هكذا كانت ذاكرتي دائماً، مكتظةً بالخوف من أي معدنٍ يمكنه الطيران فوق رأسي، وليس الأمر بالغريب عني ولا الجديد عليّ، فمنذ نظرتُ إلى الأعلى لأول مرة في حياتي، كنتُ مذعوراً أستكشفُ الهدير الذي عكَّرَ هدوء منزلنا الواسع مترامي السور من حوله، حيث كنت ألعب، كأي طفل صغير في ريف درعا، حول كومٍ من الحجارة المعدّة لاستكمال بناء الزاوية الجنوبية الشرقية من السور الحجري الأزرق، وكان من المألوف أن تطلَّ من بين الحجارة أفعى برأسها، لتعود أدراجها إلى وكرها، فنحن أصحاب الدار.
هرعتُ إلى حضن أمي هلعاً من الوحش الحديدي الذي سينقضّ علينا من فوره، أو بعد حين، وهكذا، كلما سمعتُ صوت طائرة مروحية أو طائرة حربية تحوم في سماء ريف البسطاء، انزلقتُ إلى ملجئي الآمن بخفة مَن تمرّس الحروب واعتادها، فتضحكُ أمي وتغني لي:
طيارة طارت بالجو
فيها عسكر، فيها ضو
فيها إبراهيم هنانو
راكب على حصانو
يا إسرائيل يا بنت الكلب
مين قلك تيجي عالحرب
لما شفتي سورية
صرتي تعوي مثل الكلب
وخوفي الرابض في قاع قلبي كعلامة، لا يخبو حتى يذيبَ صوتُ أمي ضجيجَ الطائرة، التي أتخيل فيها إبراهيم هنانو وحصانه الأسود، وأعداداً كبيرة من الجنود الذين يحملون سيوفاً ورماحاً، وأتوقع أنهم ذاهبون إلى إسرائيل التي تخاف مجيئهم مثلي.
ولطالما شغل الحديث عن حرب تشرين أمسياتنا في ريف درعا الشرقي، في وقت لاحق أصبحتُ فيه أكبرَ طفولةً، أحدهم يقول: «يوم مرت الطائرات فوقنا واختبأنا في منطقة كذا»، وآخر يقول: «يوم قصفت الطائرة قرية داعل وقتلت عائلة بأكملها»، وآخر يتغنى بالشهيد قاسم الحريري الذي قام بهجوم بطولي بدبابته، فعاد في نعشٍ يليق به دون أن يُسمَح لأحد برؤية جثته.
وفي يوم من الأيام أجلسني أبي إلى جانبه الأيمن من جراره الزراعي، وكان يقصد زيارة صديق له في قرية طفس. مررنا بـ (داعل)، ورأيتُ نصباً لتمثال أم وأبنائها في وسط الدوار الرئيسي، فقد أصبحت (داعل) مدينة الآن، وعندما سألتُ أبي عن التمثال أخبرني أنه تمثالٌ للعائلة التي قصفتها الطائرات الإسرائيلية، وهنا أدركتُ أن إبراهيم هنانو والجنود الذين معه في الطائرات مسلحون بالدبابات والصواريخ، وأنه لستُ أنا وإسرائيل فقط من نخاف من الطائرات، وإنما تخاف منها العائلات أيضاً.
لم أكن أعلم أن لعنة الطائرات والمعادن الطيارة ستلاحقني أبد العمر، فبعد خروجي من معتقلات المخابرات الجوية في دمشق في آب 2012، قررتُ الذهاب إلى مخيم اليرموك في يوم تحريره من قبل الجيش السوري الحرّ في السابع عشر من كانون الأول 2012، كنّا ثلاثة حين أذّنت بدخولنا للمخيم قذيفة هاون سقطت على بعد أمتار من مقهى جدل للإنترنت، ومن كان في مخيم اليرموك في تلك الأيام يعرف مقهى جدل جيداً.
كنّا ثلاثة حين دخلنا مخيم اليرموك في ذلك اليوم، وائل سعد الدين الذي اعتُقِلَ بعدها بقليل، وأنس عمارة الذي استُشهِدَ بعدها بقليل، وأنا الذي بقيتُ في جنوب دمشق مُحاصَراً من أربع جهات كان خامسها جهة السماء المليئة بالطائرات، السماء التي تمطر يومياً عشرات القذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة.
