في الآية الثالثة والأربعين من سورة النساء في القرآن الكريم، يحدّ اللهُ تعالى من الأفعال التي يُسمَح للمسلمين أن يفعلوها وهم تحت تأثير الكحول: «يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأنْتُمْ سُكارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولون».
إن كانت صيغة هذه الآية تُظهِر أنه من المسموح للمؤمنين أن يكونوا سكارى في غير وقت الصلاة، فإن هذا ليس خطأً، لأن شُرْب الكحول كان حَلالاً تماماً في صدر الإسلام، قبل هجرة النبي محمد من مكة المكرمة ولفترةٍ بعدها في المدينة المنورة. وإن كانت صيغة الآية تُظهِر أيضاً أن أحداً قد قربَ الصلاة فعلاً وهو سكرانُ غير عالمٍ ما يقول، فهذا أيضاً ليس صدفة.
تقول كُتُب تفسير القرآن الرئيسية الأساسية (تفسير الطبري وابن كثير وغيرهما) حول هذه الآية إن أحد أهم صحابة رسول الله، عبد الرحمن بن عوف، وبعض أصدقائه قد استمتعوا ذات يوم بوليمة غداء مجيدة، تناولوا خلالها أرقى أنواع الخمور، حتى أدركتهم صلاة المغرب، فذهبوا إلى المسجد حيث اقترف أحدهم خطأً خطيراً أثناء تلاوته المصحف، ولهذا السبب أنزل رب العالمين الآية المذكورة.
الخمر، إذن، كانت لا تزال حلالاً وقتئذ، ولكن ضمن حدود. كان يُحَقُّ، على سبيل المثال، للمؤمن المجاهد أن يشربها قبل غزوة كبيرة، كما رُوي في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث الشريف، ما دام يتركها بعيدة عن المصلّى. وتُبدي آياتٌ قرآنية أخرى صورةً ذات اعتدال مشابه، إذ يقول الله في سورة البقرة، آية 219، إن للخمر وللمَيْسِر «مَنَافِعُ لِلنَّاس»، ولو أن «إثْمُهُمَا أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا». ويقول سبحانه في سورة النحل، آية 67: «وَمِن ثَمَراتِ النَّخيلِ وَالأَعنابِ تَتَّخِذونَ مِنهُ سَكَرًا وَرِزقًا حَسَنًا إِنَّ في ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَعقِلونَ». ولم يكن إلّا سنوات عديدة قد مرّت على هجرة النبي حتى جاءت الآيتان الأشدّ إدانةً للخمر، اللتان لا تذكران أي حسنة في شربها، وهما الآيتان 90 و91 من سورة المائدة، حيث يصف الله الخمر بأنها «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ» ووسيلةٌ يريد الأخير استغلالها من أجل «أنْ يُوْقِعَ بَينَكُمُ العَداوَةَ وَالبَغضاءَ» و«يَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ».
كلماتٌ صارمة، بلا شكّ. لكن علماء وفقهاء العصور الإسلامية الأولى قد اختلفوا اختلافاً شديداً حول مكانة الكحول الشرعية. فلاحظَ بعضهم أن فِعْل «التحريم» ليس مستخدماً في أيٍّ من الآيات الخاصة بالخمر، على عكس الآيات الخاصة بتناول لحم الخنزير، مثلاً. وعلى الرغم من أن الآية 90 من سورة المائدة قد سُمّيت بـ «آية التحريم» من قِبل مُحَرِّميّ الخمر، فالفعل الوارد في نص الآية هو الاجتناب، وليس التحريم، إذ يقول الله «فاجْتَنِبُوهُ» ولا يقول «حُرِّمَتْ عليكم الخمر» أو ما شابه. فالسؤال الذي طرحه بعض العلماء كان: هل هذا تحريمٌ، أم مجرد نُصْح؟ نعرف أن جماعة من الفقهاء قد اعتمدوا التأويل الثاني، لأن ابن قتيبة المحافظ قد استنكرهم في كتابه «الأشربة وذكر اختلاف الناس فيها»، قائلاً إنهم «من مُجّان أصحاب الكلام وفسّاقهم، لا يعبأ الله بهم». وعلى نحو مماثل، يَذكر نصُّ الآية الخمرَ تحديداً، التي هي مصنوعة من العنب حصراً، وتكون مُسكِرة بشدّة، يجب مزجها بماء، مما دفع فِرَقاً من الأحناف والمعتزلة إلى تحليل شرب النبيذ، التي كانت تختلف تماماً عن الخمر آنذاك، كونها مصنوعة من التمر أو الزبيب أو الكثير من الفواكه الأخرى دون العنب، وكانت أخفَّ وأقلَّ إسكاراً من الخمر، حتى أنه قيل في صحيح مسلم وسنن أبي داود وغيرهما إن النبي نفسه قد استسقى النبيذ في أكثر من مناسبة، مع أن تلك النبيذ لم تبلغ حد الإسكار حسب المصادر. وكان هناك فئة من المعتزلة التي لم تكتفِ بتحليل النبيذ فحسب، بل ذهبت إلى تحليل الخمر أيضاً، بشرط ألّا يصلَ شاربُها إلى مرحلة أن يساعدَ الشيطانَ الرجيمَ على إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، أو على صدّهم عن ذكر الله والصلاة. نادراً ما نجد في تاريخ الأديان أن القراءة الحرفية تنتج مثل هذه النتيجة المفرحة.
