لم تتأخر كبرى وسائل الإعلام الأميركية عن شنّ هجومٍ قاسٍ على دونالد ترامب عقب المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي جاء ختاماً لقمّة هلسنكي التي جمعت الرئيسين، إذ اعتبر كبار المحللين من أصحاب المواقف النقدية لإدارة ترامب أن الرئيس الأميركي لم يتصرّف وفقاً للتوقعات التي أشارت إلى أنه سيكون ودوداً للغاية مع الرئيس الروسي، وأنه سيتجنّب أي إشارة نقدية لسلوك الكرملين بما يخص الملفات العالقة بين البلدين فحسب، بل بدا، في مواقع عديدة ضمن المؤتمر الصحفي، وكأنه أقرب لأطروحات الرئيس الروسي من قربه لمؤسسات الدولة الأميركية، التي يرأسها، ودوائر استخباراتها. ففي مقالتيهما في واشنطون بوست ونيويوروك تايمز، اقترب ديفيد إغناطيوس وتوماس فريدمان من اتهام الرئيس الأميركي بالخيانة العظمى والوقوف في صفّ روسيا ضد الولايات المتّحدة، الاتهام الذي عبّر عنه جون برينان، مدير وكالة المخابرات الأميركية السابق، في تغريدة شديدة الغضب طالبت «الوطنيين في الحزب الجمهوري» بالتحرّك ضد ترامب.
وقد كان رد ترامب على سؤال جوناثان لومير، مراسل أسوشيتد برس، حول إن كان يصدّق أجهزة الاستخبارات الأميركية أم المسؤولين الروس بما يخص الاتهامات بتدخلات روسيّة لصالحه خلال الانتخابات الرئاسية عام 2016 هو ما تسبب بالجانب الأكبر من الهجوم، إذ ردّ ترامب، عقب إشارته إلى أنه لا يرى منطقاً في اتهام روسيا، بأنه «يثق بالطرفين». وقد أتى جواب ترامب هذا بعد يومين من توجيه روبرت مولر، المدّعي العام المكلّف بالتحقيق في التدخلات الروسية في الانتخابات الأميركية، الاتهام رسمياً لاثني عشر ضابطاً في الاستخبارات الروسية لدورهم في قرصنة كمبيوترات ومخدّمات الحزب الديموقراطي ونشر وثائق سرّية للحزب خلال الحملة الانتخابية. لكن عموم أداء ترامب خلال المؤتمر الصحفي لقي تحليلاً غاضباً وناقداً في كبريات الصحف الأميركية، وردود أفعال سياسية معترضة، ليس فقط ضمن دوائر الحزب الديموقراطي، بل أيضاً ضمن الحزب الجمهوري.
عدا عن الالتحاق الوديع بالرواية الروسية حول اتهامات التدخّل في الانتخابات الرئاسية عام 2016 لصالحه، بدا ترامب أقرب لروسيا أيضاً في تحميله «الطرفين» مسؤولية تدهور العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، مع جرعة إضافية من الثرثرة الموتورة على تويتر ضد الإدارات الأميركية السابقة، التي تصرفت «بغباء» و«حماقة» أديا لضرب العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. كما لم يوجّه ترامب أي انتقاد علني لروسيا بخصوص ضمّها شبه جزيرة القرم بالقوّة، ولا بخصوص السلوك الروسي في سوريا، ولا تهديدات الكرملين لأوروبا، ولا-بطبيعة الحال- لأوضاع الحريات وحقوق الإنسان في الداخل الروسي. وقد عبّر ترامب عن عناية خاصة بملف السلاح النووي وضرورة التوافق بين البلدين على ضبطه، كما قدّم تصريحات إيجابية تجاه روسيا في ملف الطاقة وضرورة أن تأخذ تجارة الغاز والنفط الروسية باتجاه أوروبا منحىً طبيعياً، رغم أنه كان قد شنّ هجوماً جديداً على أنغيلا ميركل عشية قمّة رؤساء دول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، متّهماً إياها بالتبعية لروسيا بسبب الربط الكبير للاحتياجات الألمانية للطاقة بالمستوردات من روسيا. للمفارقة، كان هذا التصريح الجديد ضد أنغيلا ميركل هو الوحيد الذي أبدى فيه الرئيس الأميركي بعض التحفّظ على روسيا ونفوذها.