قد يكون الجدار صديقك المفضل أثناء المشي في الشارع، تتقي منه شرّ قذائف المدفعية وقذائف الهاون متعددة العيارات، فتلتصق به كأنه رحم، ولكنه ليس كذلك إن سمعت صوت الطائرة تحوم فوقك، وكم نظرتُ يميناً وشمالاً باحثاً عن أمي لأختبئ في حضنها، أنا الطفل الذي ألعبُ بالقرب من كوم حجارة اسمها جنوب دمشق، كوم الحجارة الخالي من أي أفعى، وجنوب دمشق الذي لم يعاملنا أحدٌ على أننا أهله. ولم أكن لأجدَ أمي حينها، إنما رأيت كثيراً من الأمهات اللواتي فتحن أحضانهنَ لصغارهنّ، لكن المعادن الطيارة كانت أقرب إليهم وأسرع منهم.
إذن الدبابةُ سلاحٌ يختلف تماماً عن الطيارة، ولكنه مثلها يقصف المخيم ويقصفنا، وليس على أحد أن يخاف من الطائرات بعد الآن، لا إسرائيل ولا غيرها، فقط نحن من يجب علينا أن نخاف من الطائرات فهي لا تقصف غيرنا، وإبراهيم هنانو وحصانه الأسود ورفاقه الجنود الذين يخيفون الأعداء ماتوا قبل أن تغني أمي أهزوجتها المجيدة.
ورصاص البنادق أيضاً من المعادن الطيارة، ففي حربنا ضد داعش في جنوب دمشق، كانت مقاذيف القناصات هي تميمة الموت المؤكد، أو الإعاقة المؤكدة، مُفاجِئة حدّ الشدة، غادرة حدّ الخيانة، لا شارع آمن ولا رصيف صديق، على مدار أربع سنوات وداعش في جنوب دمشق تطلق الرصاص المتفجر، وأنا أقول إن داعش تحاصرنا من سماء منخفضة، وإذا كنتَ قريباً من خط تماس مع داعش فكل شيء ممكن، وكلُّ احتمال مهما قلّت نسبته غالبُ الوقوع، وإذا أيقظكَ من النوم صوت صديقك وهو يصيح: «إن داعش تحت بيتك»، فلن تشكَّ بكلامه مطلقاً، لقد كانت العدو الأشرس الذي واجهناه وواجَهَنا، إلى أن رأينا العدو الذي واجهه مخيم اليرموك وحي الحجر الأسود، العدو الذي لم يواجهه أحد في جنوب دمشق سوى الأبنية والمحتمون بالأقبية من الأهالي العزل.
مخيم اليرموك الذي سكنتُ فيه قبل الثورة لأعوام، وتعرفتُ فيه إلى أقرب الناس إلى قلبي، سرق قطعة من قلبي، وما زالت تلك القطعة محاصرة فيه تحت الركام، ومن سوء حظ ّالمخيم أن اجتمع عليه العدوان الأكثر شراسة؛ داعش من سماء منخفضة والطيران الروسي من كل الأرجاء.
لا أستطيع ان أقول إننا تعرضنا للقصف خلال سبع سنوات بعدما رأيته من قصف الطيران الروسي لمخيم اليرموك، لقد تحول المخيم إلى جهنم بالفعل، فقد كانت أصوات الصواريخ التي تمرّ من فوقنا وهي متجهة إلى المخيم تثير فينا الفزع والهلع، الصواريخ التي تحيل أبنية من ستة أو سبعة طوابق إلى متر ونصف المتر من الركام والجثث.
وقد كنت ممنوناً من أن رحلة تهجيرنا من جنوب دمشق إلى الشمال السوري كانت بالباصات وليس بالطائرات، بالرغم مما تعرّضنا له أثناء الطريق من قذف بالحجارة من قبل شبيحة النظام، ومن أننا لم نرَ أي معدن يطير عندما علقت قافلة التهجير رقم 5، قافلتنا، لمدة خمسة أيام عند آخر نقطة للنظام. والآن، وبعد أن وصلت إلى استنبول، ومن سوء حظي، سكنتُ عند أقاربي في منزل قريب من مطار أتاتورك، وعليَّ أن أرى وأسمع عشرات الطائرات التي تحطّ وتقلع يومياً من المطار.
أنا لا أثق بالطائرات ولا بأي معدن يطير فوق رأسي، حتى مراوح السقف، فهي تذكرني بعباس بن فرناس، ربما ستسقط يوماً، وتنال مني، الأمر الذي لم تستطعه الحرب.