لا يبدو أن هناك شيئين أكثر تباعداً من الحب والتعذيب. الحب يُوحِّدنا مع غيرنا فيُقوِّينا، والتعذيب يُفرِقنا عن أنفسنا فيكون أشد ضعفنا وانكشافنا. في الحب نخرج من نفوسنا إلى الحبيب لنمتلئ به، وفي التعذيب يُلاحقنا إلى داخل نفوسنا عدوٌ يعمل على تفريغنا وتجويفنا. فيما عدا أن الحب والتعذيب علاقتان بين طرفين، أو هكذا تبدوان للوهلة الأولى، يبدو أنهما على طرفي نقيض في كل شيء آخر.
لكن بين هاتين العلاقتين ما هو مشترك وما يضيؤهما معاً: محو الحدود بين طرفي العلاقة المباشرين.
الحبّ
في الحب نتخلى عن حدودنا، نسمح للمحبوب بعبور الحدود إلينا والدخول في عالمنا، ويسمح لنا المحبوب بعبور الحدود إليه والدخول في مجاله. أتكلم على الحدود الجسدية، ولكن أيضاً على حدود الفضاء الشخصي. الحب هو هذا الامِّحاء لصنفي الحدود، وتشكلنا مع الحبيب في كيان واحد، تمثله غالباً السكنى في بيت واحد. وبقدر ما يزول الفرق بيننا، يبرز الفرق بيننا نحن الاثنين/الواحد وبين غيرنا، بمن في ذلك أسرتانا السابقتان. نصبح نحن واحداً بعد أن كنا اثنين، وننفصل في الآن نفسه عن وحداتنا السابقة، أو نخرج في الحب من وحدتنا إن كنا مُنفصلين سلفاً عن وحدات سابقة. من لطائف الحب اليومية ما يتداوله الحبيبان من نمائم عن معارفهما، وحتى عن أفراد أسرتيهما، بمن فيهما أميهما وأبويهما، مما لا يجري تداوله عادة حتى مع الأصدقاء المقربين. ومن تعثرات الحب المؤلمة أن تفشى هذه الأسرار الصغيرة أو أن يستغلها أحد الحبيبين ضد الآخر حين يحدث أن تتداعى علاقتهما وتعاود حدود جديدة الارتسام بينهما. ومن توترات الحب أن نخاف من زوال حدودنا مع حبيب كي لا ننكشف ضعفاء، فنقترب نحوه خطوة ونرجع خطوة، أو لا نسمح بزوال حدودنا إلا لأوقات محدودة، لحظات الجنس مثلاً، فتصير هذه اللحظات بالذات رمزاً للحدود لا لزوالها. الخوف من الحب على هذا النحو، أو كره الحب، شائع.
وأعلى ذرى الحب تتصل بما يتكرر في أغنية الحب العربية: الذوبان، الزوال التام للحدود بين الحبيبين. وهذا لا يقتصر على أوقات الاتحاد الجنسي، بل هو مما يميز الحياة المشتركة المديدة بين شريكين متحابّيْن أيضاً. في كل حال، الحب تجاوزٌ متبادل للحدود وزوال متبادل للآخريّة. وما قد يخشى بعضنا الوقوع فيه، وبخاصة في الزمن المعاصر حيث يحمل كثيرون منا حدودهم أينما ذهبوا كأنهم سلاحف تحمل دروعها على ظهورهم (وإن نكن اليوم سلاحف متعجّلة)، وحيث يكاد يزول الحب لمصلحة علاقات التعاقد العقلاني بين أفراد، هو أيضاً «الذوبان»، فقدان التحكم بالنفس وضياع الحدود. نريد الحب ونخشى الذوبان.
التعذيب
في التعذيب زوال للحدود أيضاً، يتجاوز فيها المعذّب حدود المعذب أو المعذبة، بما يمس بهذه الحدود وبالتكامل الجسدي للضحية. المعذّب، الجلاد القائم بالتعذيب، يطارد المعذّب إلى داخل نفسه، يعمل على أن يفرغ هذا الداخل أو يحتله أو يدمره.