إن شكّلتْ مسألة الأشربة موضعَ جدلٍ لدى رجال الدين، فقد كان الأمر أصفى وأبسط خارج المساجد، حيث كانت الأغلبية الساحقة من نخبة المجتمع تشرب المُسكِرات. من وزراء وحكماء ومفكرين ومغنّين، كلّما كان الشخص أكثر ثراءً ومكانة، كانت مجالس شُرْبِه أفخر. وطبعاً أمجدُ السهرات كانت عند أمير المؤمنين نفسه، فمن البديهي أن يكون لمنادمة خليفة الله وأمينه تعالى إمام الهُدى وخير البريّة، ميزاتٌ لا تقارَن. خذوا، كمثال من أمثلة لا تحصى، الوصف التالي لأحد مجالس الخليفة العباسيّ محمد الأمين في بغداد:
لم ترَ العرب ولا العجم مثله، قد صُوّر فيه كلّ التصاوير، وذُهِّبَ سقفُه وحيطانُه وأبوابُه، وعُلِّقَت على أبوابه ستورٌ معصفرة مذهبة، وفُرش بمثل ذلك من الفَرْش (…) فدخلوا فرأوا أُسّاً لم يروا مثله قط ولم يسمعوا به، من إيوان مشرف فائح فاسح، يسافر فيه البصر، وجعل كالبيضة بياضاً، ثم ذُهّب بالإبريز المخالَف بينه باللازورد (…)
«إني أحببت أن أُفرغ مُتعة هذا المجلس معكم، وأصطبح فيه بكم» (قال الأمين لندمائه). «وقد ترون حسنه، فلا تنغِّصوني ذلك بالتكلّف، ولا تكدِّروا سروري بالتحفّظ، ولكن انبسطوا وتحدثوا وتبذلوا، فما العيش إلّا في ذلك».
أُتِي بالشراب كأنه الزعفران، أصفى من وصال المعشوق، وأطيب ريحاً من نسيم المحبوب (…)، و[شربوه صبوحاً وغبوقاً حتى ناموا في أماكنهم]
طبقات الشعراء، ابن المعتز، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، الطبعة الثالثة، دار المعارف، القاهرة، 1956، الصفحات 209- 211. .
كالعادة، كان هناك من بين الضيوف شعراءٌ شرفاء، وهم مطلوبون دائماً عند أمراء المؤمنين كندماء، بفضل ما كان لديهم من علم وظرف وفكاهة. فليس بصدفة أن أصبح شُرْبُ الخمر أحدَ أهم أغراض الشعر في زمن الخلافة العظمى، وأحياناً قد أَلَّفَ هذا الشعرَ الخلفاءُ أنفسهم، إذ أن ديوان الخليفة الأموي الوليد بن يزيد، على سبيل المثال، فيه بعض الخمريّات الأجمل (والأمجن) في الأدب العربي كُلّه:
أُشْهِدُ اللهَ والملائكةَ الأبْ-…. رَارَ والعابِدينَ أهْلَ الصَلاحِ
أَنَّنِي أَشْتَهِي السَّماعَ وشُرْبَ ال-… كأسِ والعَضَّ لِلخُدودِ المِلاحِ
و:
اسقِني يا زَيدُ صِرْفاً… اسقِني بالطَرْجَهَارَهْ
من أواني شرب الخمر، والكلمة فارسية الأصل. اسقِنيها مرّةً يأ-…. خُذُنِي مِنْها استدارَهْ
اسقِنيها كَيْ تُسَلِّي…. ما بِقَلبِي مِنْ حَرَارَهْ
و:
يا أيُّها السَّائِلُ عن دِينِنَا… نحنُ على دِينِ أبي شاكِرِ
نشربُها صِرْفاً ومَمْزُوجَةً… بِالسُّخْنِ أحياناً وَبِالفاتِرِ
لا شك أن الوليد امتازَ في إدمانه على الخمر حتى عن باقي المدمنين من الخلفاء، فمن مآثره السباحة في بركة مملوءة خمراً (يظنّ بعض علماء الآثار أنها كانت توجد في قصر هشام، شمال أريحا)، بالإضافة إلى محاولته القيام بحج البيت الحرام ومعه العديد من القيان وقناني الخمور، سعياً ليجعل الكعبة المشرفة «خيمة احتفالٍ»، حسب كلمات المؤرخ الأستاذ ستيفين جود. وكونه قد أغضب الطبقة الحاكمة جميعاً تقريباً، اغتيلَ الوليد بن يزيد نتيجة انقلاب بعد مرور سنة واحدة فقط على مبايعته.
