال، يبدو أن محاولات الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري لم تُثنِ الناس عن الخروج في التظاهرات، بل قد يكون أسلوبه الاستفزازي هو ما دفع كثيرين للمشاركة، إذ علّقَ أحد المشاركين في التظاهرات ضمن حديثه مع قناة أي آر دي: «لقد فكرتُ صباحاً بعدم القدوم بسبب المطر، لكن حملة الحزب المضادة ولوحاتهم في الطرقات حملتني إلى التظاهرة حملاً».

ضمت الاحتجاجات بعضاً من اللاجئين والعرب، ومن بينهم عدي المعصراني الذي كتب على تويتر من موقع الحدث: «اليوم حسيت بقيمتي كإنسان عند البشر، لما 26 ألف حدا حواليك كلهن واقفين كرمالك، بتحس في 26 ألف حضن عم يقلك لا تخاف، نحن هون دايماً كرمالك».