إزالة الحدود في التعذيب فعل انتهاكٍ عنيف، وقد يكون مميتاً. تموت الضحية حين تفقد حدودها كلها، ويزول كل حد بينها وبين عالم الأشياء. الانتهاك قسري من جهة، يجري ضد إرادة المعذب، وهو من جهة أخرى غير تبادلي. المعذب أو المعذبة ليس شريكاً في علاقة التعذيب، ما يجعلها لا-علاقة أو ضد-علاقة إن جاز التعبير، رابطة تدمير. يكون المعذَّب في وضع انكشاف شديد، موشك على فقد ملكية نفسه، جسده أو جسدها هو ساحة المعركة. يقاوم، يحاول حماية حدوده بالتحمل. لا يكاد أن يصدق أنه هنا، أنه وقع هذه الوقعة، لكن عليه أن يصدق كي يخوض المعركة موحداً، وينجو بما يمكن من جسده وداخله. يعرف أنه إن «انهار»، تداعت حدوده، فقد نفسه وقد لا يلتقيها من جديد يوماً.
في الحب يفقد فردان كيانهما ليصيرا واحداً، في التعذيب قد يفقد المعذب أو المعذبة كيانه، يباح لفرد أو أفراد آخرين، قد يرهنون سلامة كيانهم بانعدام سلامة كيان الضحية.
بالاستناد إلى الخبرة السورية، قد يمكن التمييز بين ثلاثة صنوف للتعذيب وثلاث انتهاكات للحدود: تعذيب تحقيقي أو استجوابي، تعذيب إذلالي-انتقامي، وتعذيب إبادي.
التعذيب التحقيقي يلعب على حدود المعذب، ينتهكها، ويهدف إلى إثارة حرب أهلية في داخله، نزاع بين غريزة البقاء الفردي والالتزامات العليا للفرد ككائن اجتماعي حيال رفاق وشركاء، فيثير حرباً في النفس، تتراوح مآلاتها بين تضحية المعذب بالأعلى والغيري فيه لمصلحة الأدنى والأناني (بقاءه)، أو بموت المعذب حمايةً لما نسميه في العربية سريرته، موضع السر منه. هذا ما كان يتعرض له أعضاء المنظمات السياسية المعارضة التي يريد النظام إبادتها كمنظمات دون إبادة أعضائها. جريمة المعذب هي انحيازه السياسي المعارض للنظام، انتسابه لمجموعة معارضة، وليست فعلاً محدداً قام به. لكن هنا انفصال بين جهاز الاعتقال والتعذيب، وهما واحد، وجهاز الحبس. بعد التحقيق أحيل المعتقلون الذي تعرضوا لتعذيب تحقيقي حصراً، وكنت منهم في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، إلى سجون كانت العقوبات الجسدية فيها محدودة.
غرض الجلاد، أو بالأحرى «البرنامج» الذي ينضبط عمله به، هو أن يسود على المعذّب، يجتاز حدوده ويقيم في داخله ويتجول بحرية، يُفرِّغه ويستولي على «دخيلته». وغرض المعذب هو أن يحول دون ذلك، أي أن يحمي ذاتيته، داخله الأهم.
هناك صنف آخر من التعذيب التحقيقي، يعمل على إبادة المعنيين تنظيماً وأشخاصاً. وفي جيلي هذا كان من نصيب الإسلاميين بخاصة. هنا يتجاوز الأمر إثارة حرب أهلية في دواخل المعذبين، إلى استعباد دائم لمن لم يمت منهم.
وهنا تمحى الحدود بين التعذيب التحقيقي والتعذيب الإذلالي. ومن هذا الصنف أكثر التعذيب الذي خبرناه في سورية: تعذيب انتقامي- إذلالي، غارات تعذيب مستمرة وعشوائية معاً، لا تبالي بحدود المعذب وداخله، ومصيره، تضعه في «حالة استثناء» دائمة لا يستطيع توقّع ما يحدث له، ولا يتوقع منه جهاز التعذيب شيئاً. جريمة المعذب هنا أيضاً ليست شيئاً محدداً فعله، لكنها ليست كذلك موقفه السياسي المعارض، بل هي انتماؤه أو ما يعتقد به (نص قانون صدر في تموز 1980 على إعدام كل منتسب إلى الإخوان المسلمين، أيّاً يكن ما فعله أو لم يفعله). لا شيء يُجدي المعتقل هنا، ولا ينفعه استسلام. يمكن أن يتعرض المعتقلون لتعذيب عشوائي يومي لسنين طويلة، العقدين الأخيرين من القرن العشرين بكاملهما، دون أن يستطيع المعذب أن يستسلم وينهي عذابه، ومع هامش عريض من التسامح بموت المعتقلين. التعذيب في معسكرات تعذيب مثل سجن تدمر الأسدي، في سجن صيدنايا الأسدي أيضاً، من هذا الصنف الذي أرجح أن يكون المقصود صنع ذاكرة لا تنسى، موجّهة نحو ما يتجاوز المعذب نفسه نحو ردع وترهيب السكان كلهم. جسد المعذب وكلماته هما بمثابة لوحة إعلان تخاطب من يراه كي يصير التماهي به ممتنعاً.
