ليس مما يمتنع تصوره تضامن سوريين أو فلسطينيين أو كرد… مع ضحايا كارثة سياسية أو طبيعية في بلدان الغرب، لكن اتجاه التضامن عموماً هو العكس: من متضامنين في البلدان الغربية القوية الغنية نحو بلدان متعثرة، وما يتعرض له سكانها أو قطاعات منهم من محن سياسية. تماهى سوريون بُعيد الهجمة العدمية على مقر مجلة شارلي إبدو الفرنسية مع المغدورين في مواقع التواصل الاجتماعي، أو في لافتات رفعوها في مناطق خارج سيطرة النظام تقول: أنا شارلي! لكن ما تتناوله هذه المقالة الناقدة لمفهوم التضامن ليس هذا الشعور الطيب حيال ضحايا، بل التضامن كمؤسسة مُرسخة وشكل منتشر اليوم من النشاطية السياسية في بلدان الغرب، يربط بين ناشطين غربيين ومجتمعات أو قضايا بلدان مستباحة.

علاقة قوة

تبطن بنية العالم المنقسم إلى حواضر مزدهرة وعوالم متعثرة علاقة التضامن وتحدد اتجاهها. بنية لا يخفف من أثرها أن التضامن مسرحه الغرب حصراً، وإن كانت «القضايا الخام» تأتي حصراً من خارجه. كمتضامن فرد أو كحركة تضامن نستطيع القيام بأشياء تدعم قضية نساندها، لكن نكتشف بسرعة أن أصحاب القضية قلّما يعرفون كيف يتحركون ويتكلمون ويعرضون قضيتهم، بل قد يتسبب كلامهم بكوارث على قضيتهم بالذات. وهو ما يوجب صُنع قضية مقبولة، إخراجها من الحالة الخام إلى حالة مصنعة. ويندرج ضمن ذلك تمكين ممثلي القضايا القادمين من هناك من الكلام هنا، وكذلك تأويل القضايا، وتحديد ما يقال بشأنها وما لا يقال، ما ينبغي إظهاره وما يتوجب كتمانه، أي تصنيعهم هم بالذات وإخراجهم من «حالة الطبيعة». المتضامن الغربي هو من يقع عليه التصنيع والإخراج. والضمان.

عبر ذلك تنزع علاقة التضامن إلى جعل القضية تابعة للتضامن أو نتاجاً له. تُصاغ على نحو يؤمن أكبر عائد تضامنيّ ممكن، أي على نحو يضمن لها دخول سوق التضامن، في تنافس على الرواج والعائدات مع قضايا أخرى. وعبر التنافس، يقودنا النشاط التضامني نحو أرخبيل من روابط تضامنية منفصلة عن بعضها، هنا تضامُننا وهناك تضامنهم وهنالك تضامن ثالث مع آخرين. بين التضامنات المختلفة العلاقةُ تنافسٌ واستبعاد، وضمن الرابطة الواحدة العلاقة علاقة توجيه وتبعية. لا اختلاط ولا تنسيق ولا تعاون. بالعكس، يمكن أن نجد بعض أسوأ العداء بين روابط تضامنية أقدم وأحدث طالبي التضامن. في يوم العمال العالمي مطلع هذا الشهر في برلين كنا نخشى، نحن السوريين الذين لم نُرَ كثيراً في فضاءات عامة من قبل، عدوان روابط تضامنية أخرى علينا.

لكن أهم ما يحجبه التنافس هو علاقة القوة داخل كل رابطة تضامنية وراء القضية المشتركة. علاقة قوة يشغل فيها المُتضامِن موقعَ المتكلم والمؤول والمشير، صانع القضية ومخرجها، والمتضامَن معهم موقع الممثل المنفذ. بعبارة أخرى، يخفي التضامن أن المتضامِن هو في الواقع ضامن، وأن المتضامَن معه هو في حقيقة الأمر مضمون، موضوع في «ذمة» الضامن. ليست هذه علاقة متكافئة وندية. وإذا كان لا يُنتظر امتنانٌ علنيّ من المضمون، فإنه في موقع أضعف من أن ينتقد نزعات أبوية عند صانع القضية، الضامن.

هذا إلا أن يخرج من العلاقة أو يثور عليها.

