يبدأُ العرض المسرحي للمخرج الفرنسي جيروم بيل: على العرض أن يستمر
في هذا العرض، الذي يُعادُ تقديمه عدة مرات على مسرح الفولكس بونه في برلين خلال الموسم الحاليّ، يوسِّعُ جيروم بيل ضمن الإظلام الأول مُخيلَّة المُتفرِّج وتوقعاته حول كيفية بدء العرض، ثم يدخل الممثلون، أو بالأحرى المؤدون، ليملأوا فضاء الخشبة التي تتكلَّلُ بعدها بالضوء والحركة والموسيقى، لتصبح حركات أجسادهم وتعابير وجوههم خلفيةً للموسيقى وأدواتها التعبيرية. تنتقل الموسيقى من مستوىً إلى آخر، ليصبح كلُّ شيءٍ احتفالياً فيها، ويكون الرقص وردود الفعل الجسدية، متناسبةً مع ذهنية الأغاني ومعانيها.
كان اسمُ جيروم بيل قد لمعَ بعد ترشّحه عام 2001 عن هذا العرض لجائزة باسيز في نيويورك، ويعدُّ هذا العرض الذي تم تقديمه للمرة الأولى في العام 2001 نفسه، من أنضج أعماله، وهو يمتحن من خلاله العلاقة بين الفن والحياة، وبين الممثل والجمهور.
يلامسُ جيروم بيل المشاهدين بطرق صادقة وبكلمات أقل وحركة أكثر، من خلال عروضه بسيطة المشهد فقيرة السينوغرافيا، ويتعمّدُ تحريض ذكرياتهم. وعلى خشبة مسرح ضخمة، كما في مسرح الفولكس بونه في برلين، يختصر جيروم بيل كل شيء، فالسينوغرافيا هنا عالمٌ آخر. حركة الأجساد وهزّ ستائر المسرح والتلويح بقمصان الممثلين، مع حفرة في أرضية المسرح يصدر منها ضوء أصفر أحياناً، ومع ضوء أحمر على كامل الخشبة، أو أحياناً أضواء نادٍ ليلي. هذه كلها عناصر وتفاصيل تدلّ على أن السينوغرافيا جزءٌ من المفهوم العام، وجزءٌ من مفاهيم التبسيط والتقليل الذي يتبناها المخرج.
يستحضر جيروم بيل عبر ما يقدمه بشكل عام الوقائعَ السياسية في أوروبا، من خلال ما يسمى علمنة المسرح، وتوجيه الأنظار إلى أن مسرحهُ قائمٌ على تعددية ثقافية، هو ذاته يحاول تسجيلها وتوثيقها. أناسٌ بألوان بشرة مختلفة ومن أعراق مختلفة، هم من يشكلون أسس مسرح جيروم بيل.
لا يخلق بيل فجوة بينه وبين الجمهور، بل يحاول التقرب من المشاهد والنظر المباشر إليه، عبر التواصل بالعيون، التحدث، والمخاطبة المباشرة. كل شيء مكشوف، فيدركُ المتفرج حينها بسرعة أن المؤدين هم في الحقيقة أناس عاديون، اختارهم المخرج من بين من قابلهم في حياته اليومية، أو ربما في بناء المسرح. بل ويتعمّدُ بيل التنبيه إلى ضرورة مَسرَحَة وتسجيل الواقع المعاش بكل تفاصيله، من العمل مع ذوي الاحتياجات الخاصة مثلاً كما في عرض ديسأيبل ثياتر، أو مع نساء من جنسيات وخلفيات مهنية وثقافية مختلفة كما في عرضه غالا. والغاية هي تجسيد وصياغة فَنَّيّ الرقص والتمثيل عبر جميع البشر، وبكل فئاتهم.
جيروم بيل من مواليد العام 1964، درسَ فن الرقص بين عامي 1984 و1985 في المركز الوطني للفنون المعاصرة في باريس، وكان هو نفسه راقصاً في عدد من فرق الرقص المعاصر في فرنسا وإيطاليا، وبعدها شارك كمساعد في تصميم وتنفيذ رقصات لمهرجان افتتاح الألعاب الشتوية عام 1991 في مدينة ألبرتفيل الفرنسية. وهو يعدُّ من ممثلي الرقص المفاهيمي، ومن خلاله يقوم بتأسيس الشكل الفني لمسرحياته، التي تبدأ دائماً بسؤالين اثنين: كيف تصنع فنّاً أدائياً؟ وما هو الهدف من المسرح؟
من الأشكال الأبسط يبدأ بيل رحلة بحثه، وينتهي بالأشكال الأبسط أيضاً.
من الناحية النظرية، تنبع أفكار بيل الأساسية من موقعٍ متأثرٍ بخطاب التفكيكيين وما بعد البنيويين، وبناءً على ذلك، فإنه يتقاطع مع الفلاسفة الفرنسيين المتأخرين أو ما بعد الحداثيين، مثل: جاي ديبورد، رولاند بارت، جاك دريدا، ميشيل فوكو. ويتجسد إلهامُ رولاند بارت، مثالاً لا حصراً، في أعمال بيل، من خلال معارضة الأخير لما يسمى «مسرح التمثيل»، الذي يتم فيه استبدالُ التجارب الحقيقية بممثلين، مما يخلق عالماً فانتازياً بعيداً عن الواقع، وهو ما يتجسَّدُ حقيقةً في عرضه الأول، الاسم الذي قدّمه المؤلف
من خلال هذين العرضين يكوّن بيل علاقة مميزة بين الجسد واللغة والعناصر، كالإكسسوارات والأزياء وما إلى هنالك، وفي كليهما يعملُ على تقويض الأدوار التقليدية لفنان الأداء على خشبة المسرح أمام المتفرج. يتعامل جيروم بيل في مسرحياته وعروضه مع الرقص كحالة فلسفية تتمركز ضمن النفس البشرية، ومن خلالها تُطرَحُ مسائل سياسية وأخلاقية أيضاً، مع تضمينها حالةً من المتعة المُسلّيّة إذا صحّ القول، عبر تكريس فنّ الرقص بوصفه حالة صافية ومؤثرة تتشابه مع الموسيقى، من خلال معادلة (رقص-موسيقى) (موسيقى-رقص)، ما يعني أن الرقص هو جزءٌ من الجميع، جميع البشر بكل ما تحمله هذه الكلمة من اختلافات وتصنيفات. ويشكِّلُ البحث لاكتشاف العلاقة بين المشاهد والمؤدي أكثرَ اللحظات عمقاً في عروض جيروم بيل، التي هي في عمقها احتفالٌ بعلاقاتنا مع الموسيقى والرقص؛ الرقص كحالة اجتماعية، الرقص كحالة تعبيرية، وكنشوةٍ قُصوى نكتشف فيها أسرارنا بتحريك أجسادنا.