التعذيب بهذا المعنى علاقة سياسية، لا يكون المعذبون مباشرة غير ضحاياها المباشرين. هذا هو الحال على الأقل في «سورية الأسد»، التي هي دولة اعتقال وتعذيب منذ قيامها مطلع سبعينات القرن العشرين، اقتضت أن تكون أجساد المحكومين مباحة لها بلا حدود. «البرنامج» هنا هو تجاوز حدود المجتمع، مما كان محسوساً من قبل سوريين كثيرين في أواخر سبعينات القرن العشرين ومطلع ثمانيناته، قبل أن يجري تطبيع تجاوز الحدود، وتراجع استهوال أي انتهاك مهما يكن فادحاً.
أتكلم على معسكرات تعذيب لأن هذا هو ما يجري هناك أساساً. لم نعرف في سورية معسكرات عمل قسري مثلما عرفت ألمانيا النازية وروسيا الستالينية، ولم نعرف معسكرات غربلة filtration camps، يجري فيها تجميع كل الناس في منطقة ما قبل الاحتفاظ بمن تريد السلطات قتلهم أو تعذيبهم، مثلما فعلت روسيا في الشيشان في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي. لكن معسكرات التعذيب الأسدية تقارب معسكرات القتل النازية من حيث أن تركيز السجناء فيها قد يمهد لقتلهم الفوري أو بعد حين. سجن صيدنايا هو معسكر اعتقال ومعسكر قتل في آن. سجن تدمر في العقدين الأخيرين من القرن الماضي مثله.
وفي الحالين هناك استمرار بين جهاز الاعتقال والتعذيب التحقيقي، المفرط الحد هنا، وبين معسكر التعذيب الذي يقضي فيه المعتقلون سنوات قد تتجاوز العشرين، وهذا رغم الانفصال المكاني بينهما. التعذيب لا يتوقف بعد التحقيق، يستمر حتى موت المعتقلين أو خروجهم بعد سنوات طويلة مُحطّمين.
والسؤال الذي يُثار في هذه الحالة: لماذا يجري تعذيب وإذلال من يُرجّح أن يعدموا بعد حين؟ هذه المفارقة استوقفت بعض دارسي الجينوسايد، ويبدو أن التعذيب في مثل هذه الحالة موجه نحو الجلادين، يروم إشراكهم في الانفصال التام عن المعذبين والتماهي التام بالقاتل. الغرض المرجح هو «التشريط المناسب لمن يقومون بالإذلال كي يستطيعوا القيام بما يفعلون»، حسب فرانز شتانغل الذي كان آمراً لمعسكري اعتقال سوبيبور وتربلنكا النازيين، على ما أوردت إيفا فوغلمان في بحث لها عن «الاغتصاب أثناء الهولوكوست النازي: انكشافات ودوافع» (في كتاب Rape: Weapon of War and Genocide، من تحرير كارول رتنر وجون ك. روث، 2012، ص 25). أي أن الغرض هو ضمان تحول القائمين بالتعذيب إلى محض معذِّبين، اختصاصيي تعذيب، أكفاء في التعذيب يُستنفدون فيه ولا يجيدون غيره، ما يشدهم إلى من يوفر لهم الأجساد اللازمة للقيام بما هم أهل له. وتنسب فوغلمان إلى بريمو ليفي قوله في شرح الشيء نفسه: «يجب الحط من شأنهم [المعذّبين] قبل قتلهم من أجل تخفيف الشعور بالذنب عند القاتل» (الصفحة نفسها).علاقة التعذيب لا تُقتصَر بالتالي على تفريغ المعذب من ذاتيّته، بل هي تُفرِّغ الجلاد أيضاً، تجعل منه قوة جلد وتعذيب لا أكثر.
على أن التعذيب يمكن أن يكون إثباتاً للقوة وجسارة القلب، مما لا يقدر عليه رجال مخنثون أو «طنطات» كما كان يقال لنا، نحن المعتقلون اليساريون في سجن تدمر عام 1996. إنه فعل رجولة، انتصار على رجال آخرين (وإن يكونوا عُزّلاً ولا حول لهم، وهو ما يقول شيئاً عن انحطاط آلة الحكم الأسدية)، وانتماء إلى الطرف القوي المنتصر حتماً، الذي يخطئ/يجرم من يواجهه وعليه أن يدفع ثمن أخطائه/جرائمه. وهو ما يلقى التعزيز من مُعذِّبين آخرين يروون بطولاتهم ويتداولون النكت عن رعب المعذّبين وتَفلُّت أجسادهم منهم، فضلاً عما يلقونه من مكافآت وترقيات وتقدير من وكالة التعذيب العامة: الدولة.