سوق التضامن

الأساس في ذلك أن التضامن يدخل السوق اليوم كسلعة، ومع السوق ثمة التنافس والميل إلى الاحتكار: أخذ أكثر ما يمكن من ريوع التضامن للنفس وعدم ترك شيء للغير، وربما الهجوم على من يحاولون أخذ حصة من السوق.

وإذ ينزع سوق التضامن إلى ترتيب الضحايا في مجموعات، تحظى بعضها بالكثير منه وبعضها بالقليل أو بلا شيء، أو حتى بالعداوة، فإنه يخلق مراتب للمتضامَن معهم، وتنافساً على استحقاق الاعتراف والتقدير بينهم، مقابل حجب الاستحقاق عن قضايا غيرهم. على سبيل المثال، لا يعرض كثير من المتضامنين مع القضية الفلسطينية تضامناً مع القضية السورية، وبعض المعروفين منهم يضعون تلك ضد هذه، ويبرزون فلسطينيين محددين لهذه الغاية. ولا يعرض متضامنون مع القضية الكردية ممن دخلوا حقل التضامن عبر تنظيم حزب العمل الكردستاني في تركيا تضامناً مع القضية السورية، بل يغلب أن يعرضوا مزيجاً من إغفال تام ومن روح عدائية شديدة الجفاء، ويجدون في أوروبا من يشبعون حاجتهم هذه إلى الرضا عن النفس. تسنى لي قبل شهور في برلين حضور اجتماع تضامني مع البي واي دي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني) عن الرقة بُعيد احتلالها من قبل الأميركيين والتنظيم الكردي المرتبط بحزب العمل الكردستاني في تركيا، وكان عنوان الاجتماع: ما بعد الرقة، روجافا بين الهجوم والنهوض. كان المتكلمون كرديان مقيمان في أوروبا، قادمان في الأصل من تركيا، ومديرة الجلسة الألمانية، والثلاثة لا يعرفون الرقة، ولم يسبق لأحدهم أن كان في سورية أو في «روجافا». وكان الحضور ألماناً وكرداً وربما غيرهم، وكنتُ السوري والرقاوي، وربما «الروجافي»، الوحيد، حتى أنه لم يُدعَ أي كرد سوريين. عرفتُ باللقاء من مديرته الألمانية التي صادف أنها زميلتي في مؤسسة بحثية في برلين، وهي عرفت أني من سورية ومن الرقة، فطلبت مني تزويدها بمعلومات عن المدينة والأوضاع هناك. السيدة لم تكن مُدركة أنها تطلب مني معلومات لتعزز حجتها في دعم قضية تتضامن معها، لكنها تجعل قضيتي غير مرئية. الواقع أنها لم تتصور حتى أن لي قضية، وأنها يمكن أن تكون غير متوافقة، وربما متعارضة، مع القضية التي تتضامن معها ولا ترى غيرها. هنا حالة قصوى من التجريد من الولاية (الإيجنسي) باسم التضامن والعدالة والإنسانية.

سوق التضامن يعزل الصراعات عن بعضها مثلما تعزل سوق السلع المنتجين عن بعضهم. وكلا السوقين يحجبان جذور التمييز في البنى السياسية أو الاقتصادية العالمية بإظهاره لا شيء غير تنافس عادل.

