في ذكرى قيام إسرائيل ونكبة فلسطين، تم افتتاح سفارة الولايات المتحدة لدى إسرائيل في القدس المحتلة، في مشهد تتكثّف فيه سبعةُ عقودٍ من عمل عدواني مستمر لم يتوقف منذ عام 1948، يتضمن احتقاراً يومياً متجدداً للعدالة، وتكريساً للاستثناء الذي تمثّله إسرائيل، بوصفها صاحبة «حق» مكفول دولياً في السطو على الأرض وانتهاك المواثيق التي شارك في إقرارها حُماة إسرائيل أنفسهم.
أكّدَ جيش الاحتلال الإسرائيلي في اليوم نفسه أن حقّ إسرائيل في قتل الفلسطينيين لا يزال مكفولاً فعلاً، فهو لم يتردد بارتكاب مذبحة مروّعة على تخوم قطاع غزة، راح ضحيتها عشرات الشهداء وأكثر من ألفين وخمسمئة جريح. ضحايا المذبحة هم ضحايا قيام إسرائيل أنفسهم، أو أبناؤهم، أو أحفادهم. وهؤلاء الذين يعيشون في سجن كبير هو قطاع غزة، لم يولدوا في هذا السجن بالصدفة، بل هم يعيشون فيه لأن الدول العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية سمحت بقيام إسرائيل قبل سبعين عاماً، ولم تفعل شيئاً منذ ذلك الوقت سوى إصدار القرارات الدولية، وضمان قدرة إسرائيل على انتهاكها.
تبدو الشرعية الدولية هنا محض تفاهة على أي حال، فهي تعطي للفلسطينيين الحقّ في العودة، وتمنعهم من كل ما قد يجبر إسرائيل على احترام هذا الحق، بل وتسمح لجيشها بقتلهم إذا حاولوا اختراق حدودها نحو ديارهم التي يحقّ لهم العودة إليها.
وقد يبدو ما يقوم به فلسطينيو غزة عبثياً من زاوية البحث عن نتائج إيجابية ملموسة ومباشرة، وربما يكون في أحد وجوهه خدمة لهيمنة حركة حماس على قطاع غزة، وحتى لإيران ونظام الأسد، لكن أصل القصة ليس هنا. هذه مقاربةٌ عقيمةٌ أخلاقياً، لأنه لم يَمُت أكثر من خمسين فلسطينياً في مسيرات يوم الرابع عشر من أيار من أجل إيران ولا من أجل حماس، بل ماتوا لأنهم محاصرون هناك، تحاصرهم إسرائيل ومن خلفها الشرعية الدولية. وهي أيضاً مقاربةٌ عقيمةٌ سياسياً، لأنه من غير المعقول أن تتم مطالبة شعب بالاستسلام لأوضاع بالغة السوء، وتبدو مفتوحة على مستقبل مظلم بلا نهاية، فقط كي لا تصبّ مقاومته في خدمة أحدٍ غيره. هذا ليس مطلباً عقلانياً سياسياً، بل هو مطلب مضادٌ للسياسة نفسها.
وعلى أي حال، ليس صحيحاً أن ما قام به الفلسطينيون يوم أمس على حدود قطاع غزة غير مفيد، لأنه لو كان غير مفيد لما قتلت إسرائيل منهم خمسين شخصاً وجرحت أكثر من ألفين، ولما تعاملت سلطات الاحتلال مع الحدث بهذا القدر من التوتر. يعيش الفلسطينيون في الضفة الغربية محاصرين ويتمّ الاستيلاء على أراضيهم ومقدراتها كل يوم، ويعيشون في أراضي عام 48 كمواطنين بحقوق أقلّ، ويعيشون في غزة محاصرين في ظروف بالغة السوء، وفي سائر العالم لاجئين منقوصي الحقوق، فيما فشلت كل سنوات التفاوض السياسي الطويلة في إنجاز أي شيء. ما الذي يمكن أن تفضي إليه أوضاعٌ كهذه سوى المقاومة بكل الأشكال المتاحة، وما الذي يمكن أن تكونه أوضاعٌ كهذه سوى مضخة لا تتوقف للعنف والحروب؟
كان أفيخاي أدرعي، الناطقُ باسم الجيش الإسرائيلي، قد وصفَ مسيرة قطاع غزة بأنها أعمال بذيئة، ولا يسعنا هنا إلّا أن نتذكر وزير الداخلية السوري عام 2011 وهو يقول: «عيب يا شباب… هذه اسمها مظاهرة». كانت أغلب تعابير أدرعي في أحد الفيديوهات التي بثّها على فيسبوك، مطابقة تقريباً لكلام النظام السوري عن المظاهرات التي خرجت ضدّه عام 2011، كلامٌ عن مخربين وإرهابيين ينتهكون القانون، ويضعون المدنيين في مواجهة الموت ويختبئون خلفهم.