وفي كل حال التعذيب علاقة ثلاثية: المعذَّب، والمعذِّب المباشر، ووكالة التعذيب. ويبقى ما تقدمت الإشارة إليه من كون التعذيب علاقة سياسية تستهدف عموم السكان هو الجوهري في تصوري، وهو ما يسوغ الكلام على «سورية الأسد» كدولة تعذيب.
وهناك ضرب ثالث هو التعذيب الإبادي، إذا جاز التعبير، حيث يُقتل المعذبون بالجملة ويوضعون في شروط من الجوع والمرض والازدحام والرعب والإذلال وتلوث الهواء في زنازين خانقة كريهة الرائحة، تجعل من الموت راحة. تقوم بالتعذيب الإبادي آلة تعذيبية تجمع بين أنشطة الاعتقال والتعذيب والقتل ونقل المقتولين ودفنهم في مقابر جماعية غير معلومة المواقع، فضلاً عن التوثيق ورفع المعلومات إلى جهات أعلى. وتشمل الآلة الإبادية فروعاً أمنية ومشافي وسجوناً مُستحدَثة أو أقدم، وهي جزء من التحول الإبادي للنظام بعد الثورة في ربيع 2011. هنا صار التحقيق والإذلال يندرجان في إبادة تتجاوزهما. وجريمة المعذب هنا هي ما يكونه، وليست ما يعتقده أو ما فعله. في حالات كثيرة يكفي انحداره من منطقة ثائرة حتى يُعتقل ويُعذب، وربما يُقتل.
ومن خصائص التعذيب الإبادي أنه منظم ومستمر، ولا يترك لقرار وكالات التعذيب المباشرة. لديها على الأرجح توجيهات بالعمل بكل الطرق على إبادة الثائرين والمشتبه بهم، ويبدو أنها تحوز تفويضاً بألا تقف عند حد. وترقيم جثث الضحايا وتصويرها وتوثيقها، مثلما نعلم من تقرير سيزار (55 ألف صورة سربها عام 2013 شخص كان يصور الجثث المرقمة بأمر من جهات عليا) يؤشر على صناعة قتل منظمة. (كذلك الرابط هنا، وأيضاً كتاب عن عملية سيزار لغارانس لو كيزن).
وبينما يتجاوز التعذيبُ التحقيقي حدودَ المعذب والتعذيبُ الإذلالي حدودَ المجتمع، فإن التعذيب الإبادي يتجاوز حدود الإنسانية، ويخرج عن المقياس الإنساني. هذا التعذيب جزء من مُركّب إبادي، هو ما يسمى الجينوسايد عادة. فإذا كان كل شيء ممكناُ في معسكر الاعتقال، على ما قالت حنة آرندت من وجهة نظر المعتقلين، فإن الوجه الآخر للمعسكر هو الحرية الكاملة لدولة الإبادة، توسعها في التعذيب والقتل دون حدود. انتهاك حدود المعتقلين يقتضي ألا يكون لوكالة الاعتقال والقتل أيّ حدود.
ولعل من المناسب في هذا المقام استحضار التمييز الذي أقامته سامنثا فلسياتوري بين الموت تحت التعذيب والموت بالتعذيب. تقول الباحثة الإيطالية إن الموت في الحالة الأولى أثر جانبي للتعذيب، بينما هو نتاجه المقصود في الحالة الثانية
وفي أشكاله الثلاثة يحطم التعذيب اللغة التي يعي المعذب نفسه ويعبر عن نفسه من خلالها. يحل محلها الصراخ، وهو مشترك بيننا وبين الحيوانات حين نختزل إلى أجساد متألمة. بيان اللغة مرتبط بمسافة مصانة بيننا وبين من نكلم، بتكامل جسدنا وتباينه عمن نخاطب، وهو مشروط تالياً بغياب التعذيب. لا نستطيع أن نتكلم بينما هناك من يحاول اقتحام أجسادنا بعنف. وقد يفقد المعذب الكلام نهائياً، حتى بعد انتهاء تعذيبه، أو حتى بعد خروجه من المعتقل: ينسحب إلى داخل نفسه صامتاً، وربما يفقد حتى الكلام مع نفسه.
