نهاية العام 2015، قررتُ بعد تفكيرٍ طويل أن الأوان قد حان لأخرج من مدينتي، من دوما في الغوطة الشرقية، التي كان قد مضى على حصارها أكثر من عامين آنذاك. كنتُ أجالسُ نفسي في تلك الفترة، وأكرر التفكير فيما دفعني لترك جامعتي وأهلي والتوجه إلى منطقة محاصرة تعيش ظروفاً سيئة، وما كان يدفعني وقتها لاتخاذ قرار ترك المدينة والرحيل المحفوف بالمخاطر والحافل بالحزن على فراق أخي الأصغر، الباقي فيها؛ أخي الذي أصيب مرات عديدة خلال الثورة، وأخوتي من غير أب وأم، الذين تقاسمت وإياهم العيش الضنك والأيام السوداء، والأحلام بالأطعمة اللذيذة والسجائر الوفيرة والنساء الجميلات خارج المنطقة المحاصرة.

في طريق خروجي من دوما باتجاه عربين، نظرتُ إلى شوارع المدينة وأنا متأكد أنني أراها للمرّة الأخيرة. ذهبتُ إلى بيتنا علّي أُسلِّمُ على جدرانه، علَّ الجدران تَذكُرُني… لِم لا تذكُرُني بعد أن حَضَرَت شجاراتي مع أخي لسنوات، وحَضَرَت سهراتي مع أمي وأبي. تلمّستُ ماكينة الخياطة الخاصة بأمي، التي اعتدتُ اللعب فيها وسماع صوت أمي من بعيد تصرخ «اتركها هلأ بتنتزع». تركتِها يا أمي تركتها… تركتِها وليتني اليوم أستطيع اللعب بها، فأخيط كفناً لأطفال ماتوا خنقاً وهم نيام.

يُذَكِّرُني صديقي محمد دوماً بطرفة متداولة بيننا، حيث كنت دائماً أحذر أصدقائي من قطف آخر ليمونة في شجرة بيتنا لأني أعلم أنه لن يكون هناك ثمار جدد في الموسم القادم إن قُطفت، وأسأل نفسي: ترى هل سقطت آخر حبة ليمون؟ هل ستحمل ليمونة بيتنا العام القادم؟ وإن كانت ستحمل فمن سيأكل ثمارها؟!

مع بدء الثورة، شكلّت لي المدينة مساحة جيدة للتعبير عن النفس، وبدأت أشعر أنني أنتمي لهؤلاء الناس البسطاء الأوفياء، أسترقُ النظر في وجوه ناسها كلما خرجتُ بمظاهرة في شوارعها وأراهم يهتفون للمدن الأخرى، وأرى الغضب في عيونهم على شهداء درعا وحمص. ومع كل إضراب لأجل من راحوا، أرى نفسي معتزاً وفخوراً بأنني أنتمي لهذه المدينة. أتساءل اليوم: هل يا ترى يشعر الجميع بما أشعر؟ أم وحدنا من نحب مدينتنا ويرقص قلبنا حين يُذكَرُ اسمها في أي نشرة إخبارية وأي محفل؟

بقيتُ في دوما سنتين من سنوات الحصار، اعتدتُ خلالها أن أتجوَّلَ خلال ساعات المساء في الشوارع والأزقة. كنتُ أودُّ لو أسمع أصواتاً من داخل البيوت، إذ تراودني رغبة كبيرة في فهم كيف يفكر الناس، وكيف يقضون أيامهم، وكيف ينجحون في تأمين لقمة عيشهم في ظل هذا الغلاء. ودعوني أعترف أن أحد أسباب خروجي من المنطقة المحاصرة كان لأني كنت أعمل في إحدى مؤسسات المجتمع المدني وأتقاضى لهذا العمل مرتباً شهرياً جيداً كان يجعل الحصار أقل وطأة عليَّ، لكنني كنت ألوم نفسي «لم أنا وليس هم من يتقاضى هذا الأجر؟»، أو بالأحرى «لِمَ أذهب لأشتري كيلو من السكر وأخبأه في كيس أسود، وأنسلُّ إلى منزلي كاللص؟».