خيْرُ شعراء الخمر (ناهيك عن شاربيها) كان أبا نواس، شاعر بلاط الخليفة الأمين ونديمه الحبيب، الذي أنشد أكثر من ثلاثمائة خمرية لا يزال يقرأها العرب حتى يومنا هذا. مُشاغبٌ شهير، مُفاخرٌ بمضاجعته الرجال قبل النساء، كانت عبقريته مدهشة الامتداد، صعوداً ونزولاً، قادرة على تناول أعظم مسائل الدنيا والآخرة، وأسفلها وأسخفها سواء. وبسبب سخريته الجسورة من محافظي الدين والثقافة، سُجِنَ الشاعر أكثر من مرة، وليس من الصعب كثيراً تخيُّل ذلك إذ ننظر إلى تلك القصائد الساخرة الآن، حتى (أو خصوصاً) في عام 2018:
لو كانَ لي سَكَنٌ في الراحِ يُسعِدُني… لما انتظرتُ بِشُرْبِ الراحِ إفطارا
الراحُ شيئٌ عجيبٌ أنتَ شارِبُها… فاشربْ وإنْ حَمَّلتْكَ الراحُ أوزارا
يا مَنْ يَلومُ على حَمراءَ صافيةٍ… صِرْ في الجِنانِ وَدَعْني أسكُن النّارا
طبعاً، يشير بقوله «إفطارا» إلى صوم رمضان، ركنٌ من أركان الإسلام الخمسة، التي كاد أبو نواس أن يسخر منها جميعاً، سواء كان فرض الصلاة، أو الزكاة، أو الحج. لعلّ أنَّ الشاعر اتُّهمَ بالزندقة، ووُعِدَ بنار جهنم من قبل بعض الدعاة، ليس أمراً مستعجباً للغاية.
ولكن، مع كل ذلك الاستخفاف المجاهر بعبادات الدين وأفعال الصالحين، لم يزل أبو نواس رجلاً ديّناً صادقاً من نواح أخرى لا بأس بها. فبالإضافة إلى خمرياته و«كُفْرياته» (كما سُميت مجموعة صغيرة من أبيات ديوانه)، نظم العديد من الزُهْديات المتنسّكة، الداعية إلى التقوى والتوبة، حتى خَشي عميدُ الزهديات أبو العتاهية أن يتفوق حُسْنها على أعماله النبيهة. وبالتالي كان أبو نواس حافظاً للقرآن منذ طفولته البصراوية (حيث قال له معلمه يعقوب الحضرمي إنه «أقرأُ أهل البصرة»)
كيف يُفسَّر هذا التناقض الظاهر؟ إنه سؤال أحاول إجابته في كتابي فكاهة معتّقة: خمريات أبي نواس الإسلامية. الجواب القصير هو أنه لم يكن سيبدو متناقضاً في زمن الشاعر ومعاصريه، فبكل بساطة لم يكن من الغريب آنذاك للمفكرين المسلمين أن يشربوا المسكرات. العالِم الموسوعي أبو زيد البلخي، على سبيل المثال، كان يشجّع شُرْب الكحول لفوائده الصحية «الاستثنائية» من جهة، ومن جهة أخرى كان قد كتب تفسيراً للقرآن استحسنه رجال الدين بشدة. الجواب الأطول قليلاً هو أن أبا نواس كان يشتبك، من خلال شعره، بجدال قد استمرَّ منذ صدر الإسلام، ولم يخصّ ذلك الجدال مسألة المسكرات فحسب، بل مسائل الفكاهة، والسخرية، والحريات الشخصية، والذنوب، والغفران. وإن حُسِمَ الجدال لاحقاً لصالح الطرف المحافظ المُحَرِّم، فكان ذلك نتيجة عوامل تاريخية وسياسية عابرة أكثر من أي ثوابت جوهرية لآيات القرآن. شِعْرُ أبي نواس يسمح لنا أن نتصور كيف كان ممكناً للأمر أن يكون مختلفاً، كما أنه لا يزال ممكناً أن يصير مختلفاً.
ليست إعادة النظر في تحريم الخمر فقهيّاً مُرجّحةً على الأفق القريب، إذ في عام 2012 تعرَّضَ الأستاذ الأزهري د. سعد الدين الهلالي لهجوم إعلامي عنيف حين قام بمجرد ذكر أن العلماء الأحناف كانوا يحللون شرب النبيذ سابقاً، دون أن يشاركهم ذلك الرأيَ الأستاذُ نفسه. وهكذا فإن مشروع الملك السعودي الجديد المُعلَن عنه في تشرين الأول الماضي «للتدقيق في استخدامات الأحاديث النبوية» و«القضاء على النصوص الكاذبة والمتطرفة» سيكون له عمل على مدار الساعة لسنوات طويلة، إذا كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ستقبل بتناول الخمر.
على كل حال، وإلى ذلك الحين، فإنه بوسع ملايين المسلمين الذين يشربون المسكرات أن يعلموا أنهم ليسوا شواذّاً خونةً لتراثهم وهوياتهم، وإنما أصحاب تقاليد محليّة بامتياز، عربية وغير عربية، قد التزمها إخوتهم وأخواتهم المؤمنون والمؤمنات خلال تاريخ الأمة الإسلامية كله، ومنذ أيام الرسول نفسه. ألا يجبُ احترام التقاليد؟