الاغتصاب
ليس هناك تعذيب ليس مُذلاً، وإن لم يكن كل تعذيب إذلالياً بالدلالة الاصطلاحية للتعبير، لكن الاغتصاب هو الإذلال المحض. ما يجعل الاغتصاب أشنع الجرائم هو أنه تعذيب يرتدي قناع العلاقة الأكثر حميمية. تجد المُغتصبة نفسها في وضع من انتهاك حدودها سبق أن اقترن، إن كانت لها حياة عشقية وجنسية سابقة، بإزالتها الحدود بينها وبين شريكها، وإن لم تكن لها حياة جنسية اقترن بما تتخيله من اتحادها دون حدود وحواجز مع شريك أو شريكة. في الاغتصاب تُنتهك حدودها، ويفلت جسدها منها ليس دون رضاها ودون مبادرتها فقط، وإنما غصباً عنها، وتجد نفسها في وضع انكشاف أقصى. بصيغة تذكر بجان آمري، المثقف اليهودي البلجيكي الناجي من الهولوكست، الذي يقول عن تجربته الشخصية إن أول لطمة أثناء التعذيب تتسبب بتحطم الثقة بالعالم (At the Mind’s Limit, 1980)، تقول نور، وهي مغتصبة سورية من درعا في فيلم الصرخة المخنوقة لمانون لوازو: «أول طرف إيد انمدت ولمست جسمي حسيت في شي عم ينهار». الانهيار هو تداعي الحدود، وإن إلى الداخل. وبما يتجاوز زوال الحدود إلى تعدد كيانات المرأة وحدودها، وتبعثرها، تضيف نور: «كنت خايفة (…) فكري مو لجسمي، وجسمي مو لروحي، روحي بمكان وجسمي [بمكان] بين إدين وحوش. فكري بعالم آخر. في شي عم ينفصل بجسدي. كل شي انفصل عن بعض. فكري وذكرياتي وروحي غادرت جسمي». كأنما عبر انفصالها إلى كيانات متعددة (فكر وروح وذكريات، وجسم) تحمي شيئاً من ذاتيتها، تبقى شيئاً من داخلها غير مُستباح.
يكشف الاغتصاب أكثر من التعذيب جوهر هذا الأخير كانتهاك لحدود المعذب ومحاولة للدخول في كيانه، بقدر ما أن تَصوّر التعذيب كانتهاك للحدود يُضيء حقيقة الاغتصاب كتعذيب أساساً. وبقدر ما إن تعذيب الرجال فعل رجولة في عين الجلاد كما تقدم، فإن اغتصاب النساء فعل فحولة. الفحولة هي الوجه الجنسي للرجولة، التي هي الوجه الاجتماعي العام لكفاءات الرجل الناضج الشجاع القوي. لكننا حيال رجولة وفحولة مُنحطّتين، فمن يجري تعذيبهم هم عزل غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، ومن يجري اغتصابهن هن نساء معتقلات ومُرتاعات.
عبر الدخول العنيف والقسري في جسم المغتصبة يضع الجلاد يده على داخلها، على ذاتها، «فكرها وذكرياتها وروحها». أعز ما تملك المرأة هو ذاته أعز ما يملك الرجل، «الفكر والذكريات والروح»، الذاتية، وهذه تتحطم أو تتشظى حين تتعرض للاغتصاب، وحين يُقتحم داخلها من طرف خارج معاد قوي.
وعن تفكُّكٍ مماثل تتكلم السيدة فوزية حسين الخلف من الحُولة: «لما اغتصبني كنت بدنيا صرت بدنيا تانية». لعلها في إحدى الدُّنيَييْن ظلت سيدة نفسها، وإن كانت مستباحة في أخراهما. فوزية حاولت افتداء ابنتها دون جدوى. الفتاة اغتُصبت وقتلت في مذبحة الحولة، أيار 2012. أبوها قتل أيضاً.
وضع المغتصَبة مثل وضع المعذَّب أو المعذَّبة، جسدها مُباح للمعذِّبين، لكن الاغتصاب يتجاوز ذلك إلى انتزاع مُتخَيّل إزالة الحدود مع الحبيب على يد العدو ولمصلحته. هذا محوٌ انتهاكي للحدود، يُشيّء المغتصبة أو المغتصب ويسلبها كيانها وكيانه.