نعم، شعور عارم بأني لص سيطر عليّ في تلك المرحلة، جعلني أفكر أنني لا أشبه المحاصرين. وأنا الذي كنتُ أفكرُ مليّاً بأنني أقوم بما أؤمن به وما هو واجبٌ عليّ، وسأظل أذكر هذه الثورة بكل حسنٍ، وأعتبرها أفضل ما حصل في حياتي، بل هي حياتي، فأنا اليوم لا أذكر ما كنتُ عليه قبل اندلاعها..أذكرُ أنني كنتُ شخصاً ضحلاً بلا تجربة وخبرة في الحياة.

أما السبب الآخر لرحيلي فكان جيش الإسلام.

فبعد اختطاف كادر مركز توثيق الانتهاكات بمدينة دوما، أقصد رزان ووائل وسميرة وناظم، وبسبب علاقتي الجيدة بهم وعملنا في المكتب نفسه، بدأتُ أخشى أن ينالني المصير ذاته. لم أكن أخاف على سلامتي الشخصية، المهددة يومياً بالقذائف والصواريخ، بل كنت أخاف على نفسي مما بعد هذا الاعتقال… خفتُ أن أخرج رجلاً حانقاً على هذه الثورة، وخشيتُ أن أخرج وأنا أنعتُ أهل دوما بأنهم شبيحة متأسلمون يعتقلون الناشطين المدنيين. خفتُ أن أخسر محبة هذه المدينة ففضلتُ الخروج والعمل من خارج البلد، لأموت مع أهلها وأختنق بالكلور المُلقى عليها، وأُهجّر اليوم مع أهلها، لتطوى صفحة مدينة مثيرة للإعجاب بسلميتها وعملها المدني، بتنوع أهلها ، بحلوها ومرها.

واليوم يُطلَبُ منّا، نحن الذين عشنا كل لحظة، وسمعنا أول صرخة حرية في باحة مسجدها الكبير في الخامس والعشرين من آذار عام 2011، وأكلنا علف حيواناتها من شدة الجوع ونقص الغذاء، وتوسعت حدقات عيوننا من عتم ليلها نتيجة انعدام الكهرباء فيها، أن نكون «طبيعيين»، وأن نتجاوز ما مضى لصالح المستقبل، أي مستقبل وقد تركنا أرواحنا تجول شوارعها وتسقي قبور أحبابنا وتظل تسأل عن معتقلينا.

عسى أنَّ من سيأكلُ من ليمونتنا في السنين القادمة سيتذوق فيها مرارة السنين الماضية، وتملأُ حكاياتُ الجدّاتِ العالمَ عن أن سكان هذه المدينة حاولوا، فأخطأوا وأصابوا، وفي أحد الأيام رحلوا ليكتمل «انتصار» السفاح علينا.  

يبقى اليوم ما بقي من المدينة، وهم أهلي وأصحابي. شعرتُ بالفرح الكبير بسلامتهم بعد وصولهم الشمال السوري، فهم الشاهدون على ما حصل. إن فكرة النجاة بحدّ ذاتها مذهلة، وهي، طبعاً،  انتصارٌ على هذا السواد القاتم الذي يغطي عالمنا.

سيسردُ هؤلاء الناجون القصص والحكايا عمّا حصل .

وكأنه من المرسوم والمحتوم أن تكون النهاية على هذا الشكل، فقد اشتهرت المدينة في فترة المظاهرات السلمية بلافتة بخط اليد مكتوب عليها : «من رآى ليس كمن سمع». وها هو لسان حال المهجّرين قسراً منها يحكي الحكايا نفسها، عن أن ما شاهدتموه عبر شاشات حواسيبكم وهواتفكم لا يشكل إلا جزءاً صغيراً من الحقيقة، فنحن لم نرَ الوجوه المتعبة، ولن نرى الدموع تنهمر على وداع الأحبة والأماكن.

وسيبقون هُم الحكاية.