تضامن ضد تضامن

التضامن الانتقائي شائع، وهو يشرّبُ التضامن بروح من النفاق لم تُنتقد كفاية بحدود ما أعلم. أظهر ذلك كل من دنيا علي نجاد وساسكيا باس، في مقالة بعنوان: Syria and the problem of left solidarity. المقالة المكتوبة في مطلع آذار 2018 تُظهر نفاق وازدواج معايير يساريين غربيين بخصوص كل من عفرين والغوطة الشرقية، وإن تكن بدورها تعرض ما يعرضه كل التفكير اليساري حول سورية من جهل مطبق بالبلد وتاريخه الاجتماعي والسياسي. لا تدري الكاتبتان شيئاً عن تاريخ العلاقة بين الدولة الأسدية وتنظيم العمال الكردستاني، وعن أن هذا التنظيم الذي يشغل موقعاً ثورياً في تركيا ولم يشغل قط موقعاً مماثلاً في سورية كان معادياً للثورة السورية منذ البداية، وأن دخول مقاتليه من تركيا وغيرها إلى سورية كان بنتيجة اتفاق جرى بينه وبني النظام في تموز 2012. لكن مشكلة المقال الأهم أنها لا تقول شيئاً عن كيف يمثل أي سوريين صراعهم، فلا تحيل الكاتبتان إلى سوري واحد، ولا تشعران بالحاجة إلى عرض شيء عن سيرة كفاحهم طوال عقود: تستذكران مثلاً الانتفاضة الكردية عام 2004، لكن لا تقولان شيئاً عن نضال السوريين طوال سنوات الحكم الأسدي. وبالطبع لا تشك المقالة التي تريد توزيع التضامن بالقسطاس في مفهوم التضامن نفسه. في سوق تضامن أميركية وغربية تتحرك الكاتبتان ضمنها، يجري فصل أصحاب القضايا عن قضاياهم (هنا أيضاً كما تفصل سوق العمل الرأسمالية المنتجين عن وسائل الإنتاج)، ويتولّى المتضامنون خوض حروب التضامن، أو الدفاع عن التوزيع العادل للتضامن، كما تفعل الكاتبتان، دون نقد السوق ودون مساءلة ما تتيحه من معلومات عن السلع المعروضة، ودون تفكير في شروط إنتاج التضامن كسياسة.

على أرضية ما ساقت الكاتبتان من معلومات، الشيء الصحيح هو التضامن مع عفرين أكثر ومع الغوطة أقل. سوق التضامن لم توفر للكاتبتين ما يؤسس لتوزيع عادل للتضامن، وهما لم تبذلا أي جهد للبحث خارج السوق.

مقالة علي نجاد وباس بالذات مثال على التعارض بين العدالة الذاتية للمتضامنتين وبين لا عدالة التضامن كعلاقة في السوق، بديلة عن العمل المشترك من أجل المساواة. ولعله ينبغي أن يكون واضحاً في هذا المقام أن نقد التضامن ليس بحال نقداً لمتضامِنات ومتضامِنين تحركهم أحسنُ الدوافع الإنسانية، ولكنه نقد للتضامن كعلاقة قوة وكسوق.

التضامن كضريبة

ويبدو لي أن هناك بنى مديدة داعمة للتضامن كسوق، تتمثل في مركب الليبرالية الجديدة وصعود سياسات الهوية وأزمة اليسار العالمية. التضامن يبدو ضرباً من الضريبة يدفعها أفراد قادرون عادلون، قلما تجمعهم منظمات سياسية فقدت جاذبيتها. لا يعترض يساريون يزداد تفكيرهم فقراً ومركزية غربية على هذا المركب الاقتصادي السياسي الاجتماعي بغير دفع تلك الضريبة، التضامن ذاته. لكن عبر دفع هذه الضريبة تبقى سياسات الهوية وجذورها الاجتماعية والاقتصادية في منأى عن النقد. وبما أن سياسة الهوية تضع جماعات في مواجهة جماعات، فإن التضامن لا ينفلت من منطق سياسات الهوية، سواءاً حين يفكر في المتضامَن معهم كضحايا (فيجردهم من الولاية على أنفسهم)، أو حين يرتب الضحايا في مراتب، بعضها أولى من بعض بالرعاية. سياسات الهوية تعيد إنتاج ذاتها عبر التوسع على حساب ما يفترض أنه نشاط عابر للهويات.

هذا ليس عارضاً أصاب مفهوم التضامن من خارجه، بل هو مثال أقصى بين أمثلة قصوى كثيرة تُظهر أن سوق التضامن التي تتلاقى فيها القضايا وعارضوها والطالبون لها تؤول إلى تشكل روابط حصرية واستبعادية غير متساوية وغير متعاونة. وقليلة أيضاً. فالسوق لا ترحب بالقادمين الجدد، وتنزع إلى أن تكون احتكار قلّة، حين لا تكون احتكاراً فردياً.