الاغتصاب أولاً فعل تَملُّك: المرأة تُمتلَك، وليس لها مثلما ليس للأشياء رأي في كيفية استخدامها. حين يقتحم المغتصب بالقوة مجال المرأة الجسدي الحميم، داخلها، لا يبقى لها داخل، «روح وفكر وذكريات»، تصير شيئاً. هي ذاتها تترك جسدها، تنفصل عنه إلى «عالم آخر» مثلما قالت نور، و«دنيا تانية» كما قالت فوزية. تحاول على هذا النحو أن لا يأخذ المغتصِب «أعز ما تملك»، ذاتها، مثلما يحاول المعذَّب أن يمنع الجلاد من احتلال داخله.
لكن الجلاد يريد امرأة بلا ذاتية، بلا حرية وقرار واختيار. الاغتصاب كمزيج من الإخضاع والجنس يستثير في مخيلة المغتصب فانتازم المرأة المملوكة، العبدة، التي لا ينتظر منها اعتراف. عبر اغتصاب امرأة في وضع يضمن له تفوقاً ساحقاً في القوة عليها يُداري المغتصب أوجه قلقه الجنسي، على ما تقول إيفا فوغلمان في البحث نفسه الذي تقدمت الإشارة إليه (ص 19)، فيقيس ذكورته ويطمئنُّ عليها، دون أن يخشى عدم اعتراف المغتصبة المحرومة من الكلام، ومن الحركة، وحتى من نظرات مزدرية. لا يستطيع تحمل امرأة لم تجرد من حريتها إلى هذا القدر، امرأة لم تفقد ذاتيتها. نحن حيال لا-علاقة هنا أيضاً، علاقة مضادة، تدميرية. اقتران قتل الرجال في تاريخ الإبادات باغتصاب النساء (سربرنتشا مثال حديث، وبعدها دارفور) يدفع إلى التفكير بالاغتصاب كضرب من القتل أو مُكمِّل له. الرجال يُعذّبون ويقتلون لأنهم منافسون على النساء ومن أجل الاستئثار بهن من قبل القتلة.
الاغتصاب فعل قوة أيضاً: إنه إظهار مَن المسيطر، وصاحب السلطة والكلمة، والنظرة، ومَن المسيطَر عليها والخاضعة، الصامتة المكسورة العين، مَن الفحل ومَن الجارية، مَن يحتل الجسد، ومَن تخرج منه لاجئة إلى «دنيا ثانية». حين يقول رابع مُغتصبي نور لخامسهم: كمِّل، ما بيأثر! بينما كانت هي تنزف بغزارة يُضمر أنه لا كيان لها، أن نزف دمها لا يحول بينه وبين انتهاك حدودها النازفة، أن حياتها بالكاد تلزم من أجل اغتصابها.
ومزيج السلطة والتملك يصنع علاقة سيادة/ عبودية: للسيد الحق في اغتصاب عبدته أو عبداته. الفرق بين السيد الأسدي والسيد الداعشي هو الفرق بين نظامين للعبودية الجنسية. فوق «لاهوت» للاغتصاب يُشرِعه بعبارة فالسياتوري، في نظام داعش تكون لكل سيد عبدة أو عبدات، يغتصبهن وقت يشاء، ويبيعهن حين يشاء، فيما العبودية الأسدية غير مقننة، وقد تبيح المرأة لخمسة مغتصبين أو أكثر مثلما جرى لنور، أو تقسم يوم الجلادين إلى قسمين: تعذيب في النهار واغتصاب في الليل، كما قالت مريم خليف في الفيلم.
لكن داعش أقامت سوقاً للسبايا من النساء الإيزيديات، أي للنخاسة الجنسية (وقتلت الرجال في سن الحرب، ما يشكل مثالاً مخبرياً للجينوسايد). وكان يحصل أن تُباع المرأة مرات في هذا السوق الذي نظم الدواعش أسعار النساء فيه. فيما اقتصرت أسواق الأسديين على منهوبات التعفيش، وإن ابتكرت لها اسماً إبادياً: سوق السنة.
والعلاقة هنا أيضاً ثلاثية أو رباعية. المغتصِب، المغتصَبة، وكالة الاغتصاب التي تريد ضمان ولاءٍ لا ينعكس من المغتصِب لها، ثم جماعة المغتصَبة ومجتمعها ككل، المراد احتلاله وتحطيم ذاتيته. مريم خليف تقول: «أنا وحيدة، أنا هون [في بلد مجاور لسورية، غير مسمى في الفيلم] ما لي حدا». بسبب الاغتصاب طلقها زوجها، وأمها «قلّعتها» (ربما لحمايتها، كما تُلمح هي ذاتها). العزل والوحدة، إن لم يكن القتل كما يبدو أن والد ألوى، وهي مغتصبة من درعا، هو المراد من قبل وكالة الاغتصاب. تسهل البطريركية التي تختزل ذاتية المرأة في جسدها عملها. ألوى العذراء تعرضت لقتل مضاعف حين اغتصبها الأسديون، وقتلها أبوها.
