مساء الخامس والعشرين من أيلول من عام 1985، اقتحم ثلاثة رجال مسلحين حانةً تابعة لفندق مونبار وسط الحيّ التاريخي في مدينة بايون، وهي إحدى مدن القطاع الفرنسي من إقليم الباسك، وفتحوا النار على مجموعة من الزبائن الجالسين على طاولة واحدة. قُتل أربعة منهم، وجُرح خامس. أُلقي القبض على اثنين من المسلّحين بعد محاولة فرار فاشلة أحبطتها ملاحقتهم من قِبل زبائن الحانة، وأغلبهم من ناشطي الباسك الإسباني اللاجئين في الجنوب الفرنسي، فيما نجح الثالث في الفرار، حتى اليوم.

أُعلن عن اسم المسلَّحين الاثنين إثر فترة وجيزة، وهما شابان فرنسيان معروفان في أوساط القعر الإجرامي في مارسيليا، نفذا العملية لصالح «مجموعات التحرير المعادية للإرهاب» (GAL)، كما أُعلن عن أسماء القتلى، وهم أربعة من قياديي الجناح العسكري في منظمة إيتا الانفصالية الباسكية. أثارت تلك العملية ضجّة كبيرة في إسبانيا وفرنسا، إذ شهدت المدن الرئيسية للباسك الإسباني إضرابات وحركات احتجاج، كما لقيت العملية تنديدات سياسية وإعلامية شديدة اللهجة، وتعبيرات قلق عن تصاعد نشاط شبكات يمينية-متطرفة، تزكم رائحة مخابراتيتها الأنوف، في عمليات إرهابية ضد أهداف في تنظيمات يسارية وانفصالية ستُعرف لاحقاً باسم «الحرب القذرة».

بعد عملية مونبار بسنواتٍ عديدة، أدّت مجموعة تحقيقات صحفية شجاعة في جريدة إل موندو إلى إثبات علاقة شخصيات أساسية في وزارة الداخلية وأجهزة الأمن الإسبانية بـ غال وغيرها من التنظيمات اليمينية-المتطرّفة التي عملت على استهداف تنظيمات ومجموعات يسارية وانفصالية خلال السبعينات والثمانينات، وهو ما كان محطّاً للشكوك والتكهّنات، وإن دون إثبات موضوعي حتى تلك اللحظة. وكانت أجهزة الأمن الإسبانية قد شكّلت غال من تركيبة جمعت مُخبرين سابقين وأمنيين متقاعدين، وناشطين نيو-فاشيين فرنسيين وإسبان وإيطاليين، وأعضاء في شبكات إجرام منظّم مستعدين للارتزاق مقابل المال أو الغطاء الأمني لنشاطهم الإجرامي الربحي. تم تمويل الشبكة باستخدام البنود السرّية من ميزانية وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، واستُخدمت المنظمة، بشكل أساسي، لاستهداف أعضاء إيتا الباسكية في الجنوب الفرنسي، خطفاً أو اغتيالاً، إذ كانت السلطات الإسبانية قد ضاقت ذرعاً بالتساهل الفرنسي الشديد مع نشاط إيتا والمنظمات الدائرة في فلكها في الجنوب الفرنسي، حيث وجدت ساحةً للجوء والتدرّب والتجنيد، وللنشاط السياسي والإعلامي والثقافي حتى مطلع التسعينات، حين غيّرت فرنسا نهجها وبدأت بالتعاون مع إسبانيا ضد المجموعات الإرهابية الانفصالية الباسكية بعد عدد كبير من الأزمات الدبلوماسيّة بين البلدين.

أدّى انكشاف فضيحة غال إلى محاكمة عدد كبير من الشخصيات القيادية ضمن وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، بينها خوسي باريونويبو، وزير الداخلية، الذي حُكم عليه بالسجن لسنوات، كما خيّمت شكوك قوية حول مسؤولية مباشرة لفيليبي غونثالث، رئيس وزراء إسبانيا، دون أن تتمكن المحكمة من إثبات علمه وضلوعه في تنظيم وإدارة «الحرب القذرة» ضد إيتا.

