تحترقُ أوراقُ التبغ، ويشتعل يابسُها فتتوهجُ الجمرةُ في الظلام. أمجُّ عُقب السيجارة متكئاً على الشرفة، مثل فلاحين يتكئون على حافة المجرةِ في ليالي الحصاد. بدرٌ هذا القمرُ الأصفر يشتهي السنابل المتماوجةَ بين أيديهم. يهجع ضوؤه صوب الغرب، فتخفُّ النسمات وتلامس أطراف الحجارة السود، راسمةً بها أساور الدور. سهلةٌ كالسهلِ المفتوح على الجهات الأربعة، بسيطةٌ كالفارق بين السماء والأرض عندما يلتقيان في خطِّ الأفق. أمجُّ التبغ وأنفثه نحو ميناء خرج منه المقاومون حاملين بنادقهم نحو الشتات، تتلقفهم الموجات نحو درب التبانة بنجومه التي تثقب أرض الغلال. كانت الميناء مفتوحةً على البحر للمستوطنين، نزلوا من البحر واستباحوا كروم الزيتون وحقول القمح.

من البحر صعدوا الى السماء وقصفوا المدن والقرى، أحرقوا بيارات البرتقال. ثم عبرت الطائرات من الذاكرة لتقصف «الحبالات»الحبالات جمع حبالة، والحبالة باللهجة الحورانية هي صفوف الحجارة السوداء التي يتشكل منها سور المنزل. السود، فتسلّلَ الفلاحون الملثمون بالسلوك الحمراء حاملين بنادقهم شمالاً نحو أفواج الإيرانيين الزاحفين خلف أساطيرهم، وجنوباً نحو جيوش اليهود المتسربلين مزامير سليمان. ها هو القمر يُضيء أرض الأساطير والخرافات، تخرج «الطياطين»الطياطين هي وحوش أسطورية في الميثيولوجيا اليونانية. من نصوصها، وتجلس في مقعد طيارة.

أشعرُ بالتبغ ينتشر في الأوردة. كان التبغ يُهرَّبُ على ظهور البغال مثلما هُرِّبَت صناديق الذخيرة في ليالي تشرين. حملتُ أربعة صناديق بين يدي في وادٍ طويلٍ يوصل إلى الجنوب. سرتُ وتعثّرتُ بحجارة الأرض الوعرة. مِلتُ على كتف العجوز الذي أسندني ببندقيته. قلت: أيّ جنون هذا الذي نسير نحوه. كانت الأرض تتنحنحُ من تحتنا، نحكُّ فيها صدى العظام المهترئة. ابتسم. هل كانت ابتسامته حكمة؟ أعرفُ الباسمين في وجه الموت، السائرين نحو خلاصهم. أبتسمُ لليل الأسود وللشامات المنقطة التي فرشت مجرّاته. هناك نحو الغرب تلتمع «زينة»، فترفرف قلوب العشاق الخارجين من تلاع الأرض، تحرس فنار قلوبهم المتوهج كمواقد في صقيع الموت.

أسندتُ ظهري الى البندقية وأدرتُ وجهي نحو الطائرات التي ما زالت تحوم، والرجل العجوز يحمل بندقيته ويستند إلى جذع شجرة، يستمع إلى صوت الرشاش الذي اخترق رصاصُهُ الأجساد الطرية. قال الهاربون سيراً على أقدامهم: وصلَ اليهود إلى تخوم القرية وقد دهسوا بمجنزراتهم الأجساد التي سقطت. ضمَّ بندقيته بيديه، ثم غفى كأنه يغفوا على صدر حبيبته. ثم راحت النساء بجدائلهنَ يخبئنَّ الزيتون والقمح والحواكير بين العُقَد، ليحللنهنَّ كلما بكى الرجال على الدرب الموصلة إلى عتبات البيوت. لم ينتحر والدي بطلقة مسدس بعد الهزيمة، لكنه اختار الانتحار البطيء، قال لي ذات يوم: سوف يسيل الدمُ للركب. داسَ عجلة البنزين ثم شرد بعيداً هيماناً يقفز من حِجرٍ إلى حِجر. هارباً من صورته المتكلسة بين الرتب التي رفعها على كتفيه. رمى والدي الرُتب ثم داس على صورته، مزقها ثم اشترى خمر العرائش الرخيص واختار النسيان.

يحترق التبغ كما تحترق الأبنية تحت القذائف المتساقطة. تحترق الذكريات والصور والخطوات التي سارت تغني لهلاكها. تسقط القذائف كما يُنفَضُ رماد التبغ، وتسقط معها المدن والبلدات. وتسقط معها سنين عمرنا الهشّة، كما يتناثر التبن بعد الحصاد. في الحصاد يغني المرابعون أملاً بموسمٍ للغلال. يميلون مع القمح. هل هذا حلم؟ هل كنا نحلم كل هذا الوقت؟ يتنحنح الوقت ثم أنتبهُ للقمر المزروع كفزاعة في سقف السماء. إنها سماء الرصاص التي انهالت كأن أحداً ما يرسم أقدارنا بالبارود. ماذا بقي لنا غير السهول، سهول الحكايات التي تتصل بالمدن فتقتلعها الباصات مثل غربان تنقر الجماجم بحثاً عن الدم. أمجُّ التبغ كأنني أسير على طرف الوادي. هنا غنى حبيبٌ لحبيبته وقال لها: تشبهين القمر، ثم غزل ملحمته كما يغزل الصوف. كانت الجيوش تسيرُ من حقبةٍ إلى حقبة تدمّر القرى الصغيرة، وتشيد المدن على فَتاة أيامه المغمّسة بزيت الزيتون والقمح. أُهرِقَت أيام عمرنا باكتشاف المعادن الرخيصة، تُصنَعُ منها النصال الحادة والطلقات والصواريخ. تُعبَّدُ دماؤنا بالفضة والذهب. سنصبح عمّا قليل روبوتات بحكم العادة، إنها المعارك الأخيرة على مشارف الانتقال من زمن الدهشة الى زمن التحديق بعيون مفتوحة. تحدّقُ العيون، تتلمّسُ الرغبة بالنسيان.

يتوهّجُ البدر، تكسر الغيوم إشراقتَه وخطوطَ الفضة التي تربط السماء بالأرض. هل أنت خجولٌ أيها البدر؟ عينُ السماءِ المسلّطةُ على أقدارنا تتبعُ سقوط القرى، كأنما تغزلُ النجومَ إلى قميص المجزرة. يركض إخوتي تحت البدر، يسندون بنادقهم على أكتافهم ويحدقون في السماء، وأنا أنظر إليهم بعين الكوكب الوحيد. أدعو لهم كما كانت تدعو جدتي للثائرين الهاربين بين حقول القمح: القمرة قدامكم والظلمة وراكم. يركض إخوتي بين القرى ويوارون سَوءة المتخاذلين، لتنفض الخيام نفسها من الرماد. سيبقى أثرُنا مثل الوشم على صخور البراكين، المرصوفة كحبالات تحتضن الأرض، كجوفيات الولع والحب والنصر، كدِلال القهوة التي تفوح مع صباحات الخبز في الجنوب. سنحمل خيامنا دون أن نندثر، ونملأ العالم صراخاً. سترقص القرى على طول حدود النهر. هنا يسقط الخالدون مع سقوطنا، لكننا نعود لنُبرعِمَ مثل سنابل القمح.