بعد وجهي السيادة، التملك والسيطرة، الاغتصاب ليس فعلاً جنسياً حتى في المقام الأخير. هذا جوهرياً فعل حميمي، قد لا يكون مُرضياً للمرأة، وللرجل، كما يشيع الحال في مجتمعاتنا في إطار الحياة الزوجية أو الغرامية، وقد تضطر المرأة إليه تحت إلحاح أو حتى إرغام الشريك، لكن الاغتصاب ليس مجرد إرغام على ممارسة الجنس، بل هو فعل استباحة، مجرد كُلياً من الحميمية، ويشيع أن تتعرض المغتصبة فيه لانتهاك متكرر من كثيرين. هذا جرى في البوسنة على يد الجيش والميليشيات الصربية، ومثلما جرى لنساء من التوتسي في رواندا على يد الجيش وميليشيا الأنتراهامفي المكونة من الهوتو، وفي دارفور على يد ميليشيات الجانجاويد العربية. هذه كلها أمثلة على الجينوسايد، يندرج ضمنها ما يجرى في السجون الأسدية، حسبما روت المغتصبات في الصرخة المخنوقة. الاغتصاب سلاح حرب شائع، عرفته حروب وعمليات إبادة أخرى، استُخدمت النساء فيه للجنس، كما لخدمة محاربين حطموا مجتمعاتهن وربما قتلو أسرهن. إباحة المغتصبة تتجاوز الإرغام الجنسي في وضع مُخيف لها، يتعداه إلى شراكة مغتصبين في انتهاك حدود المغتصبة واحتلالها. ويبدو أن هذا يخلق رابطة جمعية بين المغتصبين، ويضمن ولاءهم لبعضهم، بقدر ما هو يستهدف تحطيم مجتمع المُغتصبات.
يظهر التكوين الإبادي للاغتصاب في اغتصاب الرجال أكثر من النساء. هنا ليس ثمة اختبار لذكورته الشخصية يمارسها رجل في الشروط الأنسب له. تظهر الإبادة في صورة أشد عرياً عند اغتصاب الرجال بأدوات. وهناك رواية شخصية واحدة على الأقل عن ذلك (شهادة مازن حمادة)، ومشهدٌ مُصوّر لانتهاك ولد بالعصا أدرجه أسامة محمد في فيلم ماء الفضة. يظهر إعلان السلطة والملكية هنا عارياً، منفصلاً تماماً عن تمتع المغتصب الجنسي أو اختبار ذكورته. يمكن تصور تمتع المغتصب باغتصاب ولد أو رجل، لكن ليس هناك روايات شخصية في هذا الشأن، والمتاح منها يُحيل إلى التحطيم والقتل. ولا يحيل إلى غيرهما إجبار معتقلين على انتهاك بعضهم جنسياً. هذا المسلك الذي يتحدى الفهم كان مفتوحاً على الإبادة الفيزيائية للمعتقلين كما أظهر تقرير منظمة العفو الدولية، المسلخ البشري، عن سجن صيدنايا في شباط 2017. وما يقوله بريمو ليفي عن الحط من المعتقلين قبل قتلهم لتقليل شعور القتلة بالذنب قد يكون في مكانه هنا.
من حيث هو موجه نحو تدمير الجماعات، ومن حيث أنه تتعهده وكالة اغتصاب عامة هي الدولة، الاغتصاب فعل إبادة يندرج ضمن الجينوسايد. التعذيب الإبادي واغتصاب النساء وجهان متكاملان للإبادة من حيث أن قطع نسل المرأة المغتصبة، وهو ما يتواتر أن يترتب على الاغتصاب، يسهم، مع قتل الرجال، في تدمير الجماعة المعنية. الاغتصاب فعل قتل آجل، موجه نحو تعطيل فاعلية النساء الإنجابية، أي منع الجماعة من إعادة إنتاج ذاتها بيولوجياً.
سياسات الجسد
يجمع بين الحب والتعذيب والاغتصاب مركزية الجسد البشري. نحب بأجسادنا، ونتعرض للتعذيب لأن لنا أجساداً تتألم، ونقتل بأن تُحطم أجسادنا. وتنتهك أجسادنا في الاغتصاب الذي يمس مساساً خطيراً بقدرتنا على الحب، وعلى الجنس وعلى الإنجاب. وما قد نسميه الإبادة هو تحطيم جماعي للأجساد، يأخذ أشكالاً متنوعة تضاف إلى التعذيب والاغتصاب، منها الحصار والموت جوعاً، ومنها القصف بالغازات السامة والبراميل المتفجرة، ومنها عمليات الإعدام في السجون والمقرات الأمنية.
