أثارت حلقة برنامج كريزي مع علوش عن التحرش موجة من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكن أن نقول إن التحرش نفسه كان السمة الأبرز لكثير من تلك التعليقات، حتى غير الخادشة للحياء منها، أو غير المتهجمة، ذلك على الأقل لو عرّفنا التحرش بمعناه الدال على التدخل، نفسياً أو فيزيائياً، في مساحة أحدهم الشخصية.
لاحظَت مقدّمة البرنامج علا ملَص في تلك الحلقة من برنامجها أن مجتمعات محددة توسَمُ بالمحافظة الدينية والاجتماعية هي الأعلى عالمياً في نسب التحرش، ما دفع، على ما يبدو، إلى أن يكون الدفاعُ عن هذه المجتمعات، وللدقة عن بنيتها المحافظة، هو دافعَ كثيرين للهجوم على ملَص.
لنأخذ بعين الاعتبار، إذن، أن «المدافعين» عن التحرش، يقومون بهذا مدفوعين بغايات أخلاقية، وليس بِنيّة تثبيت الهيمنة الذكورية، مع أن ذلك هو بالضبط ما يثبتونه ويثبّتونه. من المفيد ملاحظة أن الأمر هو كذلك أيضاً في لحظة التحرش نفسها، والتي قد تنطوي على بُعد عاطفي، بل إن كلمات الغزل غير الجنسي، وتعبيرات الرومانسية الشعبية هي نوعٌ تحرشيٌّ قائمٌ بذاته.
ينتمي جلّ المعلقين، وهو ما تُنبئنا به التعليقات، إلى النظام الذهني الديني الذي ينتج التراتبية الاجتماعية التي تحاول ملَص إدانتها، وأمام تعليقات تحتجّ بنصوص القرآن التي تدعو المرأة إلى إخفاء زينتها وارتداء الخمار، لم يكن بوسع ملَص ما هو أكثر من أن تشير، في معرض ردها، مُحقَّةً، إلى الكيفية الخطرة التي يُستخدم بها النص الديني للدفاع عن موقف ينتصر، بالمحصلة، للمتحرش. هنا يتعلق الأمر، لو شئنا الفذلكة، باختلاف نظريات المعرفة التي ينطلق منها كل من ملَص والمعلقين أصحاب الخلفيات الدينية، وهم الأغلبية. إن التحرش مسألةٌ تنتمي إلى حياتنا الحديثة والمعاصرة بكل أمراضها وتناقضاتها، والتضامن مع المتحرَّش بهنّ، وإدانة التحرش، مسائل تتعلق بالوضع الذي نحن فيه، في حين ينتمي الأمر بالحجاب والنهي عن التجمّل إلى مجال الأوامر والنواهي الإلهية التي تتعامل مع ذوات الأفراد كذوات مطلقة في حضرة إله مطلق، بغض النظر عن كل الأوضاع.
يُذكر أن ملَص قامت في معرض الحلقة بالتذكير بالأمر الإلهي بغضّ البصر، بما هو نهيٌ عن التحرش والـ sexist behavior عموماً، وهو تأويل يمكن وصفه بالحداثي، للآية: «قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ»، ذلك لأن الآية في سياقها الزمني لا تتحدث عن التحرش، الذي لم يكن مفهومه موجوداً وقتها.
قامت إدارة صفحة برنامج كريزي مع علوش، بحذف عدد من التعليقات المسيئة وغير اللائقة والتي تضمنت شتائم، لكن التعليقات والنقاشات التي لا تزال على الصفحة تشير إلى أن عددها كان كبيراً. في وقت لاحق، قامت مقدمة البرنامج بإجراء حوار عبر البث المباشر، مع جمهور الصفحة حول المسألة.
أثنى أحد منشورات الصفحة، بعد الحلقة، ثناءً مطوياً في ثنايا التعبير، على أصحاب التعليقات المؤيدة للحلقة ولـ «جرأة الطرح». يَعتبرُ فريقُ البرنامج إذن، أن في الحشد ضد ظاهرة التحرش بحد ذاته، جرأة في الطرح، الأمر الذي يعكس تدني سقف حرية التعبير الذي يمكن لبرامج من هذا النوع الوصول إليه في الأجواء السائدة. لم تشتمل الحلقة في أي جزء على أي آراء معادية جذرياً للبنى الاجتماعية القائمة، اللهم إلا لو اعتبرنا طريقة علا ملَص في التعليق أحياناً بصوت المرأة الشامية عاقدة الكفين حول وسطها، تمرداً على البنية الذكورية، والأمر ليس كذلك البتة لو أخذنا بعين الاعتبار أن الذكورة والأنوثة، وما هي عليه المرأة وما هو عليه الرجل، هي كلها تحديدات اجتماعية تُضَخُّ فينا منذ لحظاتنا الأولى بالتربية والتنشئة، وتتشكلُ الذاكرةُ الشعبية وشخصياتها في سياقها. وعليه فإن المرأة الأفضل، فَرَضاً، في مجتمع ذكوري، هي امرأةٌ أيضاً، وفق التحديد الذكوري للمرأة ودورها.
رغم ذلك، لم يسلم معدو ومقدمو البرنامج من التجريح والإساءة، ولنا أن نتخيل بالمقابل، أي جنون كان ليدشنه نقاش مجتمعي حول ظاهرة التحرش يذهب بالأمر إلى منتهاه، أي إلى الوضوح في مُساءلة السيطرة الذكورية وإرادة ضبط الأجساد، وهو ما لم ينته إليه الجدل حول حلقة «كريزي» عن التحرش.