لم تكن غال حالةً معزولة، بل كانت ابنة مناخ منتشر في أوروبا السبعينات والثمانينات، حين كانت تنسيقات أجهزة الاستخبارات الغربية قائمة على قدمٍ وساق ضد تمدد نفوذ حلف وارسو داخل منظومة الناتو، ولم تتورّع هذه التركيبات المخابراتية عن استخدام تنظيمات يمينية-متطرفة أو جماعات إجرامية لتنفيذ مخططاتها، وعملت على تغذية هذه الشبكات والتغذّي منها. وقد كانت هذه خطّة موضوعة من قِبل حلف الناتو، اعتُرف مطلع التسعينات بوجودها بعد عقودٍ من الإنكار، ورغم أن الوصف الرسمي لها هو «البقاء في الخلف»، أي تأسيس تنظيمات وسيطة تعمل على شنّ عمليات عسكرية واستخباراتية ضد أهداف تعمل لصالح حلف وارسو أو تفيد أهدافها، إلا أن الشهرة الإعلامية أتت لصالح الفرع الإيطالي من خطة الناتو هذه، أي «غلاديو»، التي اعترفت الحكومة الإيطالية بوجودها مطلع التسعينات، بعد أكثر من أربعة عقود من النشاط.

وقد كانت هذه الشبكة الاستخباراتية- النيوفاشية- الإجرامية تبدو وكأنها أوانٍ مستطرقة، إذ يتنقل أعضاؤها بين البلدان حسب الحاجة، ولم تكن كل التنظيمات النيوفاشيّة منتمية بالضرورة للشبكة الاستخباراتية، أو تعمل لصالحها كلّ الوقت، إذ يمكن أن تكون التقاطعات مرحلية ومؤقتة، وقد تخرج عن السيطرة أحياناً. كما كان من المطروق أن يُنفّذ أفرادٌ عمليات لصالح هذه المنظمة أو تلك، كـ «فريلانس» فاشي، على طريقة «الذئاب الداعشيين».

اتّهمت هذه التركيبة بعدد كبير من العمليات ضد تنظيمات نقابية وعمالية أو مثقفين وناشطين، منها ما ثَبُت بحكم محكمة، مثل اغتيال مجموعة محامين تابعين للنقابات الشيوعية في مدريد عام 1977، ومنها ما بقي في إطار الاتهام والشبهة، مثل اغتيال هنري كورييل، القيادي الشيوعي الفرنسي- المصري في باريس عام 1978، إذ أعلنت «منظمة الجيش السرّي» اليمينية-المتطرفة -والتي طاف أعضاؤها لاحقاً على كلّ تركيبات اليمين المتطرف الأوروبي، بما في ذلك على غال نفسها- عن مسؤوليتها عن الاغتيال (وكورييل هو والد الصحفي الفرنسي آلان غريش)؛ كما ظهرت العديد من الروايات المُشكّكة بانتحار نيكوس بولانتزاس، الأكاديمي الماركسي اليوناني- الفرنسي المتخصص في علم الاجتماع السياسي، المشهور بأطروحاته حول نظرية الدولة، إذ تقول الرواية الرسمية أن بولانتزاس عانق كتبه ورمى نفسه من نافذة شقة أصدقائه في باريس عام 1979، في حين تشير نظريات وروايات أحدث إلى قرائن عن مسؤولية تركيبة غلاديو النيوفاشية عن مقتله.

يجدر القول إن نيكوس بولانتزاس كان مشرف أطروحة الدكتوراه التي كتبها برهان غليون عن الدولة والصراع الطبقي في سوريا بين 1945 و1970، والتي نال عليها غليون درجة الدكتوراه من جامعة باريس الثامنة عام 1974.

بالعودة إلى عملية فندق مونبار في أيلول 1985، وخلال البحث عن أرشيف الصحف الإسبانية في تلك الفترة يجد المرء نقطتين جديرتين بالانتباه، أوّلهما أن جريدة إل باييس، المقرّبة آنذاك من الحكومة الاشتراكية في مدريد، وصفت الناشطين الباسك-الإسبان الموجودين في بايون بأنهم «لاجئون» وليس «هاربين من العدالة» أو «إرهابيين» (كما سيوصفون في السنوات اللاحقة)؛ والثانية أن القياديين العسكريين في منظمة إيتا الانفصالية الباسكية المتواجدين في الحانة في ذلك المساء كانوا قد تجمّعوا هناك لمشاهدة مباراة كرة قدم بين منتخب دولة الاحتلال الإسباني وإيسلندا ضمن تصفيات كأس العالم الذي سيُلعب بعد عدّة أشهر في المكسيك، ما سهّل على مسلّحي غال استهدافهم وقتل أربعة منهم دفعة واحدة.

انتهت المباراة بهدفين مقابل هدف لإسبانيا، وكانت خاتمة مباريات المجموعة الأوروبية السابعة في تصفيات التأهل للمكسيك 86.