«يرقدُ الطفلُ في ليلةٍ مُرصّعة بالنجوم، آمناً في وهجِ ضوءِ البطّ دونالد. كم هو غريب قرار انتزاع حياة. كم هو غريب قرار قتل طفل… هل ذلك بسبب الغضب أو الحسد، الربح أو الخسارة، أننا اخترنا قتل الطفل؟».

كانت هذه مقاطع من أغنية بعنوان To Kill the Child، أصدرها في العام 2004، المغنّي والموسيقي البريطاني الشهير روجر ووترز، بعد عامٍ على الغزو الأمريكي للعراق، مستنكراً فيها الحرب التي حصدت أرواح آلاف الأطفال.

على بعد كيلومتراتٍ ليست بالكثيرة من حدث العام 2003، عشرات آلاف الأطفال حُصدِت أراوحهم منذ العام 2011 إلى يومنا هذا، وما يزال الموت يُخيِّم فوق بلادهم. هذه البلاد هي سوريا، بعد أن حلّت فيها أصوات الحرب ومعاني الخوف، محلَّ موسيقى الـ Rock وكلمات أغاني Pink Floyd؛ الفرقة البريطانية الأيقونة التي كان ووترز أحد مؤسسيها قبل 53 عاماً.

في السابع من نيسان/أبريل الجاري، اقتربَ أحدُ الأطفال في مدينة دوما بغوطة دمشق من أمه، التصق بها وسألها بخوف: «أمي، هل تعتقدين أنهم سيلقون القنابل علينا؟ هل ينبغي عليّ بناء الجدار؟ أمي، هل أموت حقاً؟». ردّت الأم وهي تحاول طمأنة صغيرها: «اسكت يا حبيبي ولا تبكي! أمك ستبقيك هنا تحت جناحها. أمك لن تدعك تغادر، لكنها ستسمح لك بالغناء. أمك ستُبقيكَ دافئاً ومرتاحاً، وبالطبع ستساعدك في بناء الجدار».

لم يكن يعلم روجر ووترز (74 عاماً)، أنّ هذا «الجدار» كان موجوداً هناك بالفعل، حين سقطت قذائفُ أطلقتها قوات بشار الأسد، وحين أمطرت السماءُ صواريخَ ألقتها طائراتٌ روسية، فوق مدينة دوما. في تلك الليلة، لم يكن الجدار عامل أمان ولو بالحدّ الأدنى، بل كان عائقاً أمام النجاة والبحث عن الحياة. ماتت الأم وطفلها اختناقاً بين أربعة جدران. ماتا وهما يراقبان اللون الباهت للجدران الكئيبة، لون الموت بالغاز.

ووترز، الذي كان يبلغ من العمر خمسة أعوام فقط حين قُتِلَ والده في الحرب العالمية الثانية، ألّفَ أغنية Mother هذه وأطلقها ضمن ألبوم «الجدار» عام 1979. الأم والجدار، ثنائيتان أراد ووترز من خلالهما، نقلَ صورة ما عاشه في مرحلة مبكّرة من حياته. هذه المرحلة التي كان لها لاحقاً، دورٌ واضحٌ في مسيرته الطويلة، وتكوين مواقفه التي تجلّت في مناهضة الحروب، ودعم القضية الفلسطينية بشكلٍ لافت.

في العام 2009، أعلنَ ووترز أنه يُعارض سياسة إسرائيل في بنائها جدار العزل في الضفة الغربية. وفي العام التالي، أطلق أغنية بعنوان We Shall Overcome، احتجاجاً على حصار قطاع غزّة. ونشرَ ووترز في العام 2016 رسالةً أرفقها بتسجيلٍ مُصوّر، يُظهر إطلاق جندي إسرائيلي رصاصةً على رأس الفتى الفلسطيني عبد الفتاح الشريف (21 عاماً)، رغم أنه كان جسداً بلا حركة، على أرض مدينة الخليل. الرسالة تؤكّد على حقّ الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، وتستهزئ بالجيش الإسرائيلي: «فتى فلسطيني ينزف وهو مُلقى على الأرض. جريمته؟ لا نعرف بدقّة. ربّما مقاومة الاعتقال؟ أو مقاومة خمسين عاماً من الاحتلال؟ ربّما يكون قد هاجم المُحتلِّين المُدجّجين بالسلاح والمُدرّعات، بزوجٍ من المقصّات أو سكين المطبخ؟ نحن لا نعلم».

إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أواخر العام 2017 أنّ القدس عاصمةٌ لإسرائيل، كان دافعاً لروجر ووترز لاتخاذ ردّ فعلٍ وإصدار أغنية بعنوان Supremacy، التي كانت بالتعاون مع عازفي العود الفلسطينيين «الثلاثي جبران»، ومُستلهَمَةً عن كلماتٍ لمحمود درويش من قصيدته «خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض». وهذا الاقتباس عن قصيدةٍ للفلسطيني درويش لم يكن الأوّل من نوعه، إذ سبقَ لووترز أن حوّل قصيدة «انتظرها» إلى أغنية بعنوان Wait for her ضمن ألبومه الأخير: ?Is This the Life We Really Want.

قبل ذلك، كان لترامب نصيبٌ كبيرٌ من التقريع في جولات ووترز الغنائية حول العالم، وكثيراً ما وصفه بـ «الأحمق» وبـ «التمثيلية»، كما شبّهه بهتلر وهو يؤدي التحية النازية أمام البيت الأبيض، ويُحيط نفسه برجالٍ من حركات «KU KLUX KLAN) «KKK) التي تمثّل تيارات متطرّفة تُنادي بأهداف عنصرية، كسيادة الرجل الأبيض والقومية البيضاء.