دولة التعذيب من الصنف الذي نعرفه في سورية منذ نصف قرن هي سلطة مباشرة على الأجساد، تنزع ملكيتها من أصحابها وتُبيحها لمديري وكالة «احتكار العنف الشرعي» التي لا تتطلع إلى غير البقاء في الحكم «إلى الأبد». في العربية علاقة اشتقاقية بين الأبد والإبادة، فلا يكون ذاك ممكناً دون هذه. سياسة الأبد، وأستعير التعبير من تيموثي سنايدر، هي الإبادة.
لم يُكتب التاريخ السياسي لأجساد السوريين، ولم يُفكر في معنى إباحة الأجساد على تلك الأنحاء المختلفة. يحدث أن يجري نقاش حول الحجاب، وما يسميه الإسلاميون «اللباس الشرعي»، في أشكاله التي تحجب شعر المرأة، أو وجهها وجسدها كله، وصولاً إلى منعها من الخروج من البيت. ولا يخفق أحد تقريباً في إيراد مفارقة أن النساء المدينيات في الجامعة والوظيفة والشارع كن سافرات الوجوه والأسماء، في خمسينات القرن العشرين وستيناته وبعض سبعيناته، فيما أكثرهن محجبات اليوم. وبينما يصعب ألا نرى الاقتران التاريخي بين تطور النزعات التعذيبية للدولة وبين حجب النساء في سورية (وعلى نطاق أوسع في «الشرق الأوسط») فإنه ليس هناك دراسات جدية تنظر في هذه العلاقة. وفي غيابها قد يمكن القول انطباعياً إنه لا يتحتم أن تكون العلاقة سببية ومباشرة بين الحجاب والتحكم العائلي بالجسد، الأنثوي بخاصة، وبين التعذيب والاغتصاب، إلا أن تزامن الأشكال المجنونة من التديُّن وحجب الأجساد مع الأشكال المجنونة من الحكم وانتهاك الأجساد لا جدال فيه. صار التحكم بجسد المرأة آخر حصون سلطة آباء وإخوة فقدوا السلطة على أنفسهم في الفضاءات العامة. التدين ضروري من أجل السيطرة على البنات (وعلى الزوجة والأبناء).
أكرر أن العلاقة قد لا تكون سببية ومباشرة، لكن لا يمكن إلا ملاحظة الاقتران بين التعذيب الإذلالي في ثمانينات القرن العشرين والحجاب الذي يغطي شعر المرأة، وبين التعذيب الإبادي في سنوات ما بعد 2011 واللباس الأسود الفضفاض الذي يحجب الشعر والوجه وجسم المرأة كله. هناك مقاومة في الحالين من النساء تعمل على تقليص مساحة الحجاب، لكنها تواجه عدوين لا واحداً: دولة التعذيب والاغتصاب، وإسلامية عدمية تسلطية. لا تغيب مقاومات متنوعة مع ذلك. مريم خليف وفوزية حسين تظهران باسميهما ووجهيهما رغم غطاء الرأس، لتقولا إنهما اغتصبتا ولترويا جوانب من القصة الموجعة. هذا مثال بطولي في المقاومة، جدير بأن يسجل ويُحتفى به في تاريخ كفاح النساء السوريات وعموم السوريين.
أياً يكن الأمر، فإنه من غير المتصور الخروج من أحد وجهي سياسة الجسد، التعذيب والحجاب، دون الخروج منهما معاً. تجاوز حدود الأجساد والمجتمع والإنسانية هو منهج حكم يرفض أن تكون له هو ذاته أي حدود. وضع حدود هنا، أي للدولة، ومنع تجاوز الحدود هناك، أي للأفراد والمجتمع والإنسانية، هو ما يعطي كفاح السوريين معناه ومداه. يجب أن نأمن على أجسادنا فلا نعذب ولا نغتصب، أن تصان كرامة أجسادنا، كي تستطيع من وجه آخر أن تخترق الحجاب وتنال الاعتراف العام. يجب ألا تكون أجسادنا مهددة بالتفتت كي تستطيع التصرف موحدة ويكون لها قرار. ويجب أن نستطيع الحداد كي نبقى مجتمعاً، ونتيح للماضي أن يمضي.
أن يصير لنا تاريخ ونخرج من الأبد.