لم تحمل قمّة هلسنكي، على الأقل ضمن التصريحات والإعلانات الأولية الصادرة عنها، مستجدات مهمة بما يخص الملفات العالقة بين البلدين خارج القول المتكرر بإيجابيتها كخطوة أولى لتقريب وجهات النظر وترتيب المصالح المشتركة، وأنها خطوة جديدة نحو نسق مختلف من العلاقات، في ودّ يتناقض مع الجفاء والعجرفة وانعدام الدبلوماسية في سلوك ترامب خلال باقي جولته الأوروبية، أكان خلال قمّة دول حلف شمال الأطلسي في بروكسل، أو في زيارته لبريطانيا خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي.
كان ترامب قد سخّن أجواء قمّة دول حلف شمال الأطلسي قبل أيام حين أطلق تصريحات متكررة ضد الدول الأعضاء، متهماً إياها بالتقصير في تمويل الحلف مقارنةً بدور الولايات المتحدة فيه، ومطالباً إياها بمضاعفة مخصصاتها للإنفاق العسكري ضمن ميزانياتها، وصولاً لـ 4% من الناتج القومي للدول. وقد نالت ألمانيا نصيب الأسد من الانتقاد الترامبي الشديد، وإن لم يوفّر الرئيس الأميركي أحداً في انتقاداته. لم تغب الكياسة الدبلوماسية واللغة السياسية عن تصريحات ترامب فحسب، بل تصرّف طوال الوقت وكأن حلفاءه هم، في الواقع، عبءٌ عليه، عبءٌ يحتقره بشدّة.
إثر قمّة الناتو، زار دونالد ترامب المملكة المتحدة في أحد أسوأ أسابيع السياسة البريطانية خلال السنوات الأخيرة. وقد نالت تيريزا ماي نصيبها من انتقادات الرئيس الأميركي بسبب أسلوبها في إدارة ملف فكّ الارتباط بالاتحاد الأوروبي (بريكست)، معتبراً، في لقاء أجراه مع جريدة ذا صَن، أن بوريس جونسون يمكن أن يكون رئيساً ممتازاً لحكومة المملكة المتحدة، ما يشكّل إهانةً كبيرة لرئيسة الوزراء الحالية. بدورها، أشارت تيريزا ماي في حوار مع أندريو مار على بي بي سي إلى أن ترامب أشار خلال لقائه معها أن عليها أن تُقاضي الاتحاد الأوروبي بدلاً من التفاوض معه.
للاتحاد الأوروبي، ككتلة، نصيبه من انتقادات ترامب خلال تصريحاته الصحفية ضمن الجولة الأخيرة، ففي مقابلة مع قناة سي بي أس، لم يتورّع ترامب عن اعتبار الاتحاد الأوروبي «معادياً»، بسبب سياساته التجارية. وقد استخدم التعبير نفسه في حديثه عن روسيا والصين، وإن أشار في هاتين الحالتين أنهما «أعداء» في بعض المجالات فقط، وأن هذا «العداء» لا يعني أنهم، أي روسيا والصين، «سيئون» بل فقط «تنافسيون».
ينهي ترامب جولته الأوروبية وقد مَنح الكتّاب الصحفيين والمحللين كمية هائلة من المصادر المفيدة في تركيب وإنماء مفهوم «اللادبلوماسية» -مزيج العدوانية والازدراء والتدخّلية العلنية الفجّة وسهولة التعبير العلني والثرثار عن آراء مهينة لرؤساء دول أخرى- الذي بات مصاحباً لسياسة ترامب الخارجية وسلوكه وتصريحاته بخصوص الحلفاء والشركاء قبل الخصوم والأعداء؛ كما منحت هذه الجولة مواداً إضافية لخصومه الداخليين لمهاجمة فرط اللين الذي يبديه ترامب تجاه الكرملين، ما يغذّي النظريات حول مستمسكات بحوزة بوتين ضدّه. أياً تكن حقيقة هذه النظريات، ما لا شك فيه أن لدى ترامب دبلوماسية، ودبلوماسية فائقة النعومة، مخصصّة فقط لفلاديمير بوتين.