في الثاني من نيسان/أبريل الجاري، وتزامناً مع «مسيرات العودة الكبرى» التي انطلقت في الثلاثين من آذار/مارس الماضي في قطاع غزّة المُحاصَر، نَشَرَ ووترز رسالةً تضامنية أكّد فيها على حقّ الفلسطينيين في العودة إلى أرض أجدادهم، كما استنكرَ قتلَ المُحتجّين من قِبل جنود الاحتلال الإسرائيلي: «إلى الفلسطينيين الشجعان في غزّة الذين يسيرون نحو الحرية، نحن معكم».

«نحن معكم»، كلمتان غابتا عن ذهن ووترز خلال السنوات السبعة الماضية من عمر الثورة السورية، وتحديداً في ليلة الـ 13 من نيسان/أبريل الجاري، حين كان يُحيي حفلاً في مدينة برشلونة ضمن جولته الأوروبية: Us and Them Tour. «نحن معكم»، لم يقلها صاحب الغيتار الأسود بعد أن شاهدَ كل هذا الموت الذي حصل، والدمار الذي وقع، والتدخّلات الدولية التي وقفت بوجه السوريين الذين أرادوا اقتلاع دكتاتورٍ يحكم بلادهم. لم يرَ ووترز كل هذه الحقائق، وهو الذي لطالما عارض الطبقات الحاكمة وسياساتها، وهو مَن أسقطَ رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل على ألبوم Animals الذي صدر في العام 1977.

في ليلة الـ 13 من نيسان، وقبل ساعاتٍ على بدء وانتهاء المسرحية الهزلية التي تمثّلت باستهداف التحالف الأمريكي-البريطاني-الفرنسي عدداً من المواقع العسكرية للنظام في سوريا، أرادَ شخصٌ يُدعى باسكال، توجيه رسالةٍ من خلال حفل ووترز، عن الهجوم الكيميائي الذي استهدف دوما في ليلة السابع من الشهر ذاته. رَدُّ ووترز، كان صفعةً من العيار الثقيل، فَتَحَت تساؤلاتٍ حول مسيرة نصف قرن من الموسيقى والمواقف التي تناهض الحروب والسّاسَة وتدعم حقوق الشعوب في تقرير مصيرها: «هو (باسكال) يُمثّل رأياً واحداً، وأنا شخصياً أعتقد أنه مُخطِئ تماماً. أعتقد أنّ منظمة الخوذات البيضاء التي يدّعي (باسكال) تمثيلها ودعمها، هي منظمة وهمية موجودة فقط لخلق الدعاية للجهاديين والإرهابيين».

اختزالُ ووترز للحقيقة بهذا الشكل، أو كما يحبّ أن يراها، يجعله في صفّ مَن قتلوا السوريين وحاصروهم ودمّروا منازلهم وتعمّدوا تجويعهم وإذلالهم لسبع سنوات، وهم أنفسهم مَن روّجوا الأكاذيب منذ الـ 15 من آذار/مارس لعام 2011 بأنّ الثورة السورية ليست سوى جهاديين وتكفيريين يريدون إقامة خلافة إسلامية.

تعرّضَ الدفاع المدني السوري، المعروف عالمياً باسم أصحاب الخوذات البيضاء، منذ تأسيسه في مناطق المعارضة عام 2013، إلى حملات تشويه وموجات متكرّرة من الأخبار الكاذبة، بهدف ابعاده عن طابعه المدني والإغاثي الذي يقتصر على إنقاذ أرواح المدنيين وانتشالهم من تحت الأنقاض إثر عمليات القصف. ترشّحت المنظمة في العام 2016 إلى جائزة نوبل للسلام، ونال فيلم يحمل اسمها جائزة «أوسكار» عن فئة أفضل فيلم وثائقي قصير للعام 2017.

ولأن روجر ووترز يعرف أننا «نعيش في عالمٍ باتت فيه البروباغاندا تحظى باهتمامٍ أكبر من حقيقة ما يحدث بالفعل على أرض الواقع»، كان الأجدر به في تلك الليلة أن يحترم مَن قضَوا اختناقاً، وأن يطالب العالم بالتدخّل لوقف هذه المحرقة، لا أن يقف على الجانب الآخر من «الجدار» الذي يمنع السوريين من تحقيق أحلامهم: «إذا كان علينا الاستماع إلى فبركات الخوذات البيضاء وغيرها، فإننا سنحثّ حكوماتنا على البدء بإلقاء القنابل فوق الناس في سوريا. سيكون هذا خطأ له أبعاد خطيرة بالنسبة لنا كبشر»، هكذا استكملَ ووترز خطابه.

لنا أن نتخيّل أنّ والد روجر ووترز لم يُقتَل في الحرب العالمية الثانية. لنا أن نتخيّل أنّ إسرائيل لم تكن في فلسطين. لنا أن نتخيّل أنّ جورج أورويل لم يكتب مزرعة الحيوان. لنا أن نتخيّل أنّ باسكال لم يطلب من ووترز التحدّث أمام جمهوره في تلك الليلة. لنا أن نتخيّل أنّ سوريا هي «الجانب المُظلِم للقمر». لنا أن نتخيّل أنّ الجدران في دوما تستطيع الكلام. لكن، ماذا لو أنّ الأم وطفلها بقيا على قيد الحياة في ليلة السابع من نيسان؟