هنا يلعب التضامن دوراً ضد المساواة، يُسوِّق البعض ويهمش البعض. ومثلما تحضر السلع في السوق ويغيب المنتجون، تحضر القضايا في سوق التضامن ويغيب الناس، وتُغيِّبُ قضيةٌ قضيةً أخرى بالكامل لأن لسوق التضامن مثل كل سوق ديناميكية استقطابية، تؤول إلى اغتناء البعض وافتقار غيرهم. في اجتماع ما بعد الرقة التضامني الذي تقدمت الإشارة إليه لم تكن هناك قضية سورية، أو لسكان الرقة الذين لم يظهروا إلا بصورة مورابة بوصفهم مُحرَّرين من داعش، يستطيعون التدخين الآن، ويمكن لنسائهم ارتداء ملابس ملونة. لا شيء عن كفاح أحد منهم ضد الحكم الأسدي، لا شيء عن معتقليهم قبل داعش ومعتقليهم من قبل داعش، لا أسماء لا صور لا سير ولا تاريخ. كان الوضع راضّاً لي شخصياً: وجدتُ نفسي غير مرئي وغير موجود في وضع يكرّ فيه غريبان لا يعرفان مدينتي ولا بلدي مونولوجهما الخاص عن… التحرّر، وحتى عن النضال ضد الامبريالية. كنت الفقير المُملق، والإطارُ كان كاتماً لصوتي أكثر.

عوالم في عزلة

عدا علاقة القوة التي تفسد التضامن، وعدا عن معرفة منحازة وجزئية غالباً عند المتضامنين، وعن تجريد المُتضامَن معهم من الولاية من أجل صنع قضية عادلة لهم، وحتى عدا عن ترتيب الضحايا في مراتب غير متساوية على نحو ينسخ تراتب الشعوب والثقافات والأعراق، أي على نحو عنصري، عدا عن ذلك كله فإن المشكلة الجوهرية في مفهوم التضامن هي أنه يغفل ترابط المشكلات في عالم اليوم. يفترض المفهوم أن مشكلات مجتمع السوريين أو الفلسطينيين أو الكرد، أو الكونغوليين أو الروانديين…، أو الإيرانيين أو الأتراك وغيرهم، مستقلة عن مشكلات مجتمعات الغرب، أي في النهاية أننا نعيش في عوالم وليس في عالم واحد، وأن التضامن معهم في تلك العوالم المتعثرة بشدة واجب إنساني وسياسي، لكنه يستبطن التمايز بين عوالم الفعل والتأثير وعوالم التعثر والانفعال.

لكن هل صحيح أن القضية السورية اليوم هي قضية سورية حصراً؟ أليست بالأحرى قضية شرق أوسطية وأوربية وغربية وعالمية، قضية تركية وألمانية وسويدية وهولندية… وأوروبية، بقدر ما هي لبنانية وأردنية ومصرية و… فلسطينية؟ مثلها في ذلك قضية فلسطين والقضية الكردية…، وكلها وجوه متعددة لقضية واحدة مركبة ومتفاعلة، قضية عالم متشابك تتعذر معالجة مشكلاته في معزل عن بعضها. ومن وجوه هذه القضية ما يعاني منه ألمان وفرنسيون وأميركيون وغيرهم من مشكلات اجتماعية واقتصادية وأمنية، وما يحتاجونه من تشارك وصداقة و… «تضامن». مشكلات ألمانيا وتركيا (وأقتصر على بلدين أعرف عنهما شيئاً) مشكلات سوريّة بقدر ما هي مشكلات كردية وفلسطينية وغيرها. هل حقاً لا يحتاج الألماني أو الألمانية إلى وقوفنا إلى جانبه/ـا وصداقتنا له/ـا؟ أفترض أن التضامن بالذات يُظهر هذا الاحتياج، وإن في صورة علاقة قوة غير متكافئة لا تسمح له بالذهاب أبعد. نقد التضامن يتطلع إلى علاقات معافاة، مبرأة من القوة، علاقات شراكة قائمة على المساواة والندية والعالمية.

الشروط مؤاتية نسبياً اليوم للذهاب إلى ما بعد التضامن، من حيث وجود مهاجرين ولاجئين كثيرين من البلدان المتعثرة في بلدان الغرب. في ألمانيا اليوم مثلاً فوق نصف مليون سوري، وفي تركيا نحو ثلاثة ملايين ونصف، ومع ذلك ليس هناك فضاءات تعارف ولقاء ونقاش، نعمل فيها كشركاء، وإن حصل أن وجدت روابط تضامينة منعزلة عن بعضها وعدائية حيال بعضها. هذا لأن التضامن انتقائي وتجزيئي بطبيعته، ينزع نحو العلاقات العمودية بين متضامين ومتضامَن معهم (ألمان وفلسطينيون، ألمان وكرد، ألمان وسوريون…)، وليس نحو العلاقات الأفقية بين شركاء متنوعين ومتساوين.