لا يمكن تجاهل التشابه بين أوضاع الفلسطينيين وأوضاع أبناء المناطق السورية التي تمردت على حكم الأسد، فالشرعية الدولية هي التي كفلت قتلهم طيلة نحو سبع سنوات، وكانت قابلةً أشرفت على ولادة مأساتهم، التي اندرجت فيها كل أنواع الانتهاكات للشرعية الدولية نفسها، من القصف العشوائي على مناطق آهلة بالمدنيين إلى التهجير القسري، مروراً بالقتل تحت التعذيب والقتل الجماعي بالأسلحة الكيميائية. كذلك اندرجت في مأساتهم أشكالٌ من استغلال دول إقليمية وعظمى لكفاحهم على نحو انتهازي ضيّق الأفق، وأشكالٌ من انحطاط القيادة السياسية والعسكرية لهذا الكفاح، على نحو سوّغَ لكثيرين الوصول إلى خلاصات تدين ثورة السوريين، وفي أحيانٍ كثيرة قبل ودون أن تدين النظام الذي يقتلهم.
ثمة وضعٌ إقليميٌّ ودوليٌ يدفع باتجاه وضع قضية السوريين وقضية الفلسطينيين في موقعين متعارضين، تبدو الغارات الإسرائيلية الأخيرة على مواقع إيرانية في سوريا تكثيفاً له، وثمة تبريرٌ «برغماتي» مزدوج لذلك، يقول في طوره الممانِع إن «كل رصاصةٍ تطلق على إسرائيل هي جيدة، حتى لو كانت من الشيطان نفسه»، تبريراً لإلباس دعم نظام المجزرة في سوريا كوفيةً؛ ويقول في طوره الممانِع المعكوس، إن في ربط القضية السورية بالمسألة الفلسطينية عدميّةً ليست إلا نتيجة «ترسّبات التربية البعثية» التي لم «نتحرر» منها بعد، وغيرها من الرطانات الثقافوية.
بالإمكان الحديث طويلاً، وغالباً ما نفعل، عن الدور الفاعل لتنظيمات فلسطينية في دعم نظام المجزرة، وعن رياء وزيف الممانعة العالمية التي لا تجد حرجاً في الاستخدام الشعاراتي لفلسطين، في الوقت نفسه الذي تدعم فيه قَتَلةً مثل بشار الأسد. على نقد الخِطاب هذا أن يستمرّ، لكن ما لا يمكن أن يحصل هو أن تكون مناكفة المُمانعة وتجريم ريائها منطلقاً ومستقراً للتفكير في قضية الفلسطينيين، فكثرة المناكفة، خصوصاً إن مُزجت مع إحساسٍ بالخذلان، هي الشكل الأمثل للتحوّل إلى نسخة معكوسة عن الآخر، أي إنتاج سلوكه نفسه، وبألوان مختلفة. ولنا في سوريا، في السلوك الإجرامي للفصائل الإسلاموية، مثالٌ عن كيف توالدت «أنظمة أسدية» مصغّرة من العداء الجذري للأسد الأصل.
لا يمكن الحديث في عالم اليوم، شديد الاختلاط والتداخل، عن قضايا إنسانية متباعدة يمكن أن تتجاهل بعضها، فكيف إذا كان الحديث عن قضية ليست ملتصقة بنا فحسب، وليس لدينا نسخ محلّية من كل تفصيلاتها فحسب، بل إنها شديدة التداخل مع قضايانا، جغرافياً وبشرياً وقيمياً، بشكلٍ لا يسمح لنا بتصوّر أي منظور لقضية سوريّة دون بُعد فلسطيني واضح في تكوينها، ولا لقضيةٍ فلسطينية يمكن لها أن تطلب من القضية السورية أن تصمت، أو أن تبتعد عنها، قليلاً أو كثيراً.
يُذبح السوريون والفلسطينيون اليوم تحت ظلّ «الاستثناء» الدائم، المؤبد، ولا مفاجأة في أن تكون إسرائيل مساوية للنظام الأسدي من جهة الهوس بمفهوم «الأبد». ينتعش الاستثناء بفضل أوضاع دولية بالغة السوء، وهو يحاصرنا ويمنعنا من أن نمارس إنسانيتنا، من أن نكون طبيعيين؛ من أن نعيش حياتنا السياسية خارج حصار مفاهيم الخيانة والوطنية، فاشيّة التكوين؛ من أن نتنوع ونتشاجر وننقسم ونساوم ونتصالح، من أن نكون بشراً، بالمحصلة! استثناءٌ لا يمكن مسايسته براغماتياً، ولا مقاومةَ محلّية ممكنة له. وأصلاً ما معنى الحديث عن «المحلّية» بين غزة واليرموك، أو بين المخيمات السورية والمخيمات الفلسطينية في لبنان والأردن، وسوريا نفسها!
إنهاء الاحتلال الاستثنائي لحيواتنا ولموتنا، وألا نُستباح… هذا ليس بكثير، وهذا ليس شعاراً.