من التضامن إلى الشراكة

والخلاصة أن التضامن غير عادل، إن كعلاقة بين المتضامنين والمتضامَن معهم، أو كعلاقة بين الروابط التضامنية المختلفة، هذا وإن أمكن للقضايا التي يجري التضامن معها أن تكون عادلة كلها، بل وإن كان المتضامنين كلهم عادلون. وبقدر ما إن التضامن علاقة ضامن بمضمون في «ذمته»، فإن التضامن العادل هو مثل نظام «أهل الذمة» العادل: ممتنع. والحال أن سوق التضامن تتجه منذ الآن إلى ممارسة تأثيرها المعاكس على متضامنين، فتقلل من عدالتهم أو تجعلهم وكلاء تمييز يعملون لترويج قضيتهم وكتم غيرها. تمارس السوق تأثيراً معاكساً أيضاً على قضايا متضامَن معها ألفت حصة طيبة من السوق، فلم تعد تقبل أن يقارن غيرها بها (التضامن مع اليهود إثر الهولوكوست مثلاً).

ما يمكن أن يُعاكسَ تضامُناً يعيد إنتاج التمييز واللاعدالة، هو الشراكة.

يقتضي بناء مفهوم الشراكة نقد التضامن، وتجاوز ذلك إلى خلفياته الاجتماعية والسياسية التي جعلت منه سياسة بديلة ليسار عاجز، جاهل وعديم الحساسية. ليس التضامن نقيضاً للسوق، بل هو شاهد على انتصارها وتوسعها، وليس جهداً للانفلات من المركزية الغربية بل هو خطوة إضافية نحو ترسيخها ومركزة القضايا حول المتضامنين هنا وليس حول من يستحقون هناك. التضامن يزوّد الانكفاء المحلي في الغرب بضمير مرتاح، ولا يستطيع الاعتراض على الصعود الشعبوي اليميني الذي لا يبخل بدوره بالتضامن على المهاجرين، وإن فضّلَ لهم (لبعضهم على الأقل) العودة العاجلة إلى مواطنهم، وانحاز لبعض آخرين منهم على أسس هوياتية. البنية الانتقائية للتضامن ليس لديها ما تعترض عليه في ذلك، وردُّها قلّما يتجاوز القول إن الظروف ليست مناسبة بعد لعودة اللاجئين إلى بلدانهم.

الشراكة، خلافاً للتضامن، لا مركز لها، تعمل في اتجاهات متعددة لا في اتجاه واحد، تقوم على المساواة لا على القوة، ولا تتوافق مع التنافس، والاستقطاب المترتب عليه. وهي ما يمكن أن تكون اضطلاعاً إيجابياً بواقع التداخل العالمي وتقبلاً للمُلكية المشتركة للعالم. القضايا والتضامن لا يقعان في عالمين مختلفين وفق ما تستبطن إيديولوجيا التضامن. إنه العالم نفسه، والقضية الواحدة نفسها، وإن تغايرت وجوهها وتعبيراتها.

فضاءات الشراكة غير المركزية التي نتلاقى فيها كمتساوين فنتعارف ونتبادل الأفكار والتجارب، ونعمل معاً، هي البديل التقدمي عن سوق رأسمالية للقضايا، وعن صراع دارويني على تضامن يعيد إنتاج علاقات التمييز التي يضلل المتضامون أنفسهم عن رؤيتها.

ما كان قيّماً في مفهوم التضامن هو إطار مسؤولية عالمي، كاسر أكثر وأكثر لانعزال الآلام البشرية عن بعضها. وما يمكن أن يُبقي هذا الشيء القيّم هو تجاوز التضامن إلى الشراكة في عالم يشكل اليوم إطاراً واحداً للمسؤولية، لكنه يوفر مستويات من الحرية والقدرة بالغة التفاوت.